2011/02/15

من يكسر الجرة ؟

كثير من الحكايات التي نسمعها من جداتنا , أو نستلها من بطون الكتب القديمة , تنطوي على مكنون علم , أو معاجم للعبر لمن يعتبر . لكن يبدو إننا , في الكثير من الأحيان , لا نأخذ هذه الحكايات سوى أنها مادة للسمر والتسلية حتى يدركننا النعاس قبل أن تجتاح حياتنا التكنولوجيا الحديثة محيلة هذه الحكايات إلى متحف التاريخ , لترقد مع أخواتها من ميزات شعبنا الأصيلة كالنخوة والشهامة والرقيب الذاتي والمجتمعي وأمثالها إلا للباحث المنقب أو المتفلسف المترقب من ‘‘ مثقفينا ’’ الذين يتحدثون بنمط معين يسود نوعه ثقافتنا المحنطة . مثقفو ( مقهى ريش ) كما شخصهم الشاعر احمد فؤاد نجم .

إن ما في تاريخنا وحاضرنا , من العبر والأحداث , ما تشيب له الولدان .. قاطعته هل السبب هو قصورنا في وعض الناس ونصحهم لذا فهم مستمرون على هذه الحال ؟ أجاب : اربأ بك أن تكون واعضا من طراز حفاري القبور ودافني الجنائز , فهم في الوقت الذي يعزون أهل الميت بأننا ( كلنا على هذا الطريق ) , يساومون ببراعة من اجل الحصول على اكبر ربح ممكن من عملية الدفن .

أردت أن احكي لك حكاية ذات مغزى مفادها أن ناسكا بنى له كوخا في مكان منقطع على طريق خارجي يأوي إليه من أدركه الليل أو انقطعت به السبل , يستأنس به إلى أن ينبلج الصباح ليواصل رحلته . كان الناسك من دماثة الخلق بمكان فأعجب به رجل مهديا إياه جرة من السمن علقها الناسك فوق رأسه .. وفي أحلام يقضه باع جرة السمن ليشتري شاة ومن ثمن أصوافها اشترى خروفا ليراكم بعدها ثروة طائلة فيتزوج بنت الملك .. وكي لا تتكبر عليه واستجابتا لنصيحة أمه ( اذبح القطة في أول ليلة العرس ) افتعل شجارا معها رافعا عصاه ليضربها فجاءت بالجرة ليسيح على رأسه السمن مع شظايا الجرة المتكسرة .. قادتني هذه الحكاية إلى التأمل في ظاهرة قديمة جديدة عندنا تسبب لنا دوما أفدح الضرر , ومازالت , جاعلة منا (حصان الناعور) ندور وندور وعيوننا معصوبة دورانا أزليا حول محور واحد . يبدو أن العم هلكان قد توحد مع كلمة واحد إذ خذ يرددها حتى انه نسي وضع ( قوري الشاي ) على موقد النار - وذلك ما لم يفعله قط - ليصرخ بعد ذلك وجدتها .. وجدتها فأدركت أن أرخميدسا آخر قد ولد ولكن في ‘‘ علم الاجتماع السياسي ’’ . ما الذي وجدته ياعم هلكان ؟ فأجاب : سر بليتنا .. سر بلتنا وجعل يكررها بحماس . صمت قليلا ليضع ( قوري الشاي ) على الموقد مستأنفا : الواحدية سر بليتنا ورزيتنا . كيف ذلك ياعم قال :

ليس مصادفة أن يبدأ الانقلاب العسكري عندنا ( ببيان رقم واحد ) حيث يفاجئنا كالرعاف من دون مقدمات رغم ما يحمله في طياته من مسببات , اعتدنا على عدم قراءتها لأنها لا تعني شيئا. الرقم واحد يلغي كل شيء وأول ما يلغيه هو مبرراته المعلنة التي يستند إليها . الرقم واحد يأتي من المجهول ليقذف بنا إلى المجهول , فهو خارج التاريخ ولكنه يسكن الجغرافية دوما , لا يقبل القسمة إلا على نفسه منتجا واحدا أخر يسكن الجغرافية ويخرج من التاريخ . يفرخ الواحدات كالقائد الواحد الضرورة أو الزعيم المبعوث من العناية الإلهية أو الحزب الواحد أو الطائفة الواحدة عرقية أو دينية أو حزبوية أو عقائدية .. وهكذا دواليك . الواحد وان تعدد فانه يشترك في منظار واحد وان تخالف أو تالف وويل لمن يخرق هذا الناموس . المسموح به أن تكون متعارضا وليس معارضا شرط أن تكون واحديا في نظرتك وحل التعارض بين الواحديات المتخالفة لن يكون إلا بالنطع والسيف لسبب بنيوي . ما ينتج عن هذه العلاقة من دمارا ودم ليس مهما مادامت هذه الأطراف تتخادم في ما بينها وتتطفل على بعضها البعض . وربما يفسر ذلك الود الدموي بين هذه الأطراف , المهم أن نسق انساق النظام الواحدي وفلسفته في إن ( مليون واحد ليس إلا واحدا متضخما حتى وان تقيح وانشطر ) ولأنه نمو في السكون والجغرافية سوف يتعرض إلى الاختزال , وسوف تبتلع كل الواحدات من الواحد المتضخم كون الواحد بذاته أناني , شره , شرس , متوحش يحتقر الحياة ويعظم الفناء . يكره الفرح ويعشق الحزن , ينشر الدمار بدلا من نشر البناء لذا يضيق صدره بالتنوع ولا يرى في الكون سوى اللون الأسود .

لقد ابتلينا بالواحدية الاختزالية المتضخمة طيلة عقود طويلة من السنين التي لاحقت حتى بنات أفكارنا المختبئة في تلافيف الأدمغة والتي تغولت واختزلت الدولة والحياة في رجل واحد وذهبت بذهابه . غير أن نسق الأنساق الواحدي بقي صامدا وفاعلا حيث تجزئ إلى جزيئات عديدة تتقاتل بعنف وشراسة لإعادة إنتاج الواحد المتضخم مرة أخرى نسق الأنساق هذا أنتج لنا خرافة جديدة هي الواحدية الديمقراطية المرغمة على التوازن وتأجيل الحسم الاختزالي بفعل الضاغط الخارجي المسقط ديمقراطيته بحجم القنابل والصواريخ المنطلقة من الأسلحة المشتركة لقوات التحالف . ما يفرضه القطب العالمي الواحد الذي لا يرى سوى النيوليبرالية وحدها حلا وما عداها محاور شر بالمطلق , فكان ‘‘ الثقب الأسود ’’ الذي انجذبت إليه واحدياتنا بسرعة الضوء لنغرق طيلة السنوات الخمس في بحر من الدم . صب لنا هلكان قدحين من الشاي ثم استأنف :

ما عندنا هو الواحد الذي انقسم على نفسه وما أن يزول عنه الضاغط الخارجي , وأحيانا في ظله , حتى يحسم أمره . لكي نتعافى من أوهام الواحدية , الداخلية والخارجية , فإننا نحتاج إلى عصا تكسر جرة أوهامنا لندرك إن الواحد الخارجي والداخلي هو سر بلاءنا . والى هنا سكت هلكان عن الكلام المباح إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح .

ليست هناك تعليقات: