2011/02/21

زمن يحتضر .. زمن يولد

تنشط التحليلات السياسية و يدلي الكل بدلوه ، في حوار غير مسبوق، بعد أن انطلق تسونامي الثورة و التغيير بشكل جارف لم تنفع معه كل سدود العالم القديم التي لا تصمد كثيرا حتى تبدأ بالانهيار ، ليجتاح النظام الرسمي العربي ، حيث ابتدأ العقل الجماهيري الجمعي يتشكل بممارسة عملية نقدية اتجاه النظام القديم المتآكل و المتقيح . و حتما انه سيجد تعبيراته الفكرية و القيمية و التنظيمية مع الحراك السريع المتجدد كما هو منطق التاريخ.

ابتدءا علينا أن نؤكد أن الآم الولادة والمخاض ليست سهلة بل عسيرة، في حالة التغييرات الكبرى ، و أن قوى المجتمع القديم لن تخلي الساحة بسهولة. كما ان الكثير من جهات الهيمنة الخارجية دولية و إقليمية ستحاول التسلل لاستثمار ما يجري و حرفه عن أفقه و بذلك نغلق الجدل غير المفيد الذي يحاول نقل اتجاهات الصراع من وقائعه الحقيقية إلى وهم حقائق افتراضية تحرف الأذهان و الأفعال إلى مسارب أخرى.

بعد أن فشلت الأنظمة التقليدية القروسطية ، و كذلك أنظمة العسكر المتداخلة مع أحزاب و أنماط تفكير و سلوك اقرب إلى النمط الفاشستي التي قادت ما سمي بحركات التحرر الوطني التي فشلت في بناء اقتصاد متطور يخرج بلداننا من حالة التبعية الاقتصادية –السياسية للمراكز الرأسمالية المتطورة ليتحول حكامها إلى حكام فاشست يحكمون مدى الحياة. بعد إن فشلت كل هذه الأنظمة ساد التخلف و الفقر و نهبت ثروات هذه البلدان بين طبقات طفيلية محلية و نهب خارجي منظم ، علما إن ثروات هذه البلدان ، الطبيعية و البشرية الهائلة تجعل من هذه الدول في مصاف الدول الكبرى المتقدمة. لو كان هنالك أنظمة وطنية ديمقراطية حداثوية .

بعد كل هذا الإذلال و الجوع و القمع و تحول الكثير من القادة و الأحزاب و الحكام إلى أنصاف آلهة و عصابات سياسية مافيوية انتفضت الجماهير لتثأر و لتكنس أسباب و مسببي بؤسها بعد أن كسر الشعب التونسي حاجز الخوف و كشف هزال و كارتونية هذه الأنظمة و عجزها لتفوح الرائحة النتنة لفضائحها لتتحول هذه الانتفاضات إلى ثورات كبرى .(و هذا ما يبدوا جلياً في حالة ثورة مصر حيث اصطدمت مبكراً برأس النظام لتطيح به و لم تهدأ مطالباتها بعد ذلك إلا بإسقاط النظام بكل رموزه و مؤسساته).

ومن خلال ثورتي تونس و مصر ترى أن الزمن الجديد قد ابتدأت ملامحه ترتسم كثورة جماهيرية سلمية متحضرة تربط بين قيم المواطنة و الحداثة و الحرية و العدالة الاجتماعية ورفض القائد الضرورة أو الأحزاب الضرورة لتقطع صلاتها بقيم النظام القديم الزائفة عن الأبطال المنقذين . لقد استطاعت هاتان الثورتان عزل و تطويق كل أساليب الأنظمة الانحطاطية و أعمال (البلطجة) و التخريب ليحموا المؤسسات و المدن و الأحياء من شرور تخريب الأنظمة و الفئات المنحطة .الطبقة السائدة بكل قيمها التخريبية تقابلها قيم الثورة بمحافظتها على مصالح و أمن الشعب و لا بأس أن تذكر حماية المتحف المصري من قبل المحتجين . الدرس المهم الذي أفرزته الثورتان هو و حده الهدف و الشعارات مما و حد الجماهير و وحد احتجاجاتهم لتثمر و تحقق النصر و لم تسمح للفئويين و أصحاب الأجندات المختلفة من ركوب موجة الثورة بل حجمتهم و جعلتهم مصدر قوة للثورة لا مصدر ضعف و بذلك قطعت الطريق على الاختلافات الضارة التي قد تمزق الثورة .

لقد كانت الشعارات واضحة و محددة، الحرية و الكرامة و العمل و العدالة الاجتماعية، و بذلك اصطدمت بالجوهر ، بأنظمة الطبقات الكومبرادورية الطفيلية و مشاريع اللبرالية الجديدة التي تسعى إلى إطلاق قوى السوق العمياء و خلق طبقات حاكمة من سراق المال العام و وكلاء الشركات الأجنبية الذين يسعون إلى الثراء الفاحش السريع على حساب الشعب الذي يعيش في فقر مدقع و كبت للحريات و إلغاء لوجود الإنسان و حقوقه مقابل توفير الشروط اللازمة لنهب ثروات الشعوب و إعادة تدوير رأس المال ليصب في جيوب الاحتكارات الكبرى للدول المهيمنة.

بعد النجاح الذي حققته ثورتا تونس و مصر و اندلاع الثورة في العديد من دول المنطقة تحاول القوى الحاكمة المحلية و قوى مراكز الهيمنة العالمية أن تقطع الطريق على انتشار هذه الثورات بمحاولات مشبوهة لدمج أساليب الفوضى الخلاقة بأساليب الثورة الخلاقة لتخريبها و خلق الأجواء للقوى الفاشية و الظلامية لتصدر هذه الثورات و تخريبها و أقامت حكومات استبدادية فاشية بتغليب قوى الفوضى الخلاقة على قوى الثورة الخلاقة لخلط الأوراق من جديد.

يشهد العراق، كغيره من الشعوب المضطهدة ، احتجاجات جماهيرية واسعة حيث يبدو المشهد العراقي أكثر تعقيدا و خطورة لوجود الهيمنة الأجنبية المباشرة – الاحتلال – إضافة إلى وضع سياسي و اجتماعي و اقتصادي و امني هش تخترقه التدخلات الخارجية ، و كذلك هيمنة طبقة سياسية فاشلة تتصارع على النفوذ و المغانم مما يتطلب الانتباه الشديد للأجندات الخارجية و الداخلية المشبوهة التي لا تخدم المصالح العراقية و الحذر من استغلال البعض من أطراف هذه الطبقة السياسية لتجيير هذه الاحتجاجات لمصالحها الحزبية الضيقة.

2011/02/15

مقامة الأمير الشامي ونخيل البصرة

حدثنا الحكيم هلكان السومري العراقي ، بعد اكتمال نصاب جلسة المقامة السومرية ، قائلا : حدثنا القاضي ابن عبد ربة الأندلسي عن حكاية الأمير  الشامي . قال : إنه بعث أمير من السلالة الحاكمة في الشام ليكون واليا على البصرة .

وقد تربى هذا الأمير وعاش في أجواء الشام المعتدلة وقصورها الغناء عيشة الترف والدلال ، فكان أن أزعجه جو البصرة الحار وعكرت مزاجه رطوبة البحر . فاستدعى ذوي العلم ليسألهم عن السر في ذلك فأجابوه بضرورة هذه الحرارة لإنضاج البلح ، فما كان من الأمير الجهبذ إلا إيجاد الحل السديد فاصدر أمره الفريد بقطع نخيل البصرة عسى أن يذهب الحر وتنطفئ اللوعة والحسرة .
    ويبدوا إن هذا الأمير الضرورة قد سن سنة سيئة ، عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، قد سار عليها الكثير من حكام بلاد الرافدين وشعبها وصارت قاعدة محكمة يستنبطون منها وعلى ضوئها حلولا لكل الأمور فاستن منها قانون لا يمكن نقضه إذا اعترض على نقضه ثلاث نفرات مفاده قطع القدم لتلاءم الحذاء أو قطع رأس العروس لتمر من الباب . وفي الوقت الذي روي لنا والعهدة على الراوي إن بعض العلماء المجانين يحاولون اختراع يوصل الكهرباء إلى المستهلك بدون واسطة من أسلاك وملحقاتها ، يقترح علينا بعض ذوي الشأن والفراسة استخدام ( المهفات اليدوية ) لما في ذلك من حفاظ على تراثنا وأصالتنا وضرورة مخالفة الكفار في كل شيء ، وحتى لا تلحق ( المهفة اليدوية ) التي تراجعت أمام التكنولوجيا الكهربائية أخواتها من آثار سومر وسائر حضارات وادي الرافدين التي نهبتها عصابات سرقة التاريخ والآثار . ويذكرنا أصحاب هذا الاقتراح إن أجدادنا الفاتحين العظام قد فتحوا العالم في وقت الحر الشديد وهم يحملون هذا الاختراع العجيب ولم يشكوا أبدا من الحر كما تشكون الآن وتتظاهرون . لقد صرتم تفكرون بالكهرباء والأدوية والماء الصالح للشرب والعطالة البطالة والمصانع العطلة والزراعة المهملة وغيرها من سفاسف الأمور وتركتم الهدف العظيم للتغيير وهو استكمال بناء الديمقراطية الفدرالية وإنجاح العملية السياسية ، شفاها الله من إسقامها ، وهي من عظائم الأمور . فإذا تركتم هذا الأمر الخطير فبم تباهون الأمم ؟!
    كما ألقى بعضهم اللوم على الشعب الذي يتجاوز على بعضه البعض ولا يأخذ بالحسبان حسابات الكي في والواط والميگا والأمبير بنظر الاعتبار . وهم لا يكتفون بمبردة واحدة في البيت أو مصباح واحد ترشيدا للاستهلاك متناسين إن الظلمة ( الهندس ) وما توفره من جو شاعري ، وانتظار ضوء القمر مما يدعوا المفكرين إلى التأمل والعشاق إلى اللقاء وبذلك يتطور الأدب والفن عندنا ويحل الغزل والحب محل النهب والسلب . كما القت الحكومة اللوم على الحكومة وأخواتها من كتل واحزب بعد أن اكتشفت ، بعد خراب البصرة ، إنها المتجاوز الأكبر على القطع ( المدعثر ) فإن خطوط الطوارئ العلنية ( ومن تحت العباه ) تصل إلى بيوت الحكام والوجهاء والحبائب والنسائب فيقضمونها قضم الإبل نبتة الربيع ، مما جعل الشعب غير الصبور ، الجاهل بخفايا الأمور ، يحتج على الحكومة . ويقوم بإعمال شغب غير مفهومة ، مع الأسف الشديد ، متناسين إننا شعب حضاري فالقوا ببعض الحجارة على الزجاج متفهمين المثل الشعبي ( كوم حجار ولا هل جار ) بشكل خاطئ متأثرين بشعب كندا وأمثاله من الشعوب المتخلفة التي قامت بإعمال شغب أقلقت قادة العالم الصناعي حيث ( داخوا ) من هذه الإعمال فجاءت قراراتهم في قمة ( تورنتو ) هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع .
    وإننا إذ ننتقد الشعب المشاغب الذي اقلق الحكومة وزاد من ( دوختها ... همة عايزين ياعم ) واستنادا إلى إستراتيجية الأمير الشامي وحكمة الإقطاعي الذي قال للفلاح في القصة المعروفة : ( ابعد زرعك عن دوابي ) فإننا نقترح إبعاد الشعب العراقي إلى بلاد الاسكيمو وجوها المنعش في الصيف إلى أن تتشكل الحكومة في شباط القادم البارد جدا لعله يبرد أعصاب السياسيين ويضعون الحلول لمشاكل الشعب العراقي راجين ألا تكون حلولا على طريقة الإقطاعي العراقي أو على طريقة الأمير الشامي .

مقامة الشنگة وصورة الزعيم

حدثنا الحكيم السومري ، هلكان بن تعبان الملقب بالعراقي العريان عن صاحب فرن الصمون في محلة ( قهوة شكر ) البغدادية الأصيلة في الخمسينيات من القرن الماضي . قال : جاءني رجل ليشتري الصمون فنظر إلى ( الشنگة ) وهي قطعة من العجين تقطع لتكون صمونة خبز ، فقال : إن الشنگة اقل من الوزن المطلوب الذي وضعته الحكومة ، وإنها أخذت بالحسبان مصلحة البائع والمستهلك . فأجابه صاحب الفرن : ( هاذا هو عمي ) وهي جملة تعني إنهاء الموضوع وكان صاحب الفرن قد وضع في مكان بارز صورة كبيرة للزعيم عبد الكريم قاسم ، رئيس الوزراء آنذاك ، فقال الرجل بعد أن نظر إلى الصورة : ( لو تكبر الشنگة وتصغر الصورة ) وكان الرجل هو الزعيم صاحب الذكر الطيب واليد والذمة النظيفة عبد الكريم قاسم .

إن العراق ، بلاد الرافدين ، منذ الأزل هو رغيف الخبز المعطاء بثرواته العظيمة وخيره الوافر الذي يفيض على أهله لو وزعت خيراته بالعدل ولكنه ابتلي دوما بالطامعين من الغزاة وبالفئات الداخلية والحكومات المستأثرة على أهلها بكل شيء ولو كان بهم خصاصة . الشعب يعيش دوما البؤس والحرمان ويتعرض إلى الجور والطغيان فيما ينعم الحكام وذوي القربى منهم ، نسبا أو نفاقا ، بالعيش الرغيد والبأس الشديد ( على عينك يا تاجر ) .

لقد قيل قديما إن الظلم إذا دام دمر ، وإن الظلم يدمر الظالم والمظلوم معا ، فتتكون ظلامة جديدة ومظلومون جدد ينتظرون الفرصة للثأر والانتقام . وبذلك ستضل أحلام الناس في الكرامة والحرية والعيش الكريم مجرد سرابا وشعارات قد تؤدي إلى تفجير المجتمع .

إن البقاء في ثقافة الدائرة المغلقة ، حكاما ومحكومون ، تعني إن اللف عبد الكريم قاسم سيعدم ويخفى قبره . وإن الكادح عبيد الشطري ، بائع الدجاج المتنقل ، سيضل سنوات طويلة يصرخ وهو يجول في الأسواق ( قتلوه بوية .. الزعيم بوية .. وجهه بالقمر بوية ) . كذلك لن يستطيع الزعيم التجول أبدا وهو متنكر في أزقة و( درابين قهوة شكر ) ليتفقد أمور الناس ، ولن ( يوقع احد على قرار إعدامه ) كما وقع الزعيم قانون رقم ( 80 ) الذي مهد للعراقيين السيطرة على نفطهم منتزعا إياه من براثن الاحتكارات النفطية لتفيض خيراته على العراق وطنا وشعبا معامل ومدارس ومستشفيات ودورا للفقراء .

لقد كان الزعيم الراحل طيب أكثر من اللزوم حيث أن المطلوب هو إلغاء الصور وليس تصغيرها ، وإن كان الزعيم يعبر عن رفضه في ذلك للنفاق ، ولتكن الصورة الوحيدة المرفوعة هي صورة المواطن الإنسان التي تحتجب من اجل كرامته وحريته ورفاهة كل صورنا فالعدل أساس الملك وليس أي شيء آخر . لو حدث هذا لعادت بلاد الرافدين مهدا للحضارة ومركزا للإشعاع وسيعم خيرها على الجميع وعندها لن يجرأ أحد على إعدام الزعيم وإخفاء قبره مرة أخرى ، ولن يتأمل الكادح عبيد أبو الدجاج صورة الزعيم على سطح القمر .

ما الذي تبقى لكم ؟

البصرة ثغر العراق الدامي على مر عصور طويلة . ولأنها تمثل وتعني الكثير لبلاد وادي الرافدين ، العراق ، فهي مركز حضارته ونخيله ونفطه وبوابته على البحر . كما إنها عرفت بطيبة أهلها ووداعتهم وتسامحهم . لأنها كذلك فقد كانت وما تزال الأكثر تعرضا للموجات الهمجية والتخريب الذي تعرض له البلد .

منذ دمارها بعد ثورة الزنج مرورا بحروب الخليج المتعددة وهمجية المدمر الأمريكي – البريطاني ، مضافا إلى ذلك همجية العديد من الأنظمة الحاكمة اتجاه أهلها وبيئتها وثرواتها وحضارتها إنتهاءا بزمن ‘‘الدم .. قراطية ’’ فما يزال ثغر العراق داميا .

لقد صبر أهل البصرة الطيبون المتسامحون كثيرا وهم يذبحون من الوريد إلى الوريد بنار سرقة ثرواتهم وتاريخهم من طبقات اللصوص المختلفة ولسعات الحر والرطوبة القاسية التي لا ترحم وتسويف ولاة الأمر فانتفضوا ولسان حالهم يقول : احذروا صولة الكريم إذا ما حاولتم إذلاله .

كانت محاولات الإذلال متنوعة ، من الخارج والداخل ، شرقا وجنوبا يتعرضون إلى القتل أو الاعتقال أو الاهانة وهم يصطادون السمك في البحر ، وهي مهنة مقدسة لهم منذ حضارة سومر، ولا يوجد من يحميهم أو يدافع عنهم تجاه صلف الآخرين شأنهم شأن أبناء دول العالم ، إضافة إلى ما يقال عن نهب نفطهم بطرق مختلفة وتحويلهم إلى سوق مستهلكة لكل ما هو سيء من بضاعة دول الجوار وغيرها . أما ما يفعله ولاة الأمر وأثرياء الحروب والأزمات والمتنفذون منهم فحدث ولا حرج وهي أمور يعرفها العراقيون جيدا .

بعد كل هذا الضيم نفذ صبر أهل البصرة الكرام وخرجوا في انتفاضة الكهرباء بشكل سلمي وحضاري وأصولي فأطلق الرصاص عليهم . وعلى طريقة الطبقة السياسية العراقية السائدة ألان وثقافتها أخذ الكل يتهم الكل ولان دولتنا ينطبق عليها المثل الشعبي ( وشيعة وضايع راسه ) فسيكون البحث عن المسئول عما جرى كالبحث عن الإبرة في كومة القش . ومن غرائب الأمور أن يخرج علينا أحد البرلمانيين من الحاكمين في بغداد والبصرة ليطالب بفدرالية البصرة – منتزعا ثغر العراق الباسم من وجه أمه بلاد سومر – كحل للمشكلة مع المركز مستشهدا بتجربة إقليم كردستان ؟!

يبدو إن الكثير من ممثلي الطبقة السياسية عندا لا يقرؤون الإحداث والتاريخ كما يجب . فالسيد النائب لا يعرف إن المرجل الذي يغلي تحت رماد الشارع الكردستاني لا يختلف عنه في البصرة ، وإن الدعوة إلى إقليم البصرة لا يعني سوى زيادة الموارد لتزيد الكروش . الإقليم لم يحمي كردستان من الاعتداءات الخارجية والاستبداد الداخلي بل جعله واهنا . وإن الطبقة السياسية التي تحكم هي ذاتها سواء أكانت الوحدة الإدارية محافظة أم إقليم . إنهم يريدون إيهام الناس بعد تيئيسهم في إن الحل في التجزئة فكأنما الأزمة هي أزمة البصرة فقط وليست أزمة العراق . كما إنهم يتناسون التاريخ القريب جدا والذي كان الكثيرون منهم من ضحاياه وهو إن أجهزة القمع المتعددة لا تنفع أحدا إذا ما تخلى الشعب عنه .

ويبدو ألان إن التاريخ يعيد نفسه . إن من أنتفض اليوم هم أنفسهم من انتخبوكم بالأمس وعليكم أن تدركوا الدلالة الرمزية التي عبرت عنها شعارات التظاهرة والتابوت والكف الملطخة بالدم وقد قطع إصبعها البنفسجي .

لم يبقى من الديمقراطية شيء سوى اللهفة على التربع على كراسي الحكم ونيل ما يمكن من مغانمه بالصراع المرير والمستمر وليذهب الشعب ومعاناته إلى الجحيم . بذلك أصبحت الطبقة السياسية في واد والناس في واد آخر وهنا الخطر . بعد كل هذا ما الذي تبقى لكم ؟

هكذا قتل زردشت

لبينا جميعا دعوة الحكيم هلكان السومري لانعقاد جلسة المقامة الثانية للبرلمان الشعبي السومري في يومه وتاريخه . مرجعا أسباب ذلك الانعقاد لمناقشة حدثا جلل تهتز له العروش ، ويخشى تداعياته أصحاب الكروش وطلب أن يستبعد من حضورها ( اللوكية ) والهتافة والشتامة. وشدد على حضور أهل العقل والتدبير و( الحسجة ) الفهامة .

ما أن أستقر بنا المقام حتى أطل علينا الحكيم غاطا بالسواد . وقد اكتسحت ملامحه سيماء أهل المصائب والحداد . وما أن أخذ مكانه على منصة الرئاسة حتى وقف طالبا منا الوقوف دقيقة صمت على أرواح الشهداء الصحافة ، ثم أمر بتوزيع القهوة المرة والماء فقط. فستشعرنا هول المصاب ، ولما أعتدل في جلسته قال :-

هل سمعتم ، يا أهل بلاد الرافدين بخطف وقتل الصحفي سردشت عثمان الذي تجاوز العشرين ربيعا ؟ وهل فكرتم بحقيقة الأسباب ؟ صمتنا صمت أهل القبور فتأسف لصمتنا وتمثل بشعر النواب ( تتحرك دكة غسل الموتى أما أنتم فلا تهتز لكم قصبة ) ثم أكمل :-

لقد ذكرت التقارير الدولية ذات الاختصاص إن بلادنا هي الأشد خطورة على الصحفيين حيث قتل وأعتقل وضرب المئات ، وسلط على العديد منهم سيف المقاضاة كل ذلك يحدث وأنتم صامتون ، كأنكم بحاجة إلى تقارير دولية كيما تعرفون . شعرنا بالخجل ثم أجبنا بوجل :- إنه الإرهاب لعنه الله . هنا غضب الحكيم هلكان وقال :- يالله ويا للإرهاب ! ما زالت حكاية ( ابو طبر ) تعشعش في عقولكم أما سألتم أنفسكم أين ذهبت تحقيقات اللجان التي لم يعرف ما توصلت إليه عين إنس ولا أذن جان ؟

ياسادة يا كرام ، لا يوجد بلد خال من الفساد المالي والإداري وكل أنواع الفساد ، ومع هذا لم نسمع أن هناك أرواح قد أزهقت ودماء قد أسيلت ، إلا في بلد الديمقراطية التوافقية والشماعات الابتكارية .

هل سمعتم في أخبار من سلف وإنباء من خلف أن برلمانا أو مشرعا ، قد أصدر عفوا عاما عن ناهبي المال العام والقتلة وأشباههم في زمن تغوص فيه البلاد بالفساد والنهب والإرهاب ، كما فعل برلماننا المنصرف ؟ وهل هنالك بلد في مثل ظروفنا يجعل فيه الشهادة على المفسدين أصعب من الشهادة على الزنا فبدلا من أربع شهود تأتي بأكثر وعليك أن ترى بأم عينيك دخول المرود في المكحلة ؟

إذا كان الإسلام قد صعب وعقد أمر الشهادة على الزنا حفاظا على شرف الناس وسمعتهم فما الغاية من تصعيب الشهادة على المفسدين ؟

لو سألنا أي مواطن لقال إن الفساد والمفسدين كالهواء تجده في كل مكان ولا يحتاج إلى دليل، وبهذا فقد تحقق في الأمر ركنان أساسيان هما التواتر والإجماع . لماذا إذا كل تحوطات الأمان هذه والحرمة للفاسدين ولا حرمة للدم البريء المراق ؟ ولان تهدم الكعبة سبعون مرة أهون على الله من سفك دم إنسان بريء .

هنا تأوه هلكان وتمثل ببيت لأمرؤ القيس

ودع عنك نهبا صيح في حجراته وهات حديثا ما حديث الرواحل

هذا وما زالت جلسة المقامة السومرية مفتوحة .

ليس شتما سيدي النقيب

في أكثر من لقاء تلفزيوني مع السيد مؤيد اللامي ، نقيب الصحفيين العراقيين ، أثار انتباهي أسلوبه في الحوار ومنهجيته الثابتة والمكررة في تناول المواضيع . يغلب على أسلوبه التوتر ، فيضيق نفسا عندما يحاول أحد تناول شؤون وشجون النقابة والصحفيين أو يوجه لإدارته أو له النقد .

كثيرا ما يتهم منتقديه بالطارئين على الصحافة ، أو من الشتامين ، أو المغرضين الذين تدفعهم الأسباب الشخصية . وقد أجرى سيادته إحصاءا ، بأن هؤلاء بأصنافهم الثلاث ، لا يصلون إلى عشرة أشخاص ، والحمد لله . ونفهم من ذلك إن نسبة من معه من الصحفيين 99.9% . ورغم النسبة "الضئيلة" التي منحها للمعارضين ، إلا إنه لم يتحمل ( الكم واحد ) فقد جزئهم إلى ثلاثة أجزاء بعد أن أخرجهم من ملة الصحافة ، وبذلك رفع نسبة الموالاة إلى 100% ( عاشت الديمقراطية ! ) .

لو يسمح لي سيادته فأن هذا الأمر لا يحسب له بل يحسب عليه . فلا بد من وجود خلل فادح وحكاية جحا وولده وحماره بينت لنا إن إرضاء الناس غاية لا تدرك ، ناهيك عن بلدنا الذي انتشرت فيه الخلافات والاختلافات كانتشار الفطر في أوانه . لكن علينا أن نعترف إن السيد النقيب قد أمتلك العصا السحرية التي أستخدمها لعزل نقابته عن بيئتها ، وبذلك جنبها " نقمة الاختلاف " وجعلها صفا واحدا كالبنيان المرصوص رغما عن أنف الشتامين والطارئين والمغرضين .

حلا للمشكلة ، نقترح عليه – لإغراض البحث العلمي ـ أن يقوم بإحصاء عن نسبة المحبوسين بتهمة القذف في زمن النظام السابق ، ليتبين هل إن عددهم ضمن نسبة ال0.1% ممن لم يصوتوا تأييدا للسيد الرئيس ، وهم بالمناسبة من الشتامين أيضا ؟ وأذكره بأن من قال إن الأرض تدور حول الشمس كان واحدا مقابل سكان المعمورة آنذاك ، فليس كل أقلية على خطأ ، وكم من أقلية قد تحولت إلى أكثرية . وهنا نفتح قوسا معتبرين همسات " المغرضين " – وهم أكثر بكثير مما يتصور السيد النقيب - حول الكيفيات التي تمنح بها العضوية وغير ذلك من الأمور ، نتائج مهملة لا يأخذ بها ونسقطها من النص . بذلك نغلق القوس وإن قيل قديما لا دخان من غير نار .

ما أريد قوله أن ليس في نيتي التداخل مع أطروحات السيد النقيب ، ولست في معرض الخلاف أو الاتفاق معها وإنما اعتراضي على منهجه ، وليس على شخصه ، فثقافة البلد – الطابو ، والكرسي – الطابو، ونسبة ال99% ، والمسؤول المعصوم الذي يرى نقاطا سوداء في جبين الآخرين ولا يرى شيئا في جبينه قد اهترئت ومصيرها إلى الزوال ... ولو إلى حين .

خلاصة القول إن الصحافة وحرية الصحفيين في النقد هما ضمانة الديمقراطية ، فلا ديمقراطية من دون حرية الاختلاف ، ولا نقابة بنقيب يستفزه النقد فيرى الرأي الآخر شتما و ( حسد عيشة ) .

أخيرا – سيدي النقيب – إن ذلك ليس شتما ولا شخصنه .. بل إنه اعتراض على منهج واعتراض على سلوك .

الإشكال اللبناني

لا يذكر لبنان دون أن تتبادر إلى الذهن مفردات عديدة منها الحضارة والجمال والفينيقيون وفيروز وماجدة الرومي وطير الوروار ورئة الوطن العربي . تلك الرئة التي يتنفس منها الهاربون من جحيم دول القمع العربي فيقولون ما يشاؤون دون خوف من ‘‘زوار الليل’’ أو التعرض لحادث سيارة غير بريء أو أية وسيلة مبتكرة للموت لا تخفى على سكان السجن العربي الكبير . باختصار كان لبنان في وجه من الوجوه يعني الحرية .

من ناحية أخرى لبنان بلد ديمقراطية الطوائف المتحاصصة وإقطاع العوائل المتنفذة والتمييز وما أفرزته هذه التركيبة من أمراض داخلية وحرب أهلية ضروس طاحنة تركت الكثير من الضحايا والجراح التي ما أن تكاد أن تندمل حتى يراد لها أن تنكأ من جديد .

المشكل إن النظام العربي قد نقل صراعه وأدواته المتنوعة وخاض صراعاته المسلحة وغير ذلك على ارض لبنان , ناهيك عن التدخل الإقليمي والدولي ليوقعنا في حيص بيص حتى صار من الصعوبة بمكان الفرز والتصنيف .

الإشكال اللبناني معقد حيث أن معظم القوى المتصارعة تمتلك منطقا مقنعا , في بعض ما هو معلن على الأقل , وربما كان هذا سببا للاستقطاب الحاد بين معسكرين وانقسام الشعب اللبناني بينهما .

تطرح الموالاة بسط سلطة الدولة على الجميع والاستقلال وتصفية ما أسمته النظام الأمني السوري . بسط سلطة الدولة والاستقلال شيئان لا جدال فيهما وهما مقومان أساسيان لعنوان الدولة . وتطرح المعارضة رفضها لنظام أفقر وجوع الشعب متهمة الموالاة بالاندراج في مشروع أمريكي إسرائيلي يخطط لضرب المقاومة التي حررت الجنوب وهزمت إسرائيل للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي . ورفض تحكم ما سمي بالأغلبية التي همشت أغلبية الشعب اللبناني وهذا منطق مقنع أيضا .

كما إن في منطق كلا طرفي الصراع شيء خاطئ . لا يمكن لدولة لا تمتلك إمكانية حقيقية للدفاع عن نفسها أن تضعف عنصر قوتها الاستراتيجي وهو المقاومة , وتصر على الاحتفاظ بنظام امتيازات يحفظ مصالح الإقطاع السياسي اللبناني وانفراد وليغارشية بالثروة والسلطة مع إفقار الملايين . كما انه لا يمكن للمعارضة أن تصادر حقوق الآخرين والتصرف بالنيابة عنهم حيث لا يمكن أن تقاد الناس إلى جنة المقاومة رغم انفهم . ادلجة المقاومة وإقامة دولة لها داخل الدولة سيخلق حتما الصراع بين الدولتين . قد تكون دولة المقاومة مبررة لأسباب أمنية ولكنها قد تكون خطرة من الناحية السياسية فتحرث الأرض للقوى الطائفية في الجانب الآخر لتنمو وتزدهر فتعرقن لبنان وبذلك تقضي على كل مقومات الدولة والمجتمع اللبناني فاتحة الباب على مصراعيه أمام التدخل الأجنبي .

الحل من وجهة نظري هو إيجاد التصالح بين منطق الدولة ومنطق المقاومة بإصلاح النظام السياسي الطائفي تمهيدا لالغاءه وبناء دولة مدنية تعتمد معيار المواطنة حيث تتوفر لها في لبنان العديد من المقومات والركائز وبذلك تتحول نقاط الضعف إلى نقاط قوة . ولان هذه الإشكالية هي إشكاليتنا في الوطن العربي أيضا , فأنه قد يعطينا الحق في التعاطي مع الشأن اللبناني ليس من باب الوصاية أو التدخل بل من باب فتح كوة من الضوء في الظلام الدامس الذي يلفنا جميعا.

وقيدت ضد مجهول

من تكلم قتلناه , ومن سكت مات بدائه غما .. ردد هلكان هذه العبارة أكثر من مرة وقدم لي فنجانا من القهوة ولفافة تبغ .. رمزية القهوة قد أثارت قلقي .. لارتباطها بالموت وكونها من أعراف مجالس ( الفاتحة ) عندنا .. ( القهوة المرة التي ينتزع منها ( الهيل ) ليست رمزية لنفي جدلي للحياة بل للموت الحي عندنا , فنحن أشباح بلا ‘‘ أرواح ’’ , بفعل القهر والاستبداد والركود المتحرك في ذاته , حالة الموت عندنا هو مجرد توقف ‘‘ الروح ’’ عن المعاناة لتوقف تحرك الجسد وتسكنه ) .. بهذه العبارة المتفلسفة , رد العم هلكان على قلقي من رمزية القهوة , التي لم أرها يوما في بيته لأن هلكان يكره العدم ويعتبر القهوة ( المامهيلة ) رمزا له .

أجارك الله ياعم .. ما الذي ادخل رمز الموت هذا إلى بيتك اليوم .. قال وكأنك تجهل ما حدث لنقيبكم – أيها الصحفيون - قلت كلا .. فما جئت إلا للحديث عن هذا .. ولكني عهدتك لا تقيم مراسيما لتأبين الأشخاص .. أجاب : إلا هذا الرجل . فاعلم يا بن أخي إن الرمزية التي يمثلها هي المحرك الوحيد لعجلاتنا الآسنة وإنهاء موتنا ألسريري إلا وهي الرأي والكلمة الحرة , المذبوحة منذ الأزل عندنا , وذلك سر ذبحنا من الوريد إلى الوريد , على مر العصور , وهل من المصادفة أن تكون رمزية الاغتيال إن رصاصة الظلام اخترقت اليد إلى الرأس إلى الفم .. اليد التي تكتب والرأس الذي يفكر والفم الذي يتكلم لتأتي الرصاصة الأخرى في الصدر وكأنها تريد إيقاف نبض الحياة . رمزية اغتيال الرجل - الكلمة الحرة هي رسالة خطرة ومخيفة تقول لنا اخرسوا أو نخرسكم وحولوا أدمغتكم إلى مستودع للعفن وامنعوا أيديكم عن مسك القلم .. أنها تحول طنطلي , كما حكيت لك في الحكاية الثانية , الطنطل يشتغل مرة أخرى على شكل ( اوبل ) .

ليس كل الطغاة واضحين عدا من قال ( من تكلم قتلناه.. ) الم يروي التاريخ عنه قوله - قتلت مئة إلف لا اعرف لم قتلتهم - لقد ناب عنهم في الوضوح ليترك لهم أن يعملوا في الظلام على تطبيق هذه الإستراتيجية المفضلة ( للذهب وسلطته ) .

إن امة تغتال الكلمة الحرة لن تجني سوى العفن و الصدأ ولعنة الأجيال , فالكلمة الحرة تطهير لجسدها من كل الإمراض .. جهاز المناعة القوي الذي يحميها ويصونها , نأمل أن لا تقيد هذه القضية ضد مجهول , أيضا , فهي ليست كسواها من القضايا وان عظمت . هي قضية القضايا ومفتاح مغاليقها , فمن يقتل الكلمة الحرة هو اللغز الكامن وراء جميع مصائبنا .. مجدا لك أيها الشيخ في رحلتك الأخيرة .. ومجدا لك في تاريخك الطويل من اجل الناس والكلمة الحرة .

والى هنا لم يسكت هلكان عن الكلام الغير مباح إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح .

من يكسر الجرة ؟

كثير من الحكايات التي نسمعها من جداتنا , أو نستلها من بطون الكتب القديمة , تنطوي على مكنون علم , أو معاجم للعبر لمن يعتبر . لكن يبدو إننا , في الكثير من الأحيان , لا نأخذ هذه الحكايات سوى أنها مادة للسمر والتسلية حتى يدركننا النعاس قبل أن تجتاح حياتنا التكنولوجيا الحديثة محيلة هذه الحكايات إلى متحف التاريخ , لترقد مع أخواتها من ميزات شعبنا الأصيلة كالنخوة والشهامة والرقيب الذاتي والمجتمعي وأمثالها إلا للباحث المنقب أو المتفلسف المترقب من ‘‘ مثقفينا ’’ الذين يتحدثون بنمط معين يسود نوعه ثقافتنا المحنطة . مثقفو ( مقهى ريش ) كما شخصهم الشاعر احمد فؤاد نجم .

إن ما في تاريخنا وحاضرنا , من العبر والأحداث , ما تشيب له الولدان .. قاطعته هل السبب هو قصورنا في وعض الناس ونصحهم لذا فهم مستمرون على هذه الحال ؟ أجاب : اربأ بك أن تكون واعضا من طراز حفاري القبور ودافني الجنائز , فهم في الوقت الذي يعزون أهل الميت بأننا ( كلنا على هذا الطريق ) , يساومون ببراعة من اجل الحصول على اكبر ربح ممكن من عملية الدفن .

أردت أن احكي لك حكاية ذات مغزى مفادها أن ناسكا بنى له كوخا في مكان منقطع على طريق خارجي يأوي إليه من أدركه الليل أو انقطعت به السبل , يستأنس به إلى أن ينبلج الصباح ليواصل رحلته . كان الناسك من دماثة الخلق بمكان فأعجب به رجل مهديا إياه جرة من السمن علقها الناسك فوق رأسه .. وفي أحلام يقضه باع جرة السمن ليشتري شاة ومن ثمن أصوافها اشترى خروفا ليراكم بعدها ثروة طائلة فيتزوج بنت الملك .. وكي لا تتكبر عليه واستجابتا لنصيحة أمه ( اذبح القطة في أول ليلة العرس ) افتعل شجارا معها رافعا عصاه ليضربها فجاءت بالجرة ليسيح على رأسه السمن مع شظايا الجرة المتكسرة .. قادتني هذه الحكاية إلى التأمل في ظاهرة قديمة جديدة عندنا تسبب لنا دوما أفدح الضرر , ومازالت , جاعلة منا (حصان الناعور) ندور وندور وعيوننا معصوبة دورانا أزليا حول محور واحد . يبدو أن العم هلكان قد توحد مع كلمة واحد إذ خذ يرددها حتى انه نسي وضع ( قوري الشاي ) على موقد النار - وذلك ما لم يفعله قط - ليصرخ بعد ذلك وجدتها .. وجدتها فأدركت أن أرخميدسا آخر قد ولد ولكن في ‘‘ علم الاجتماع السياسي ’’ . ما الذي وجدته ياعم هلكان ؟ فأجاب : سر بليتنا .. سر بلتنا وجعل يكررها بحماس . صمت قليلا ليضع ( قوري الشاي ) على الموقد مستأنفا : الواحدية سر بليتنا ورزيتنا . كيف ذلك ياعم قال :

ليس مصادفة أن يبدأ الانقلاب العسكري عندنا ( ببيان رقم واحد ) حيث يفاجئنا كالرعاف من دون مقدمات رغم ما يحمله في طياته من مسببات , اعتدنا على عدم قراءتها لأنها لا تعني شيئا. الرقم واحد يلغي كل شيء وأول ما يلغيه هو مبرراته المعلنة التي يستند إليها . الرقم واحد يأتي من المجهول ليقذف بنا إلى المجهول , فهو خارج التاريخ ولكنه يسكن الجغرافية دوما , لا يقبل القسمة إلا على نفسه منتجا واحدا أخر يسكن الجغرافية ويخرج من التاريخ . يفرخ الواحدات كالقائد الواحد الضرورة أو الزعيم المبعوث من العناية الإلهية أو الحزب الواحد أو الطائفة الواحدة عرقية أو دينية أو حزبوية أو عقائدية .. وهكذا دواليك . الواحد وان تعدد فانه يشترك في منظار واحد وان تخالف أو تالف وويل لمن يخرق هذا الناموس . المسموح به أن تكون متعارضا وليس معارضا شرط أن تكون واحديا في نظرتك وحل التعارض بين الواحديات المتخالفة لن يكون إلا بالنطع والسيف لسبب بنيوي . ما ينتج عن هذه العلاقة من دمارا ودم ليس مهما مادامت هذه الأطراف تتخادم في ما بينها وتتطفل على بعضها البعض . وربما يفسر ذلك الود الدموي بين هذه الأطراف , المهم أن نسق انساق النظام الواحدي وفلسفته في إن ( مليون واحد ليس إلا واحدا متضخما حتى وان تقيح وانشطر ) ولأنه نمو في السكون والجغرافية سوف يتعرض إلى الاختزال , وسوف تبتلع كل الواحدات من الواحد المتضخم كون الواحد بذاته أناني , شره , شرس , متوحش يحتقر الحياة ويعظم الفناء . يكره الفرح ويعشق الحزن , ينشر الدمار بدلا من نشر البناء لذا يضيق صدره بالتنوع ولا يرى في الكون سوى اللون الأسود .

لقد ابتلينا بالواحدية الاختزالية المتضخمة طيلة عقود طويلة من السنين التي لاحقت حتى بنات أفكارنا المختبئة في تلافيف الأدمغة والتي تغولت واختزلت الدولة والحياة في رجل واحد وذهبت بذهابه . غير أن نسق الأنساق الواحدي بقي صامدا وفاعلا حيث تجزئ إلى جزيئات عديدة تتقاتل بعنف وشراسة لإعادة إنتاج الواحد المتضخم مرة أخرى نسق الأنساق هذا أنتج لنا خرافة جديدة هي الواحدية الديمقراطية المرغمة على التوازن وتأجيل الحسم الاختزالي بفعل الضاغط الخارجي المسقط ديمقراطيته بحجم القنابل والصواريخ المنطلقة من الأسلحة المشتركة لقوات التحالف . ما يفرضه القطب العالمي الواحد الذي لا يرى سوى النيوليبرالية وحدها حلا وما عداها محاور شر بالمطلق , فكان ‘‘ الثقب الأسود ’’ الذي انجذبت إليه واحدياتنا بسرعة الضوء لنغرق طيلة السنوات الخمس في بحر من الدم . صب لنا هلكان قدحين من الشاي ثم استأنف :

ما عندنا هو الواحد الذي انقسم على نفسه وما أن يزول عنه الضاغط الخارجي , وأحيانا في ظله , حتى يحسم أمره . لكي نتعافى من أوهام الواحدية , الداخلية والخارجية , فإننا نحتاج إلى عصا تكسر جرة أوهامنا لندرك إن الواحد الخارجي والداخلي هو سر بلاءنا . والى هنا سكت هلكان عن الكلام المباح إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح .

كي لا نتعفن

لكل شيء حكمته , فالحكمة لا تقتصر علينا نحن البشر , بل إن لكل شيء منطقه . الم ترى حيوانات كليلة ودمنة وحكاياتها الحكيمة ؟ الم تسمع حكايات جداتنا عن الحيوانات الناطقة التي تبدأها ( يقولون إن الحيوانات قبل تتكلم ) ؟ تداخلت مع العم هلكان , وهل تصدق هذه الخرافات والخزعبلات ؟ أجاب : أزيدك من الشعر بيت , فالأشجار أيضا تتكلم , بل إن كل شيء في الطبيعة يتكلم . أثار هذه المداخلات مسألتي للعم هلكان عن سر استنقاع الماء الراكد وتعفنه في المستنقع, وعذوبته في الأنهار , ونوعه واحد . قال : أعيدك إلى ما ابتدأنا به الكلام , بان لكل شيء منطقه , ولكن المنطق لا يشتغل إلا في الحركة والتجدد والتغير , فالثعبان يجدد جلده البالي ويطرحه . قاطعته : لكن حتى المستنقع فيه حركة , وإلا من أين جاء العفن ؟ أجاب : الحركة يحددها التجدد والتغير والتحول والوعي والفعل النقدي , وإلا فسوف تكون حركة دائرية لا تنتج سوى بكتريا العفن التي تقتل الحياة .. اترع هلكان قدحين من الشاي , لي وله , فأختلط البخار المتصاعد من القدحين بدخان لفافته .. لقد افتقدنا وجيه عباس و ( نصب حريته ) بعد أن استعضنا عن صوت فيروز بصوته كل صباح وهو يطارد " فرسان " سوف وأخواتها ومثيلاتها من حروف التسويف وكأنه ينشد مع ( احمد فؤاد نجم ) ‘‘ ياواد يايويو .. يمبرراتي ’’ فاضحا بالدليل القاطع " جرمهم المشهود " وخشينا من منعه بعد ما منع زميله فائق العقابي من ( سوالفه ) ليجعلوه ( يسولف ) في صقيع جبال كردستان الشاهقة , ظنا منهم إنها ستصل باردة إلى المناطق الساخنة المكتوية بلهيب جحيم مافيات السلب والنهب . بعد هذه المداخلة ( المعاصرة ) رجع هلكان إلى منطقه .. اعلم إن الأشياء جميعها – في سالف الزمان – تتكلم ويتفهم بعضها البعض وتتعايش بحب وانسجام إلى أن ظهر الذهب وسلطته , وما جرى باسمهما من فضائع ضد الناس والحيوانات والطبيعة , منذ ذلك الوقت فقد الإنسان منطقه وتحول إلى عجماوات ترطن , غير إن الأشياء الأخرى احتفظت بمنطقها , وهي تأسف كثيرا على ذلك الإنسان الجميل الذي فقد منطقه . إن ما نعيشه – منذ ذلك اليوم – هو الخرافات والخزعبلات بسبب افتقادنا لمنطقنا.

حتى لا نتعفن , دعوا العقابي وعباس والناس ( يسولفون ) تحت نصب الحرية فهو الأمل الوحيد لنا كي ما نستعيد منطقنا وننهي هذه الرطانة . وفيما هو يتأمل في استعادة ذلك الزمن السعيد , سكت عن الكلام المباح إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح .

فلسفة الحرية والتجربة الاشتراكية

منذ بداية تواجد المجتمعات الإنسانية على الأرض فإنها أثارت تساؤلات وجودية واجتماعية حول هذا التواجد , معناه , إسرار هذه الكينونة والظرف الخارجي الذي يحيط بها ومن ثم تكوين تصورات تبنتها ( كحقائق ) . بتكوين التحديدات الإيديولوجية والقانونية والمعرفية للمحافظة على انساق من الأنظمة لتسيير شؤونها العامة والخاصة وضمان استمراريتها . لقد كانت المرحلة الأولى هي صراع المجتمع البدائي مع الطبيعة حيث كانت تكافح فيه بوسائل بدائية في صراعها يسودها التضامن اتجاه تحديات هذا الارتهان . إما المرحلة التالية هي مرحلة السيطرة التدريجية على الطبيعة ونشوء الطبقات الاقتصادية محققة انتصارات ثورية وتقنيات متطورة لتصل قمتها في النظام الرأسمالي ولكنها زادت كل يوم من ارتهان الإنسان للعامل الاقتصادي وما يفرزه من ارتهانات أخرى تحد من حرية الإنسان . إن كفاح الإنسان من اجل الحرية والانعتاق والعدالة الاجتماعية هو كفاح تاريخي نجده في ثنايا صراعاته المختلفة ضد كافة الأرتهانات التي تحد الفرد والنوع الإنساني .

ألارتهان الأول :-

هو الارتهان للطبيعة وهي الظرف الخارجي الذي يحدد وجوده ويؤثر عليه ويتأثر به ويشكل هذا الارتهان تحديا يوحد الإنسانية نسبيا ويدفعها باتجاه التطور التكنولوجي لحل التناقضات التي تفرزها الطبيعة باستمرار . إن النظام الرأسمالي قد تعامل مع الطبيعة بمزيد من السيطرة ولكنه اضر بها عندما جير هذا التطور لصالح أولغارشية من الرأسماليين بسبب طبيعته في تحقيق المزيد من الإرباح . إن ظهور تيار من المدافعين عن البيئة يمثل وعيا بمقاومة الشطط التكنولوجي للرأسمالية التي تحل التناقض مع الطبيعية وفقا لمصالحها وهو في الجوهر نضال معادي للرأسمالية وانه لشيء ذو مغزى, إن هذه الحركات النشطة بدأت ونشطت في قلب العالم الرأسمالي المتطور.

ألارتهان الثاني:-

هو الارتهان للعوامل الاقتصادية وما ينتج عنه من ارتهانات جانبية . إن النظام الرأسمالي قد جعل من العبودية لرأس المال عبودية أقسى من عبوديته للطبيعة ولم يقدم الحلول المناسبة للمجتمع الإنساني كون أزمته أزمة بنيوية. لذا تأتي هذه الدراسة لمناقشة التجربة الاشتراكية للبحث عن البديل لهذا النظام الذي قفز بالإنسانية إلى مراحل هائلة من التطور الاقتصادي والتكنولوجي وانحدر بها إلى أدنى المستويات على صعيد حقوقها في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة.

في الايدولوجيا

ليست هناك عقائد خاصة بل إن لهذه العقائد ظرفا تاريخيا واجتماعيا محددا. إن أية أفكار أو عقائد هي تجريد ومن غير الواقعي اعتبارها كونا مستقلا بذاته , إذ إن تاريخها لا ينفصل عن تاريخ المجتمعات وعن تاريخ المؤسسات والوقائع الاقتصادية والصراعات الاجتماعية في ظرفها التاريخي المعين , ولكن هذه التجريدات النظرية تجد بعدها الواقعي في العلاقات الاقتصادية . أي أنها ليست تجريداَ محضاَ وإنما يجب محاكمتها من خلال بعدها (( الواقعي )) أي من خلال تأثيرها في الواقع الاجتماعي وفي ظرفها المحدد . وحيث ( إن الأفكار عندما تتغلغل في صفوف الجماهير فإنها تتحول إلى قوة مادية ) فهي تنتقل من التجريد النظري إلى العلاقات الواقعية , متلونة بتلاوينها المختلفة , فاقدة نقائها العقائدي . كما أن العلاقات الواقعية تتأثر بالعقائد المختلفة , فاقدة واقعيتها (( الصرفة )) لتتلون بتلاوين العقائد المختلفة . ولان العقائد تعبر عن نفسها كتجريد يحاول إن يتعالى على حدود الظرف التاريخي , والعلاقات الواقعية , بسبب إليتها الذاتية ودائرتها المقفلة, فان علينا نقد الأفكار والعقائد مع حذر الوقوع في شرك اعتبارها كوناَ مستقلا بذاته , بل نقدها من خلال علاقتها بالواقع كقوة مادية أي بمعنى أخر من خلال تعبيراتها عن مصالح مجموعة اجتماعية معينة . ومن هنا جاء الميل الاشتراكي بانتقاد العقائد من خلال بعدها الواقعي . إن الاشتراكية عند ماركس هي العلاقات الواقعية التي تحقق الحرية. وبذلك نقل المعركة إلى العلاقات الواقعية في المجتمع والبناء التحتي . فكان نقده ثوريا لكل الأرتهانات التي من شانها جعل الإنسان عبدا لها بدلا من إن يكون سيدا .
إن الإنسان من خلال تدخله العملي, في الطبيعة والمجتمع, يرتقي بمسيرته التاريخية, مقتربا تدريجيا نحو هدفه الأساس: تحقيق الحرية. إن شكل الأنظمة بالنسبة لماركس ليست اختراعا لمفكر أو فيلسوف, لذا فان الاشتراكية ليست مخططا أو تصميما هندسيا لنظام اجتماعي معين, بل هي التعبير الأكثر تقدما عن الميل الواقعي للصراع الاجتماعي للطبقة العاملة ضد الاستغلال. أنها البعد النظري للممارسة العملية. أن أي نظرية لاتأخذ بمنهج النفي الجدلي ستميل إلى الادلجة و المحافظة وكبح سيرورة الحركة الاجتماعية . في مطلع فلسفة الحق لهيغل.. ( ألا إن الفلسفة تأتي متأخرة جدا لكي تقدم وصفات حول الكيفية التي يجب إن يكون العالم عليها, أنها تفهم ما هو في الحين الذي يكون فيه شكل الحياة قد شاخ ) . لقد اوجد ماركس منهجا لا ينغلق على عقيدة جامدة , مقدسة لا تتنفس سوى الهواء العفن الراكد في دهاليزها . لقد بين العلاقة الجدلية بين الفكر والعلاقات الواقعية للحراك الاجتماعي والتأثير المتبادل بينهما وماركس نفسه , ليس ماركسيا بمعنى العقيدة , الايدولوجيا بل انه جدليا انزل العقائد من دائرة التعالي على الواقع وادعاءات الامتلاك المطلق للحقيقة والميل إلى التكامل . فان أي ايدولوجيا متكاملة أو ساعية للتكامل ستكون غير واقعية لاتعبر عن الحركة الاجتماعية وستميل إلى المحافظة والرجعية . إن هذا الميل إلى الأنساق الثابتة والإطلاق إلية كل أيدلوجيا وبالتالي فان الايدولوجيا تعبر عن مصالح الطبقات المستغلة والمالكة وكما يسميها ماركس بالوعي الزائف , فكانت الفلسفة الماركسية هي النقض لكل العقائد المغلقة لصالح استلهام الجديد, وصولا إلى الحالة الجديدة التي تفرزها الحركة الاجتماعية . وعندما نتفحص التجربة الاشتراكية عبر العالم نرى أنها قد حولت الماركسية إلى عقيدة , أي أنها تبنت ( العقيدة الماركسية_اللينينية_الستالينية .. الخ ) التي هي عقيدة نظام ( اشتراكية الدولة البيروقراطية ) والتي هي شكل هجين لمزاوجة نظام رأسمالية الدولة بدون رأسماليين بنظام ( اشتراكية الدولة ) إن هذه النظرة قد توضح لنا جزيئا سبب قيام ( الثورات الاشتراكية ) في الدول المتخلفة اقتصاديا بسبب عجز الرأسمالية في تلك الدول عن تحقيق التقدم الاقتصادي الذي حققته مثيلاتها في الدول المتقدمة اقتصاديا . وبالتالي فان التشويه لحقيقة الماركسية وبالتالي الاشتراكية تنبع من محاولة الوضع المتخلف تجاوز وضعه نحو أفاق متقدمة متبنيا النظرية الثورية مع تحميلها كل آثام عجزه الموضوعي وتخلفه منتجة وليدا هجينا.

الدولة والحرية

السياسة عند هيغل هي علم تحقيق الحرية , تاريخيا , في تجسيداتها المتتالية والمتصارعة من خلال مؤسسات معروفة مثل العائلة والتكتلات المختلفة , والدولة بصفتها المؤسسة الأشمل . وان الإنسان الواقعي لا يرتكز تصرفه حصرا على الاقتناع العفوي لضميره الأخلاقي الفردي , بل يتوجب عليه الخضوع لقوانين العالم الموضوعي خارجا عنه . انه ككائن واقعي مدعوا إلى تجاوز خصوصيته لكي يتوصل إلى تأمل الكلي الكوني. إن الكلي لا يمكن إن تكون له قيمة ولا يمكن إن يتحقق بدون إن يحصل الشخص الفرد على ما يرضيه ويقنعه في حين إن الكلي لا يمكن التوصل إليه بمجرد تراكم وتواجد الإرادات الذاتية والمصالح الخالصة . ولحل هذه المعضلة وإيجاد وسيلة التوافق فقد قرر إن ( الدولة هي حالة التوافق بين الكلي والخاص ) و( الدولة هي واقع الحرية الملموسة المحددة ) وان الدولة ببقائها فوق المصالح الخاصة تجسد هذا الكلي وبذلك تعرض إلى انتقاد حاد من ماركس. لقد أخضع الاجتماعي للسياسي جاعلا الكلي قوة منفصلة عن المجتمع والفرد تنوب وتنفصل عنه. في الوقت الذي قدم فيه تبريرا لأي قمع تتطرف بممارسته الدولة بأنه حرية ملموسة ومحددة . لقد أتى بالدولة ككائن منفصل , فوقي , يرسخ الحرية بدون الأخذ بنظر الاعتبار جذور هذه الدولة الاجتماعية . وبذلك الغي الإنسان الاجتماعي وصيرورته الاجتماعية لصالح الكلي السياسي الذي يمتلك صلاحيات مطلقة أو شبه مطلقة في توجيه مساراته الاجتماعية. لقد انعكس كلي هيغل على أنظمة اشتراكية الدولة حيث مجد دور الدولة وأنيط بها تحقيق الاشتراكية التي أدت إلى تعميم الفقر و تعميم الاستبداد وهو شكل بشع لملكية الدولة الاستبدادية الرأسمالية لوسائل الإنتاج . وبعكس هيغل تكون الدولة هي الاستبداد المعادي للحرية . إن تشجيع الدولة السوفيتية لما أطلق عليه ( الأنظمة اللاراسمالية للإنتاج ) المغرقة في الاستبداد والفاشية والمعادية للحركة العمالية والاشتراكية مما يؤكد طبيعتهما الاجتماعية الواحدة. إن محاولة كل طبقة فرض تصوراتها على عموم المجتمع باعتبارها تصورات الكل الاجتماعي أوجدت بالضرورة سلبا لحرية الوحدات الاجتماعية الأخرى بواسطة سن القوانين وتنفيذها بواسطة قوى الضغط والإكراه . إن استخدام الإكراه من قبل المجتمع السياسي على المجتمع المدني يلغي حالة الفعل الحر للفرد والمجتمع ويجعل من تمثيل الدولة للصالح الاجتماعي باعتبارها الممثل الرسمي للمجتمع مجرد إخفاء لواقع ووظيفة الدولة كأداة للقمع والقهر وليست ( واقع الحرية الملموسة المحددة ) بل هي واقع الاستبداد والإكراه المعادي للحرية , وبذلك يكون القمع معقدا ومقنعا حيث تتضاءل الحرية إلى حد التلاشي . وبهذا كما كتب انجلز : ( لا تكون ملكية الدولة لوسائل الإنتاج حلا للمشكلة .. ) و ( كلما اتجهت الدولة نحو الرأسمالية الجماعية , في الواقع , كلما ازدادت استغلالا للمواطنين ) . لقد ظهرت الدولة للتحكم في الصراعات الاجتماعية وتسيير شؤون المجتمعات بما يمنع الانهيار العام . لذا اكتسبت ( وهم ) وظيفة النيابة عن المجتمع . إن الدولة رغم تمثيلها لمصالح الطبقات المالكة وإجبارها الكل الاجتماعي على ( تقبل ) ذلك لا يعني أنها منفذا ألياَ لتلك المصالح بل إن لها بعض الاستقلالية النسبية الناجمة عن حالة الانفصال عن المجتمع ووهم نيابتها عنه, بقيامها بمهام عامة لتسير وإدارة الحياة واستمرارية وديمومة المجتمع .
أنها تحافظ على جوهر نظام الاستغلال تجاه التحديات العمالية والتحررية لشرائح واسعة من المجتمع , هذا من جهة , ومن جهة أخرى , تجاه ضيق الأفق لأجنة الطبقة المالكة وبالتحليل النهائي تمثل المصالح الحقيقية لمجمل نظام الاستغلال وتسعى لحمايته وصيانته . إن صنمية الدولة هذه في الأنظمة الاستبدادية تجعل من تقديس دور الدولة كارثة على المستوى الفردي والاجتماعي حيث أن تأليه الدولة والزعماء والأحزاب يؤدي إلى النزوع الفاشستي في التعامل مع الظواهر الاجتماعية . إن السلطة والمجتمع المدني هما كفتي الميزان فكلما أزداد دور الدولة في تسيير الحياة الاجتماعية كلما كان ذلك على حساب المبادرة الاجتماعية الحرة للإفراد والمجتمع.
إن مرحلة دكتاتورية البرولتاريا كمرحلة مؤقتة في ظل ملكية الدولة لوسائل الإنتاج جعل من الدولة بديلاً عن المجتمع المدني وتصلبت لديها عقيدة النيابة عن المجتمع لتتحول إلى دكتاتوريه دائمة . إن هذا يفسر لنا شكلية الحزب أو الأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني كونها ملحقا بالدولة أو أدوات لها دون إن يكون لها تمثيل اجتماعي حقيقي سوى أنها الممثل شبه الرسمي للدولة إمام الشريحة التي تمثلها . إن ما قرأه ماركس هو تحقيق الإدارة الاجتماعية بديلا عن الإدارة السياسية كحل للتشويه الذي ينتج عن هيمنة السياسي على الاجتماعي وما يحدثه من الانفصام والازدواجية في الشخصية الإنسانية ( الإنسان المواطن والإنسان الشخص , العام بأدواره المختلفة والذات المشخصنة ) , ولكي نصل إلى ذلك الهدف , علينا إن نستخدم وسائل وأدوات تهيئ وتمهد لذلك الهدف , لكن التجارب ( الاشتراكية ) عملت على تحقيق العكس , فقد طغى السياسي على وسائلها و عقيدتها ملبيا احتياجات التطور الرأسمالي في الأمم المتخلفة اقتصاديا والذي عجزت عن تحقيقه الطبقة الرأسمالية بالأسلوب الكلاسيكي للتطور الرأسمالي . إما الدولة بتوهمها تمثيل المجتمع تحاول تقنيع تمثيلها لمصالح رأس المال وإشاعة تمثيلها للكل الاجتماعي في مقابل الصراع الطبقي من قبل البرولتاريا والفئات التحررية والكادحة , وبالتالي إظهار الحركة الاجتماعية للقسم الأوسع من المجتمع كحركة ( منشقة ) عن الكل الاجتماعي .

الأدوات السياسية والنقابية العمالية

لقد نشأت التنظيمات السياسية والنقابية العاملة كرد فعل طبيعي اتجاه الاستغلال الرأسمالي البشع الذي تعرضت له . إن فضيلة البرولتاريا ليست نابعة من تمجيد الفقر كما يحلو لبعض التيارات اليسارية التي تتغنى بالمفاليس ترديده ولا من جهة نضريه الإحسان والعطف التي تطرحها الجهات الدينية , إنما تنبع من موقعها في الإنتاج كطبقة غير مستغلة ونافية للمجتمع الطبقي وتفاضل البشر على أساس التقسيم الطبقي . إن فضيلتها الأساسية هي أنها النقيض لعبودية الإنسان للضرورة الاقتصادية وأي ضرورة أخرى تحد من حريته, وما يترتب على ذلك من انقسام الناس. أي نقض سيطرة السياسي على الاجتماعي. لقد نظر إلى الطبقة نظرة صنمية ككائن خرافي سيضرب ضربته على حين غره بحتمية لا تبدو قريبة , وحين لا يتم ذلك , انحاز قسم من هذه القوى لتندرج في حركة البرجوازية الإصلاحية , بينما حاول اتجاه أخر إن ينوب عن الطبقة أو يستخدم طبقات بديلة حيث تنقلب الحتمية إلى ارادوية منفصلة ملقية آثام فشلها في تحقيق الأهداف على أشباح كثيرة حيث تعتبر التجربة الروسية التجربة الرائدة للحركة البرولتارية العالمية . لقد ساد هنالك تياران في الاشتراكية الديمقراطية الروسية : التيار الأول هو تيار المناشفة , وهو تيار يمثل ضيق الأفق الطبقي وانتظار غير ثوري ميكانيكي للحتمية التاريخية . انه نشاط البرولتاريا كطبقة غير متجاوزه للحدود الطبقية باتجاه المجتمع اللاطبقي . إما التيار الثاني فهو البلشفي ونظرته إلى الحزب. لقد كان لينين يريد إن يجعل من الحزب أداة ثورية قوية مؤهلة للتحرك في كافة الظروف انه حزب مؤلف من (( ثوريين محترفين )) متمرسين بكل أساليب العمل , ويحب إن يكون شديد المركزية ومنضبط متهماَ اليساريين الذين انتقدوا هذا الانضباط الصارم وهذا الدور النخبوي للحزب , بأنهم يلتقون مع ألمنشفيك لتجريد الثورة من سلاحها , وان الثوري هو رجل تجرد من أصله لان احترافه الثوري قد استولى عليه تماما . إما المنظمات النقابية فعلى الحزب إن يستخدمها أو ينظمها عند الضرورة , لقد أدى الشكل ألمنشفي للتنظيم الإصلاحي إلى طرح صيغة الحزب البلشفي ذو الطبيعة المنفصلة شبة التآمرية . لقد كان هذا الحزب نتاجا للوضع المعين في روسيا , القمع القيصري الذي لا حدود له ودور أجهزة الأمن الرهيبة في ملاحقة المعارضين , كذلك التخلف الهائل في روسيا اقتصاديا وتقنيا بالنسبة إلى مثيلاتها الأوربيات وبالتالي تخلف الطبقة العاملة وقلة عددها نسبة إلى عدد السكان وشيوع الوعي المشوه لديها . لقد كان الحزب البلشفي الرد الموضوعي على هذه الظروف . بعد نجاح ثورة أكتوبر العظمى وفي ظل الدمار الكبير الذي أصاب روسيا نتيجة للحرب العالمية الأولى والتدخلات الأجنبية والحرب الأهلية ( تعسكر ) الحزب تدريجيا حيث صار ينوب عن الطبقة ويقوم مقامها ويقرر عنها . ( شكلية دور السوفيتيات لصالح الحزب والدولة ) . كما أشيع الإرهاب الفكري والسياسي والتصفيات الجسدية داخل الحزب والمجتمع وتحول الحزب إلى جهاز بيروقراطي يمثل مصالح الطبقة البيروقراطية السائدة وهو ما عبرت عنه المرحلة الستالينية . لقد جرت انتقادات ترقيعية لهذه الظاهرة باعتبارها انحرافا عن اللينينية وأسس التنظيم البلشفي . إن مجمل الظواهر تلك والتي وصلت أوجها في سقوط ما يسمى بالمعسكر الاشتراكي تدل على عقم وقصور هذا التحليل وعدم جذريته بل وطابعه المهلك لحركة الطبقة العاملة ومستقبل الحركة الاشتراكية . إن هذا الانحراف ينبع في جزء منه من المفهوم البلشفي للحزب . لقد وقع هذا الاتجاه في المحصلة النهائية بإعطاء الحزب دورا نخبويا , نيابيا , ارادويا , كنقيض للحتمية الإلية , الانتظارية , للحزب المنشفي . إن تاريخ الحزب البلشفي لا ينفصل عن تأثير الشخصية القوية للينين والتي كانت تمثل - في ظل الظروف الذاتية والموضوعية - أكثر السياسات تمثيلا لمصالح جماهير العمال والمحرومين , لكن الطبيعة الاحترافية النخبوية والمركزية الصارمة قد أنتجت الطاغية ستالين , رغم تحذير لينين للحزب منه , لقد جمع في يده سلطة هائلة بصفته سكرتيرا تنظيميا للحزب وصارت المركزية الديمقراطية وسيلة قيادات الأحزاب الشيوعية لفرض خطها على الكوادر والقاعدة وقمع كل مبادرة لها . إن مسألة تحريك الناس كأنهم دمى وقيادتهم كأنهم قطيع هي في الحقيقة من أساليب الطبقات المستغلة وتياراتها الرجعية التي ترجع حركة التاريخ إلى الإفراد والإبطال والى الخطط الذكية لمجاميع من الناس والى افتراض غباء الجماهير واحتقار دورها في صناعة التاريخ . ومن خلال التجربة الثرية للأحزاب العمالية والحركة الاشتراكية فإنها اتجهت اتجاهين أديا إلى انفصالهما عن الطبقة العاملة والجماهير. اتجاه جعل الحزب ( سوبرمان ) الطبقة , غاية بدلا من كونه وسيلة وأداة ينظر إلى الأشياء من خلال منظاره , ويتنفس كل الإحداث من خلال رئتيه , والاتجاه الذي سار في ذيل الإحداث ممثلا المطالب الدنيا ( المطلبية ) للعمال واستمرأ اللعبة البرجوازية . إن كل مؤسسة سياسية هي تعبير عن نظرة معينة إلى العالم وتجسيد لحقيقتها الاجتماعية , وهذا ما ينطبق على الطبقة العاملة بالذات لاختلاف دورها عن كل الطبقات الاجتماعية السابقة لها. لقد أقامت تلك الطبقات المستغلة أنظمتها محافظة على انقسام ألإنسان واستلاب حريته , منتجة شكل أخر يحافظ على تملك طبقة معينة لوسائل الإنتاج مع حرمان الفئات الأوسع من الجماهير وبذلك كانت في جوهرها ثورات سياسية رغم الإبعاد الاجتماعية لها0 إما بالنسبة إلى ثورة الطبقة البرولتارية فإنها ثورة اجتماعية 0 إن الميل الاشتراكي باعتباره الميل الأكثر تقدما ووعيا للطبقة العاملة وليس منفصلا عنها (( يحقن إليها من الخارج بعد أن يصنع في مختبر الحزب)) أو الطليعة أو النخبة بل هو جزء من الحراك الاجتماعي لهذه الطبقة0 انه التعبير النظري الذي (يكتشف) دينامكية الصراع الاجتماعي باتجاه الارتقاء بالكفاح العمالي إلى المستوى الذي يجعل الطبقة العاملة تدرك دورها ورسالتها التحررية 0 إن ذلك يعني إعادة النظر بكثير من المفاهيم النظرية والتنظيمية والعملية التي أفرزتها المفاهيم المعروفة فبدلا من مفهوم الحزب اللينيني ونسخه المختلفة الذي يقطر الطبقة العاملة وجماهير الكادحين والتحرريين باتجاه الهدف أو الحزب الإصلاحي بنسخه المتعددة الذي يتلاشى في الصراع الاجتماعي على حساب الهدف(الحركة كل شيء والهدف النهائي لاشيء)0 فان التنظيم الاشتراكي وأسلوب قيادته للنضال تختلف عن الأساليب المنفصلة0 انه كالمشعل المغروس في عمق الظلام كلما ازداد توهجه ازداد تبديده للظلام. انه يكتسب توهجه النظري من أتون الصراع الاجتماعي الذي يبلوره بنقلة أرقى ( للوعي ) متجاوزا المستوى الراهن. انه لا يسعى إلى جر الطبقة العاملة وراء سياسته وتحديداته وإنما يسعى إلى الارتقاء بها ومن خلال صراعها إلى مستوى مهامها التاريخية. انه لا يعتبر المنظمات المتعددة للعمال والجماهير واجهات شكلية من واجهاته يقودها ويستخدمها بل على العكس انه يسعى إلى جعلها منظمات حقيقية , مستقلة , تعبر عن جزء من الحركة العامة للبرولتاريا والفئات الواسعة التي تقترب منها من نقابات واتحادات وأي منظمة أخرى من منظمات المجتمع المدني للنساء والفلاحين والشباب والطلبة وغيرها. إن أي حركة تسعى إلى نقض الرأسمالية والتفاضل الطبقي وإقامة مجتمع الحرية والمساواة لا بد إن تجسد في ممارساتها ونظريتها البديل المطلوب. إن إقامة البديل يجب إن تتحقق في النظام الداخلي للحزب الاشتراكي وفي علاقاته بالمجتمع, إن ذلك ليس ضرورة فنية فقط بل هو تدريب وخبرة ضرورية لإقامة السلطة الاشتراكية. ومن جهة أخرى فان البديل الذي تنشاه من خلال ممارساته يقرب الفئات الشعبية التي لها مصلحة في الاشتراكية إلى الاطمئنان والاندماج في مسيرة النضال التحرري بعد إن أشاعت التطبيقات المزورة الرعب في صفوف الفئات المثقفة وشرائح شعبية أخرى أدت إلى العزلة عن جماهير واسعة . إن التناقض بين الإلية الذاتية للتنظيم العمالي وطبيعته كمؤسسة وبين الحركة العامة للعمال والجماهير هو تناقض حقيقي. انه المحور الأساسي الذي يجب النظر إليه باستمرار حيث انه احد المحاور المهمة التي تكرس له البرجوازية الجهد لتخريب حركة الطبقة العاملة . أنها تحاول جعله مؤسسة منفصلة عن الحركة العامة للطبقة العاملة وبالتالي يكون تنظيم لا يمثل العمال في الثورة الاجتماعية . إن من الوسائل المهمة لمنع ذلك هو إدراك التنظيم إن الصراعات الاجتماعية هي صراعات موضوعية ناتجة عن الطبيعة الاستغلالية للاقتصاد الرأسمالي . أي إن الحركة الاحتجاجية هي حركة متنوعة تتخذ إشكال عديدة واعية وغير واعية. إن على التنظيم رصدها بدقه والاشتراك فيها بنشاط ومن خلال ذلك يحاول الميل الاشتراكي قيادة هذه الحركة ليس من خلال إلقاء التعليمات عليها بل من خلال استثمارها وما ينتج عنها من قصور مبين موقف هذا الميل واقتراحاته لمعالجته والتحاور مع العمال المحتجين حول مدى هذه النضالات وبيان المديات الأفضل مع إدراكه انه من غير الممكن إن تكون الطبقة العاملة والجماهير متطابقة مع فكره وإستراتيجيته مادامت السلطة العامة سياسيه. انه لا يطلب من كل عامل محتج إن يكون ماركسيا أو اشتراكيا بل إن كل عامل محتج بهذا الشكل أو ذاك يعتبر ضمن الحركة العامة للطبقة العاملة . إن على الميل الاشتراكي إن يتواجد في أي تجمع مهم للحركة العمالية يحقق جزأ من المصالح الآنية أو الإستراتيجية طارحا بدليه ومتحاورا مع الجماهير وبذلك يمنع من انعزاله وانفصاله عن عموم الحركة الجماهيرية . إن ذلك التماس يجعل تأثير الميل العمالي التحرري اقرب إلى الارتقاء بالحركة وبالتالي عدم ترك الساحة للميول المعادية التي تحاول عزل الميل العمالي وتصويره كشيطان لا يجوز الاقتراب منه . إن الميل العمالي الاشتراكي يناضل من اجل إن تكون التجمعات والمنظمات الجماهيرية منظمات حقيقية مستقلة فاعلة وهو ما ينسجم مع نظريته في إن الثورة الاجتماعية هي حركة اجتماعية وليست ( ثورة ) أحزاب أو نخب معينة. هذه أمور أساسية في حل إشكالية الشكل المؤسساتي للتنظيم وانفصاله عن الحركة العامة للجماهير وفي نفس الوقت يحقق له قيادة هذه الحركة بالشكل الذي يرتقي بها إلى أهدافها . انه يجسد الاختيار الحر والواعي للإنسانية ويؤسس الخبرة اللازمة للحل الاشتراكي , مما يحد من فرص البرجوازية لاحتواء وإسقاط النظام الاشتراكي كما حدث لثورة أكتوبر في الاتحاد السوفيتي . قبل موته بقليل طلب من ماركس إن يجيب عن السؤال التالي : ( ما هي القوانين التي يجب إتباعها والقوانين الواجبة الإلغاء بسرعة سواء على الصعيد السياسي أو في المجال الاقتصادي من اجل تحقيق الاشتراكية إذا توصل الاشتراكيين بوسيلة من الوسائل إلى الحكم ) ؟ أجاب ماركس ( إن السؤال يقع بين الغيوم والجواب الوحيد لا يمكن إن يكون إلا بانتقاد السؤال بالذات وأضاف إن التنسيق العقائدي والمذهل حتما لبرنامج العمل لثورة مقبلة ليس من شانه إلا الانحراف عن المعركة العامة) كما احتج أنجلس ضد ولع الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان في وضع مسائل سياسية عامة وتجريديه في المرتبة الأولى الذي هو إخفاء لمسائل محدده وهي الأكثر إلحاحا تفرض نفسها على جدول الإعمال عن حدوث أول إحداث مهمة وعند أول أزمة سياسية . إن الوسائط السياسية لا يمكن إلغائها في ضل مجتمع سياسي لذا فان الحزب العمالي سيكون ضروريا باعتبارها الميل الأكثر وعيا وتقدما ولكن عمله يختلف عن الصيغة التي كانت سائدة حيث يلقي الحزب سياسته بل بصفته ميل مناضل وليس ميلا يخضع الجماهير لرؤيته الخاصة .

الاستنكافية السياسية

أولاَ: العلاقة بين الكم والكيف :-

إن الطفرة هي اللحظة التاريخية للتحول الكيفي من حاله إلى حاله أخرى نقيضه , لكنها تأتي نتيجة لتراكمات كمية تخضع لمجمل الظروف الذاتية والموضوعية أي أنها تعتمد على كيفية وحجم التراكمات والتحولات الكمية . إن موازنة دقيقة لطرفي المعادلة ضروري جدا لبناء نضري واقعي للعلاقة بين الكم والكيف . إن الأخذ بأحد طرفي المعادلة على حساب الطرف الأخر لا بد إن يخل بأحد طرفي المعادلة. لقد ركز الثوريون على الطفرة بينما ذهب الاصلاحيون على التركيز على الكم حيث كان الشيء الوحيد المشترك بين الطرفين إنهما حولا الثورة الاجتماعية إلى خرافة . بانتظار الطفرة صار الثوريون المنقذ المنتظر ينظر الناس لهم بإعجاب وتقديس , يمتدحون مثاليتهم الثورية وبطولاتهم كأنهم كائنات فضائية غريبة , حالمين بهذه السوبر مانات الطيبة لتأتي ذات يوم مع طفرتها فتنقذهم ليعيشوا في العالم هؤلاء الثوريين الجميل وبذلك ساهموا في تعزيز الاستنكافية السياسية بين الجماهير وابعدوا هذه الطفرة التي كرسوا مصيرهم وحياتهم من اجلها إلى ما لا نهاية . إما الاصلاحيون فقد اندمجوا في النظام القائم وباتوا يحلمون مع القديسين في إصلاح هذا العالم . إن الطفرة لا يمكن إن تأتي من فراغ لذا فان عدم الاستعداد المسبق سيجعل من السهل للرأسمالية بكل إمكانيتها على المستوى العالمي احتواء التجربة ومن ثم إسقاطها لذا علينا إن نوضح ماهية ذلك الاستعداد . إن ذلك يتعلق بمسألة العلاقة بين الإصلاح والثورة والتي هي في جوهرها العلاقة بين التغيرات الكمية والكيفية ومن خلال التجربة التاريخية الهائلة تكون لدينا خزين كبير من اجل إيجاد بناء متوازن لحل هذه الإشكالية إذا إن مصير الثورة الاجتماعية يتوقف على إيجاد هذا الحل . إن الإصلاح ولغرض تعريفه تعريفا دقيقا, هو انتزاع ما يمكن انتزاعه وبمختلف الأساليب الممكنة والملائمة لصالح العمال والكادحين وسائر شرائح المجتمع الذين تضطهدهم السلطة الرأسمالية بما يخدم وضع آليات تجبر هذه السلطة على التنازل عن جزء من امتيازاتها وبكافة الاتجاهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. إن مسالة الإصلاح تعني الانغمار في مجمل الهموم والتطلعات الحياتية وبذلك نكون جزءا من حركة اجتماعية واسعة بغض النظر عن مستوى تطورها الأيدلوجي , أي التواجد الفعال في أي تجمع مهم للحركة الجماهيرية مع العمل التدريجي والصبور للارتقاء بذلك التجمع إلى مستوى ارقي . إن الابتعاد عن التجمعات المهمة للعمال والشرائح التي لها مصلحة موضوعية في النضال ضد الرأسمالية يبتعد عن الفهم الصحيح . إن الابتعاد يعني الهروب من الواجب الحقيقي تاركين الساحة لقوى الظلام لتزرع أفكارها وأوهامها في صفوف الجماهير. إن ذلك هو احد السبل المهمة لتمكينها من التخلص من استنكافيتها السياسية وضمان حضورها وتدخلها القوي في العملية السياسية . إن العلاقة بين الإصلاح والثورة هي كالعلاقة بين إلام والجنين فكما إن الجنين يحتاج إلى رحم أمه ومن ثم رعايتها حتى يبلغ أشده كذلك هي العلاقة بين البرجوازية و البرولتاريا فقد تكونت البرولتاريا في رحم البرجوازية لذا فان عليها إن تبني هيكلها العظمي وتكسوه باللحم وبناء الأجهزة الضرورية لديمومتها . إن هذا الفهم ليس عملا شعاريا يرفع في لافته كبيرة , كما انه ليس شعارا ديماغوجيا يجعل من الجماهير كائنا خرافيا يسحق الرأسمالية وكافة الشياطين البشرية بقدرة خارقة , لقد استخدم هذا الفهم بكثافة في العمل الثوري , ولكن الذي جرى هو سحق الجماهير باسمها وتغييبها لصالح أيديولوجيا معينة أو قائد ملهم أو دكتاتور مبعوث من العناية الإلهية أو حزب ذو ميول فاشية . لقد نظر ماركس إلى الجماهير نظرة تاريخية, ككائن يصاب بالمرض أحيانا ويتأثر بالمؤثرات الموضوعية وعلى حركته الذاتية والاتجاهات التي تأخذها تكون النتائج وبذلك لا نقع في الإحباط واليأس. لو وضعنا الحركة الجماهيرية تحت المجهر لوجدنا الكثير من التعبيرات التي تعبر عن احتجاج ومقاومة جماهير الكادحين والتحرريين للأوضاع السائدة والتي يجب اكتشافها وبنائها والسير بها إلى أفاق أرحب . إن كل وسيلة نضالية أو تنظيمية يؤديان إلى التدخل العمالي والجماهيري المباشر إضافة إلى الإشكال المعروفة يجب إن يؤديا إلى خلق حركة جماهيرية واسعة تستطيع إن تفرض على النظام الرأسمالي متطلباتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية فارضة مرجعيتها وهيبتها وهي شرط ضروري لإيجاد ( السلطة الموازية ) وبناء أدواتها في ظل النظام الرأسمالي . إن السلطة الموازية هي التعبير عن التحولات الكمية والاستعداد للتحول الكيفي باتجاه مجتمع الاشتراكية والحرية . أنها سلطة المجتمع المدني في موازاة سلطة الدولة . إن فرض هيمنة وتدخل الجماهير الواسع في مرحلة التحولات الكمية وبناء أدواتها النضالية والنظرية سيساعد على تجنب الانتكاسة للثورة الاجتماعية كما حدث لثورة أكتوبر حيث ابتدعت المجالس العمالية كشكل أكثر ديمقراطية من أي شكل من إشكال الحكم السائدة عالميا , لكنها انتكست ولم تتجذر لأنها لم تبني تجربتها وترسخها في مرحلة التحولات الكمية بل ترافقت مع الطفرة الثورية والإلغاء المؤقت لاستنكافية الجماهير السياسية التي انخرطت بأكثريتها في النشاط الاجتماعي والسياسي مما أدى إلى محاصرتها وتراجعها ومن ثم انتكاستها مع الفترة الستالينية التي حولت السوفيتيات إلى مجرد مصدق على قرارات الدولة والحزب .

ثانيا: معوق رئيسي للحرية :-

إن الاستنكافية السياسية للجماهير والحالة النشطة للنخب تناقضا يؤدي إلى الانفصال حيث تعمل النخب على برمجة أفكارها وإقامة مؤسساتها باعتبارها (( تمثل )) مصالح طبقة اجتماعية معينة أو تمثل المجتمع . إن الحالة الديناميكية للمؤسسات النخبوية وحالة الاستنكافية السياسية النسبية للجماهير عامل مهم لإنتاج أنظمة الاستبداد والقهر بشكل دوري وإدامة هيمنة وسلطة الرأسمال . إن الطبيعة الاستبدادية للرأسمالية في مرحلة العولمة تتزايد كلما تزايد تركيز الهيمنة الرأسمالية وكلما تزايد هذا التركيز كلما ضاق هامش الحرية للغالبية العظمى من الناس معمقا انفصال المؤسسات عن المصالح الاجتماعية لجماهير العمال والكادحين وشرائح واسعة من المجتمع وبالتالي زيادة الأهرامات التي تجثم على صدر المجتمع . بمعنى أخر إن الانفصال يؤدي إلى (( استقلال )) نسبي ذو مصالح مؤسساتية خاصة للأحزاب والتجمعات المختلفة مكونا طبقة انتهازية تتطفل على امتهان العمل السياسي وأي عمل عام رغم ارتباطها في النهاية بالمصالح الخاصة لنظام الاستغلال . إن حالة ( الاستقلال النسبي ) ونزعة الولاء للمؤسسة هو جزء من الأزمة البنيوية لأنظمة الاستغلال حيث تعمل هذه المؤسسات دورا مهما في الاستلاب الاجتماعي والفردي لصالح التوجه البربري للحضارة البرجوازية المعولمة . إن الاستنكافية السياسية هي عبارة عن ( تفويض ) الجماهير أمورها ومصائرها لنخب وأحزاب أو قائد أو زعيم ملهم وفق إلية معقدة تعطي ألانطباع بأن هذه الجماهير تسيطر على صناعة القرار . في الأنظمة الاستبدادية تكون الوشائج بين الزعيم الملهم أو الحزب الفاشي والجماهير وشائج مبهمة وصوفية تملاها الأساطير مثل هوس عبادة الزعيم أو الحزب أو الأمة أو الأيدلوجية . وفي ظل هذه الأنظمة والحركات تساق الجماهير كالقطعان وتذبح على مذبح مصالح غريبة وبعيدة عنها ويمكن إن يطلق على ذلك ( التفويض اللاعقلاني ) ويشكل ذلك خطورة عظمى على الثورة الاجتماعية وعلى الإنسانية لذلك يكون التنظيم وقيادته وزعيمه وعقيدته ضرورة تاريخية يجب التضحية بكل شيء من اجل الحفاظ عليها وبالتالي يفصل المجتمع على أساس الجسد الحزبي والعقائدي ولا باس ببتر أجزاء واسعة من المجتمع ليلاءم هذا القياس وبذلك يكون المواطن متهما ومعرضا إلى شتى صنوف القمع ومصادرة الحريات والحياة . وفي ظل أنظمة وأحزاب كهذه تلغى الحرية تماما ويشيع النفاق الفكري والسياسي والاجتماعي . إن هذه الأنظمة تمثل الهيمنة المطلقة للمجتمع السياسي على المجتمع المدني مما يضيق من هامش الحركة الاجتماعية المناضلة ويعزلها عن الفعل السياسي والتدخل الحقيقي في الشأن العام . إما في الأنظمة الليبرالية فان الجماهير تنتخب ( ممثليها ) كل عدد من السنين وفق وعود انتخابية لا تنفذ لتعود إلى سباتها . إن الطابع لهذه الأنظمة طابع مزيف حيث إن صنع القرار في أيدي حلقات ضيقة في أجهزة الدولة تسيرها مصالح القوى المتنفذة في الطبقة السائدة غير إن هامش الحريات يكون أفضل بالنسبة إلى الحركة الاجتماعية المناضلة ومصالح الكادحين . كتب القاضي الأمريكي ( برنانديز ) إن ( اكبر خطر على الحرية هو سلبية الشعب ) وفي رأي ( برنانديز ) ليست الحرية السياسية في ذاتها ضمانا للحرية الكاملة فالفرد لا يمكن إن يعتبر حرا تماما حتى لو تمتع بكل ما ينطوي عليه ( صك الحقوق ) من حقوق . والمشكلة تنبثق بان الفرد ليس حرا اقتصاديا . إن تحرر الإنسان لا يمكن إن يتهم إلا بإنهاء ارتهان الإنسان إلى العوامل الاقتصادية . لكي نتخلص من هذه الأرتهانات لابد من وضع الأسس الفكرية والتنظيمية لإنهاء الاستنكافية السياسية للجماهير . إن أسلوب التفويض يجعل من الثورة الاجتماعية ثورة الطليعة ( المسندة ) من الجماهير و عندما ( لا ترتفع ) الجماهير إلى مستواها تتكون من الطليعة طبقة بيروقراطية ذات مصالح ( خاصة ) . إن أي ترقيع لهذه الإشكالية يكون عبثا فليس من الممكن إن ( يتطابق ) الوعي بين طبقة واسعة وطليعة ضيقة منظمة على جملة من العقائد بسبب الإلية الذاتية لكل ايدولوجيا وسعيها إلى التكامل وتقديم حلول نهائية بل إن المطلوب نقض التنظيرات وأساليب العمل القديمة جديا وليس ترقيعها .

على طريق مجتمع الحرية والعدالة

من خلال هذه الرؤية للتجربة الاشتراكية نرى إن الماركسية قد جزئت لتتحول تارة إلى نظرية اقتصادية أو نسق عقائدي جامد أو نظرية طبقية ضيقة . لقد ساعد على هذا الفهم الصراعات التي خاضها مؤسسوها وفق الظرف التاريخي المحدد وطبيعة الصراعات التي رافقت نشوء النظام الرأسمالي و طبيعة الأنظمة السائدة والفلسفات العديدة حيث كان ذلك العصر بحق عصر الفلسفة, ساعد ذلك على النظر إلى الماركسية نظرة مجزئة حيث فهمت هذه النظرية كمخطط جاهز للتطبيق وعقيدة جامدة وسيطرت على قياداتها مفاهيم شمولية واستبدادية . إن الماركسية قد عنت بالأساس بإلغاء كل الأرتهانات التي تستلب وتشيء الإنسان وفق منظور تاريخي ومنهج علمي وصولا إلى الحرية الكاملة حيث ( إن كل إنسان يصبح اجتماعيا تماما حيث يكون النمو الحر لكل فرد الشرط في النمو الحر للجميع ) . إن علينا أن نفهم إن كل ما يبدو في الأدبيات الماركسية ( كدوغما ) هو جزء من متطلبات الصراع الفكري المعين تاريخيا والمتأثر والمتحدد بالإيديولوجيات السائدة وقتها وليس كعقائد مقدسة نتعكز عليها لنطلق النعوت السيئة على الآخرين بل نعتمد على منهجها التحليلي لفهم الظواهر الاجتماعية والسياسية .. الخ . كفلسفة للبراكسس المتجدد . إن علينا إن نعيش عصرنا ونخوض صراعاته . عندما كتب ماركس رأس المال لم يكن يضع عقيدة اقتصادية بقدر ما كان يريد إن يثبت إن الرأسمالية تشيأ العمال جاعلة العلاقات بين الناس علاقات سلعية ربحية تسرق حقوق العمال وبالتالي إلغاء الطبيعة الإنسانية والاجتماعية في العلاقات بين الناس . وعندما هاجم الدولة وحلل جذورها الاجتماعية لم يكن يضع عقيدة في الدولة بقدر ما أراد إن يثبت أنها أداة للقمع والإكراه تحافظ على مصالح الطبقة السائدة . ويمكن النظر إلى جميع الصراعات الماركسية الفكرية على هذا الأساس إن ما حدث اثبت إن أي تراجع عن النقد الماركسي للنظام الرأسمالي كونه كلا مترابطا يربط بمفهوم أساس هو إن جوهر الماركسية هو فلسفة الحرية وان هذه الفلسفة ليست خيارا فلسفيا فقط بل هي تتويج لسعي الإنسانية عبر التاريخ نحو الحرية . أنها التعبير الاجتماعي الواقعي الذي نضج موضوعيا بفعل النظام الرأسمالي الذي أنتج البرولتاريا . إن هذه الرؤية المتواضعة هي مساهمة للإجابة على السؤال الكبير هل إن حلم البشرية في إقامة العدالة الاجتماعية وتحقيق الحرية مجرد حلم لم يتحقق ؟ من السذاجة بمكان التصور إن الإجابة على سؤال كهذا سيكون سهلا ومدرسيا وإذا تجاوزنا الفلسفات المعادية للإنسان فان الكرة ستقع في ملعب الحركة العمالية والتحررية فهي الوحيدة المؤهلة للإجابة. إن الإجابة على ذلك هي جهد نظري - عملي يجد نفسه انتقاديا للتجربة السابقة للعمل الاشتراكي إضافة إلى صراعه مع الفلسفات المعادية للإنسان . إن مفهوم ماركس للحرية يعبر عنه بتحليل الإبعاد الاقتصادية الاجتماعية لجذور الاستبداد والاستغلال وسبل تجاوزهما. إن استعادة الماركسية كنظرية للبراكسس مسالة ملحة ليس للعمال فقط وإنما للشرائح الواسعة للمجتمعات الإنسانية . إن البديل الذي نطرحه كيسار جديد يتميز بنظرية لا تبتر جزءا من القدم الاجتماعي الواقعي من أجل أن يتلاءم مع مقياس الحذاء الأيديولوجي , كما أنها لا تعتبر الصراع الاجتماعي نتاجا لتخطيط أيدلوجي خالص كما أنها ليست انعكاسا ميكانيكيا للواقع الاقتصادي . أنها نظرية مضادة للأرادوية بقدر ما هي مضادة للجبرية أي إن الإرادة ليست مستقلة عن الشروط الواقعية والموضوعية للصراع الاجتماعي وان الحتمية ليست قدرا حتميا مفروغا من حدوثه بل يرتبط بالنشاط الذاتي والمسارات التي يتخذها سلبا أو ايجابيا . إن ( حتمية ) النظام الاشتراكي هي أمكان بمعنى إن الشروط الموضوعية لتحقيق نظام اشتراكي متوفرة. فالنظام الرأسمالي يسير في نفق مسدود . إن تمركز رأس المال يتجه نحو تكوين اوليغارشية ضيقة معادية لبحر كبير من المجتمعات الإنسانية وما يترتب على ذلك من استبداد وطغيان يجعل من معركة الحرية بالمفهوم الماركسي ليست معركة طبقية ضيقة وان كان عمادها الكادحين وإنما معركة أغلبية المجتمعات ضد هذا التمركز وما يفرزه من ماس . إننا اليوم نرى الإمكانية الاشتراكية أكثر قربا من التحقق رغم الانحسار الظاهر للحركة الاشتراكية والذي هو انحسار مؤقت . إن ( الإمكانية الاشتراكية ) هي النضال من اجل التحرر والعدالة . إن هذا التصور يمثل جوهر الماركسية الحية ونقدها لأسس والية النظام الرأسمالي . إن سيطرة تيار ( اشتراكية الدولة ) طيلة عقود قد استبعد في حينه ظهور الاشتراكية التحررية حيث اعتبر الحرية كأفكار برجوازية وان الاستبداد الذي شاع باسم الاشتراكية هو من طبيعة الاشتراكية وبذلك غيبت حركة الطبقة العاملة لصالح آيدولوجية رأسمالية الدولة وسببت تغييب ( الحقيقة ) الاشتراكية . إن الميل نحو الديمقراطية والحرية ليس ميلا برجوازيا كما يبدو بل هو ميل عمالي بحاجة إلى التبلور والتأسيس النظري, أذا ما تسالمنا على أن الرأسمالية معادية للديمقراطية والحرية لسبب بنيوي بل أنها غير مخلصة حتى لمثلها اللبرالية التي كثيراَ ما تتجاوزها وتركنها على الرف أذا ما تعرضت مصالحها للخطر والشواهد على ذلك كثيرة , سواء في سياستها الداخلية أو الخارجية .

شهادة رجل ميت

كان جسدي مسجى . حاولت تحريك يدي دون جدوى ، بل إني فشلت حتى في تحريك بنان أصابعي . أذهلني كثيرا الصقيع الذي اجتاح جسدي ، رغم إننا في عز القيض ، وصار كل شيء فيه سكونا مطبقا . رددت زوجتي اسمي بطريقة غريبة ، لم أعهدها من قبل ، صرخت بها :-

- ما بك يا أمرآة ، لم تناديني هكذا ؟
أمسكت بيدي ورفعتها إلى الأعلى ، كما يحدث في الأفلام القديمة ، ثم تركتها لتهوي إلى جانبي كخشبة متيبسة . نضرت إلي نظرة بلهاء ثم صرخت
- يبوو يبوو ، لقد مات . لقد مات زوجي .
توالت صرخاتها وازدادت حدة ولوعة لتشق سكون الليل .
- اصمت بالله عليك ، فأن صوت الليل مسموع .
    استمرت بالصراخ بل أخذت تضرب وجهها وصدرها بعنف فيما امتلأت الغرفة تدريجيا بمجاميع متعاقبة من النساء وكلما جاءت مجموعة جديدة تلقتها النساء المتواجدات لتبدأ جولة جديدة من الصراخ واللطم . ويمكن لنا تصور حجم الصوت الذي تحدثه هذه الأجسام الممتلئة وتأثيرها المتضخم على أذني الملتصقة بالأرض .
- أدرن وجهه إلى القبلة ! قالت أحدى العجائز وهي تتمتم بكلمات في إذني لم أتمكن من سماعها بسبب الأصوات غير المتناغمة مما سبب لي صداعا حادا وشعورا بالقرف والغثيان ... اصمتن .. اصمتن ! تلاشى صوتي في ذلك الصخب ، بل ربما لم يكن لي صوت أصلا . في عين الوقت ، صعب علي كثيرا فهم حرقة هذه النسوة فالكثير منهن لا تربطني به صلة حميمية ، بل لم أر بعضهن في حياتي .
  بابا .. بابا ، صرخت طفلتي الصغيرة باكية وهي تشد جسدي إليها فحاولت تهدئة روعها بالمسح على رأسها دون جدوى مما اسقط في يدي فانتابني شعور حاد بالعجز والحزن جاءت جوقة جديدة من النساء المعزيات فلفت انتباهي من بينهن فتاة ذات قوام فارع وجسد رشيق لم أر مثلها في مدينتنا قط . لا أكتمكم سرا – فلا يليق بالميت أخفاء أي شيء – إن هذه الحورية قد استولت علي تماما ، فقد بعثت الدفء في أوصالي الباردة  وكان لطمها اقرب إلى الرقص وقد تموج شعرها كما تتموج مياه نهر غاف عندما تمر عليها نسمات هواء ربيعي هادئ . همست :
- امنحيني قبلة أيتها الفاتنة ؟
- يا للعار ، لا يحق لرجل ميت أن يطلب شيئا كهذا ؟
لم أر مصدر الأصوات الغاضبة التي عنفتني وقد بدت كحشرجة النزع الأخير رغم ذلك حاولت تسجيل احتجاجي ساخطا .
- لماذا لا يحق لي ذلك ؟
لم يجبني احد فصمت مرغما واختلست النظرات إلى وجه الفتاة الحورية فاضطرم بحمرة خجل وقد أزداد رقصها رقة وانسيابية كلما حملقت فيها .
      احتشد عدد كبير من الرجال في غرفة الضيوف والوجوم يخيم عليهم كأن على رؤوسهم الطير بعضهم يدخن وآخرون يطرقون  رؤوسهم وعيونهم تحدق في الأرض كما انشغل البعض باللعب بلحيته أو بمسبحته . قطع بعضهم الصمت الثقيل فاسترجع ليؤمن آخرون على استرجاعه ، فيما الوقت يمر بطيئا كزائر ثقيل الظل . قال الحاج :
- الله يرحمه ، لقد كان رجلا طيبا وشهما .
تعالت أصوات كثيرة تؤكد ذلك .
- نعم ، مرة احترق منزل جارنا وكان المرحوم أول من ...
تكاثرت التعليقات التي تشير إلى مناقبي ونسبت إلي أشياء حميدة كثيرة . لم أسجل رواية تروي عني مثلبة واحدة من مثالبي ، نعم كنت صادقا وصريحا إلى درجة ما ، ولكني أصبت بالذهول لكثرة ما نسب إلي من مناقب . قلت في سري يبدو إنهم يتكلمون عن رجل آخر .
  أكثر ما أثار استغرابي مدح الحاج فقد كان ديدنه مهاجمتي في غيابي . صرخت غاضبا اخرجوا هؤلاء المنافقين فلا أريد مشاركتهم في جنازتي .
    لم يعرني احدهم انتباهه فاكتفيت بالتذمر لنفسي . قال الحاج  :
- انظروا إلى الدنيا كم هي تافهة ولم يأخذ منها الإنسان سوى الكفن . لا شيء ينفعه سوى عمله ، فعليكم بصالح الأعمال .
    أثنى الرجل ميسور الحال على قوله مؤكدا .
- القليل من يتعظ  ، لا افهم سر تكالب الناس على حطام هذه الدنيا الفانية !
نظر أليه البقال – وهو مستأجر لإحدى محلات عمارته – نظرة غل دفين سرعان ما تلاشت . لقد كان يرفع سعر أجارات محلاته بدون مسوغ ، ولكنه امن على قوله صدقت والله يا حاج .. صدقت . تعالت أصوات الجميع لتأكيد ذلك ما عدا الفنان الذي كان ملتزما بالصمت وقسمات وجهه تظهر قرفا وتبرما وهو ينظر بين الفينة والأخرى إلى الساعة الكبيرة المعلقة على الجدار وقد أزعجه كثيرا البطء الشديد لحركة بندولها الثقيل .
    بدا لي واضحا إن العدوى قد انتقلت إلى الآخرين فاخذوا يختلسون النظر إلى الساعة وهم يعدون الدقائق لنقل جثماني إلى المقبرة ومواراته الثرى .
- لماذا تأخرتم بإحضار التابوت ؟
عنف كبير العائلة الشباب الذين كلفوا بجلب التابوت فشعروا بالحياء وأخذوا يتبادلون النظرات .
- لماذا لا تجيبون هل أصبتم بالخرس ؟
- إن خادم المسجد كان في حالة تستوجب الغسل فانتظرناه حتى فرغ من ذلك .
يا لله .. يا الله ، تنادى بعض الرجال قبل دخولهم إلى غرفتي . تريثوا هنيهة ثم دخلوا مسرعين انحنى رجل مسن ليغمض جفني وسط صرخات النساء التي تعالت بشدة يبوو ، يبوو .. يبوو . انطلقوا بي إلى قبري ، بعد تغسيلي ، ووسدني حفار القبرفي قبري ثم اهال التراب وانصرفوا مسرعين كأن أشباحا تطاردهم .
    فجاءه لف الصمت المكان فشعرت بوحشة مخيفة وخرجت إلى سطح الأرض فأنعشني الهواء وصار جسدي جميلا وحيويا وامتلكت صفات لم امتلكها من قبل . اخترق نظري المسافات الطويلة ليتوقف عند مرج اخضر توسطته نافورة ماء عذب والفتاة الحورية تستحم مع طفلتي وعلى مقربة منها الفنان وقد اختفى الوجوم الذي كان يسود ملامح وجهه . اعترضني سكان المدينة الغاضبون ، يقودهم الرجل الميسور الحال ، لقطع الطريق علي وهم يحملون معاولهم لإعادتي إلى قبري من جديد وكان كل شيء فيهم مقززا .
    اخرج الفنان ، من بين أدواته ، نايا جميلا واخذ يعزف عليه لحنا فتحول جميع أهل المدينة إلى أصنام فتخطيتهم واعتنقت الحورية طويلا وسط الحان الناي فيما كانت الطيور تزقزق وهي تعتلي أعالي الشجر الباسق .

الأيام الأخيرة

كانت غرفة صغيرة ، طولها ثلاثة أمتار و عرضها متران، قد بنيت من الطابوق الطيني (اللبن) بناءاً سيئا . لقد بناها جنود وحدتنا العسكرية لتكون سجناً يودع فيه المعاقبون لفترة زمنية قصيرة لمخالفتهم للأوامر و القوانين العسكرية،أو من أصحاب المجالس التحقيقية الذين ينتظرون محاكمتهم . كانت الغرفة أشبه بصندوق عتاد رباعية (الشلكا) المضادة للطائرات ، و إن اختلفت معه في الإبعاد ، و كذلك وجود فتحة صغيرة للتهوية لا يستطيع النفاذ منها سوى حيوان صغير بحجم القط .

على الرغم من هشاشة هذا البناء ، حيث يخيل إليك أنك تستطيع هدمه بركلة قوية ، إلا أنك تشعر، نفسيا ، بجدرانه و كأنها " جدار برلين " في إحكامه و الحراسة المشددة عليه ، رغم إن حارس السجن هو جندي يمسك ببندقية (كلاشنكوف) ، يقضي واجبه الممل و هو ينظر في ساعته اليدوية بضيق من حين لآخر في انتظار بديله ولا يقل تأزما و حنقا و سخطا عن المحبوسين ، و قد يكون واحدا منهم في يوم من الأيام .

نحن ألآن في حالة حرب طويلة ضروس حيث يدخل الجيش فيها ما يسمى بالحركات الفعلية و تنتشر الوحدات العسكرية خارج معسكراتها الثابتة . كان معسكرنا واحدا من تلك المعسكرات المتناثرة في منطقة ( النشوة ) حيث بدت تلك المعسكرات كجزر متناثرة في هذه البيداء الواسعة الإطراف ، إضافة إلى وجود بعض المزارع و القرى الصغيرة التي بقي فيها ساكنوها غير عابئين بالخطر الشديد الذي تسببه المعارك الشرسة لهم على جانبي الحدود ، حيث الأصوات المزمجرة للطائرات الحربية و القصف المدفعي ، و كذلك هدير الدبابات والعجلات العسكرية الذي يكاد أن يكون طقسا يوميا حيث رائحة الموت هي الرائحة السائدة .

كانت غرفة السجن تغص بالسجناء تارة ، و تخلو منهم تارة أخرى، فيما بقي هو الساكن الوحيد الثابت في انتظار ترحيله إلى ( محكمة الثورة ) في بغداد بتهمة سياسية قد تؤدي به إلى ألإعدام . لم يكن يؤنسه في وحدته هذه سوى وريقات و قلم يبثها همومه و شجونه.

لقد كنا صديقين ، ولدنا في شهر واحد وترعرعنا معاً . قلت له : لا أستطيع أن أتصل بك مباشرة فأنت تعرف أن حاسة الشم عندهم عالية . و كان بعض المتعاطفين معه ينقلون لي رسائله التي يبعث بها إلى أهله و أصدقائه حيث احملها لهم في أجازاتي الدورية .

كان آخر ما أرسله إلي خواطره التي دونها قبل ترحيله إلى المحكمة ، و قد ارتأيت نقلها ، بعد تردد مني ، كما هي بدون تدخل.

أحلامي ألأخيرة

مضت علي شهور طويلة ثقيلة ، كليل بهيم حالك لا يبدوا أنه سينجلي ، و أنا قابع في هذه الغرفة الطينية المعلبة بانتظار موعد المحاكمة المعروفة النتائج سلفاً بالنسبة للقضايا السياسة . إن القضايا "السياسية" عندنا متنوعة و غريبة قد تبدأ بتجريمك إذا ما لففت حذائك الجديد أو بقايا طعامك بجريدة، بدون انتباه منك ، فيها صورة القائد أو شعاراً حزبياً. أو تذمرت من شيء كانقطاع الكهرباء أو اختفاء بعض المواد الغذائية . أما قيام مجهول بكتابة شعار ينتقد الحكومة على جدار بيتك ليلاً فهو النهاية لك و لعائلتك . لازلت اذكر أحد الطلبة الذي شاهد مناماً فيه انقلاب عسكري على السيد الرئيس و باح به إلى عدد من أصدقائه و من ثم اختفى بعدها و لم يعرف عنه شيئاً . إما قراءتك لمنشور سري أو انتمائك إلى تنظيم سياسي فهو الطامة الكبرى لك و لعائلتك .

أمسكت قلمي بعد أن تلاشت أصوات المدافع و انفجارات القذائف المختلفة التي مزقت سكون الليل . لقد قضيت الليلة منزويا في زاوية ضيقة من زوايا غرفة السجن الطينية ، طلبا للاحتماء من القصف ! قد يبدو ذلك مضحكا ، فما الذي تستطيع فعله ، هذه الجدران الطينية ، تجاه أبواب جهنم التي فتحت على مصراعيها و ألقت بحممها ؟! إن الغريق قد يتعلق بقشة، كما يقال ، رغم أنها لا تنفع و لا تضر ، و لكنها غريزة التعلق بالحياة . أليست لعبة الحرب هي لعبة الموت؟

ألآن ، بعد أن بلغت بموعد محاكمتي ، أحسست برغبة جارفة في تدوين مشاعري الأخيرة على الورق . قد تستغربون كثيرا من " سياسي " التحدث بما سأتحدث عنه في أيامي الأخيرة . عادةً ما يتحدث السياسيون ، في مناسبات مثل هذه عن ذكريات النضال و مصاعبه ، و حكمتهم الأخيرة و توصياتهم ، إلا أني لم احلم و لم أفكر سوى بحبيبتي !

أرجوكم ألا تشجبوا أو تستنكروا و اسمحوا لي أن اعرض وجهة نظري . لقد فكرت كثيرا قبل أن اكتب اعترافي هذا ، و لكن بدا لي إن اللحظات الأخيرة هي لحظة الحقيقة و الصدق "فمن يوقف نزيف الدم في ذاكرة المحكوم بالإعدام ؟! " قد تجدون ألأمر غريبا و قد تقولون عني : ياله من حسي فاسق ، حيث أني قد أمضيت هذه الشهور و أنا احلم بأحضان حبيبتي ، و لكنني سأصدم فضيلتكم الزائفة بكلمات ( لوركا ) لحبيبته :( كيف أهبك قلبي إذا لم أكن حرا؟) وأنا أقول لكم كيف أكون حرا و أدافع عن قضية ما و أنا اخجل من احتضان حبيبتي ؟!

رؤى و أحلام عديدة قد راودتني طيلة هذه الشهور الثقيلة و لكنني سأدونها برمزية ، حتى لا افرح جلادي إذا ما عثر على هذه الوريقات ، فالجلاد لا يفهم الرمز لأنه غبي دائما و متبلد الذهن ، و حتى لا تصادر هذه الوريقات كما صودرت أحلامي !

* كليل متلفع بالسواد ، ينتظر ضوء القمر .. انتظرتك

و عندما أغتسل الليل بضياء فضي ..

انزوت روحي في ظلال عميقة.

* اقتاد روحي ، ذات مرة في ليلة حالكة ، ملاك لم أرى له مثيلاً .

وحين شاهد عذاباتي ، غاب كشهاب سطع لوهلة .

لقد تركني وحيداً أجتر ألمي .

* عجيب أنا ..

يضنيني ألتوق إلى الارتواء .

وعندما أقترب من حافات روحك ..

ينهار في داخلي رجل شجاع .

* ذات يوم قررت أحلامي أن تغادر إلى بر متشح بلون أخضر .

امتدت أمامها صحراء قاحلة ليس لها نهاية .. ولكن بلا واحات .

رؤى كثيرة ، كوساطات عقيمة ، لم تصالحني مع ذاتي المتمردة . لقد كان هنالك الكثير مما أردت قوله ولكنني لن أمنحهم نشوة معرفة كل شيء عني . سأدع الفضول يقتلهم . لقد راودتني أسئلة شتى لم تجد الإجابة بعد وقد لفها الليل بذأباته المشعثة ، وحيث أني ذاهب إلى ( درب الصد ما رد ) كما تحكي أحدى الحكايات الشعبية ، فأن رجائي الأخير ، والذي أتمنى ألا يصادر أيضاً ، رجائي لمن يعثر على هذه الوريقات أن يرسلها إلى حبيبتي ، وإن تعذر عليه ذلك أرجوا أتلافها مع شكري مقدماً ... وداعاً .

النشوة

1985م

لم أستطع العثور على حبيبته حيث إنها اختفت فجأة ، وهو أمر كثير الحدوث في بلدي ، مما أضطرني إلى أخفاء هذه الوريقات كما أخفي دليلاً جرمياً خطيراً . مرت عقود ثقيلة وتبدل الحاكمون . وحيث إننا لم نعرف مصيره قط حتى أستأذنه في نشر أحلامه الأخيرة لجأت إلى استئذان والدته العجوز .

- أماه .. لقد تغيرت الأمور وصارت عندنا فسحة من التعبير . هل تأذنين لي بنشر أحلامه ؟

ردت العجوز بقرف ولا مبالاة .

- ما الذي تغير ياولدي ، فما زالوا يمنعونه من احتضان حبيبته ؟!

أطرقت برأسها هنيئه ثم قالت : تيتي تيتي .. مثل ما رحتي أجيتي .

أغضبني يأس ومرارة الكلمات التي فاهت بها ألامرأة العجوز ومن أجلها وأجلنا جميعاً صممت على نشر أحلامه علها تساعدنا على احتضان حبيباتنا قبل أن يطبق الظلام تماماً علينا من جديد .

2011/02/05

الثورة الخلاقة ضد الفوضى الخلاقة

                   قراءة في ثورتي تونس و مصر

لقد شاع مصطلح "الفوضى الخلاقة " في الأدبيات السياسية باعتباره الإستراتيجية المفضلة لقوى الهيمنة العالمية بقيادة الولايات المتحدة لتفتيت بلدان العالم و تجزئتها ، و بالتالي إدامة الهيمنة و ضمان أفضل الشروط لتحكم الرأسمالية العالمية بالشعوب و مصائرها و جعل هذه الشعوب و اقتصادياتها الزيت اللازم لمحركات النظام العالمي "الجديد" الذي تعصف به الأزمات البنيوية التي لا يستطيع ألفكاك منها .

يلعب هذا المصطلح دوره التحريضي في قطع الطريق على أي نشاط ثوري جماهيري للجماهير نتيجة لخلط الأوراق في محاولة لخلق حالة من التماهي بين الاحتجاجات التي تنتجها ماكنة الفوضى الخلاقة ، و بين الاحتجاجات الثورية الساعية لتقويض أنظمة اللبرلة الاقتصادية المتطرفة، المفروضة من النظام العالمي الجديد ، و ما أنتجته من طبقات سائدة من اللصوص و الطفيليين ، الذين يستغلون السلطة لتكوين ثروات هائلة، أو من أصحاب رؤوس الأموال الذين ينمون ثرواتهم عن طريق الزواج الكاثوليكي بين السلطة و الثروة، مكونين حلفاً فاشستياً ضد الشعوب التي تزداد فقراً حيث يواجهون أبسط مطالبها بالقمع الوحشي.

و من هذا المنطلق تأتي الماكنة ألإعلامية الضخمة ، سواء الإعلام المصري الرسمي أو سائر الإعلام المشابه، من أشاعة هذا الخلط و تنسيب الثورة المصرية إلى نمط من أنماط الفوضى الخلاقة "لتخريب مصر" باعتبارها القوة الإستراتيجية الأهم في العالم العربي و أفريقيا ، بينما تأتي أفكار أخرى من المسكونين بعقلية المؤامرة بمنح أمريكا قدرة ألآله الذي يتحكم بكل شيء،فينسبون خروج هذه الملايين في الشوارع إلى العصا السحرية للساحر الأمريكي ؛ و يمكننا أن نشير بين قوسين أن عصي سحرة فرعون التي أخافت الناس و شلت قدراتهم قد أبطلتها عصى موسى في لحظة ، و هكذا تفعل ألآن الجماهير المحتشدة في ساحة التحرير.

و لمزيد من الوضوح من أجل فك ألاشتباك و إنهاء حالة التماهي الزائفة بين الفوضى الخلاقة و الثورة الخلاقة لبيان ماهية كل منهما ولنأتي أولاً على آليات عمل الفوضى الخلاقة .

تعتمد الفوضى الخلاقة على أشياء غير واقعية في الصراع فتستلب الإنسان – الإنسان و تحوله إلى الإنسان- العنصر أو الإنسان –الطائفة أو الإنسان – القبيلة و غير ذلك من التوصيفات الإنصهارية و تجعله متصارعا على هذه الأسس ، و هذا ماتراه في الصراع " الإسلامي – القبطي" مثلاً ، أو ما تراه من شعارات مفرغة من المحتوى كحقوق الإنسان و الحرية بشكل عائم " و هي اللهجة المفضلة للخطاب الأمريكي ، و قد شاهدناه على الأرض بشكل مباشر في العراق و أفغانستان ، حيث تسخر هذه الشعارات ضد الأنظمة المعادية لها فيما تصمت صمت القبور إذا ما كانت هذه الشعارات تضر بمصالحها (الحالة التونسية كمثال).

و الملاحظ أيضاً ترافق ذلك مع أعمال همجية و صراعات مسلحة غير مفهومة تدرك قوى الهيمنة تفوقها في ذلك و أنها لا تنتج سوى الرعب و الخراب و إدامة الصراع لتكون ألأوكسجين الذي يسري في عروقها و يمدها بالحياة و كما هو معروف فأن البوم تهوى المناطق الخربة .

هنا يأتي السؤال الخطير : ما هو الجديد الذي جاءت به الثورتان التونسية و المصرية ؟

السمة الأولى المهمة هو الانخراط المليوني الواسع للشباب الذي استطاع تنظيم ذاته بشكل غير تقليدي و بحيوية مذهلة ، و أثبت كفاءته و كفاحيته و إصراره و وعيه و مدنيته و تحضره، مما أذهل الأنظمة الحاكمة و جعلها تتخبط عاجزةً في محاولاتها التعامل مع الإحداث حيث لجأت إلى أساليب القرون الوسطى و إلى المافيات ألإجرامية في مقابل الطابع السلمي الحضاري للثورة . و رغم كل الاستفزازات و الأعمال الوحشية لحكم أنظمة الطبقات الطفيلية، فقد حافظت ثورتي تونس و مصر على طابعهما السلمي المتحضر و حمايتهما لأمن المرافق الحيوية و المدن و ألأحياء بينما كان ممثلوا الأنظمة يحاولون تخريب كل شيء.

هنا تبرز صورتان: الصورة الأولى ، النظام الجديد الكامن في رحم الاحتجاجات الشعبية و هو يبشر بالأمان و الحرية و المجتمع المدني و العدالة الاجتماعية . تقابله الأنظمة السائدة المتخلفة بالتعامل مع الجماهير بكل و حشية.

السمة الأخرى هي سيادة مفهوم الإنسان المواطن مقابل الإنسان المنصهر في فئة او جماعة مغلقة ، و بالتالي المجتمع المتساوي في الحقوق و الواجبات و من ثمة إلغاء الصراعات الوهمية.(لم تشهد مصر أي صراع طائفي منذ اختفاء السلطة الأمنية في مصر.)

السمة الثالثة ، إن التحرك الجماهيري الجذري لم يطال النظام فقط و إنما أيدلوجيته السائدة حيث نشاهد رفضاً و واضحا و مراً للأحزاب التقليدية المعارضة للنظام أو التي تشكل ظله ، و قد قيمتها الجماهير بأنها بدائل تعيد أنتاج النظام بواجهةً أخرى ، أي بتعديلات لا تمس الجوهر.

كخلاصة ختامية، فأن الوعي الجديد ما زال غير متبلور ، و يرجع ذلك إلى أن تراكمات الوعي الكمية لم تنتقل بعد إلى القفزة النوعية ، حيث تطرح الجماهير الثائرة إنها غير سياسية ، و في الحقيقة هي تمارس نشاطاً سياسياً من نوع جديد ينسجم مع الحقيقة الجديدة في التاريخ.إن هذا الاعتراض الجماهيري الكبير عمل سياسي من طراز رفيع. أنه مفهوم جديد للسياسة يحتاج إلى بلورة فكرية و أنماط تنظيمية جديدة سيفرزها هذا الحراك الجماهيري.