2010/10/09

قصة قصيرة ___ شجرة الصفصاف



كانت شجرة الصفصاف العتيقة تقف بمهابة بحيث تبدو خلفها البناية الحكومية المتواضعة أكثر تواضعا . ربما بدا ذلك لكثافة أوراقها ، وتفرع أغصانها ، المتشابكة والممتدة في كل اتجاه . وربما بسبب تواضع الدور البسيطة الجاثمة على امتداد الطريق ، عدا قصر الحاج سعدون ، المشيد وفقا للطراز المعماري للقصور البريطانية القديمة .
كل يوم يذهب خالد إلى مدرسته الابتدائية . تجهز له أمه حقيبته بعد أن تتأكد من عدم نسيانه أي شيء من لوازمه المدرسية . تقبله وهو يغادر البيت ، بعد أن تعيد على مسامعه النصيحة اليومية المعتادة بأن يسلك الأزقة التي تؤدي إلى مدرسته وأن لا يسلك طريق الشط ، بيد إنه يخالف هذه النصيحة دوما ، فقد كان يعشق النهر ، وكثيرا ما كان يسبح فيه مع أقرانه سرا ، لذا فأنه يسلك هذا الطريق كل يوم .
تغفوا مدنيته الصغيرة على ضفتي النهر بوداعة ، خصوصا في الصباحات الربيعية المشمسة ، مما استهواه كثيرا وأثار حسه المرهف وعشقه الصوفي للجمال ، لذا فأنه يفضل السير على هذا الطريق حيث يطلق العنان لخياله الخصب ، وهو يتطلع إلى النهر الهادئ بشغف .
لقد كانت أمه تخشى عليه من السير في هذا الشارع لأسباب عديدة . فشارع النهر هو الشارع الوحيد المكسو بالإسفلت من بين شوارع المدينة حيث ترتاده الكثير من المركبات المسرعة . كما إنها تخاف عليه من الغرق في النهر – ضحك في سره ، فوالدته لا تعلم إنه قد تعلم العوم ، وأنه قد صار سباحا ماهرا – غير إن الخطر الأكبر الذي يؤرقها هو الخوف عليه من ثور الحاج سعدون .
للحاج سعدون قطيع كبير من البقر ، يرسله صباح كل يوم إلى إحدى مزارعه الكبيرة التي تنتشر في أطراف المدينة لتنتهي في أعماق الريف ، ومن ثم العودة إلى المدينة عصرا ليقضي الليل في الزريبة التي تقع بالقرب من القصر . فترتان في اليوم يحتل قطيع الحاج شارع النهر ، حيث يقوده ثور أسود مخيف ، يسير مختالا بين إناثه ، في الوقت الذي ينظر فيه شزرا إلى كل من يتطفل على القطيع ليجبره على الحيدان عن الشارع ، ثم ينظر خلفه نظرة تفقد ، فيما كان المارة ينحدرون عن الشارع إلى أكتافه بحذر وتوجس ، وسط تحذيرات الراعي .
- إنه ثور عنيف وهائج ولا يمكن توقع سلوكه فاحذروه .
فوجئت الست زينب ، مديرة أول مدرسة ثانوية للبنات في المدينة ، بالحاج سعدون ومعه العديد من مرافقيه وهم يطلبون من العم أبو ناصر ، فراش المدرسة ، إخبار المديرة بحضور الحاج .
- أنت المديرة ؟
- نعم .
- أغلقي مدرستك وارجعي إلى بغداد . لا توجد عندنا بنات تذهب إلى المدارس .
غادر الحاج المدرسة فيما كان أبو ناصر يحاول إقناع الست زينب بالاستجابة لذلك الطلب .
- أنت لا تعرفين من هو الحاج .. أرجوك (تكفي شره) .. هنا ليس بغداد فالحاج هنا هو الحكومة .
- لقد عينتني الحكومة .. ولن ارحل إلا بأمرها .
أجابت الست زينب بتحد .
شجرة الصفصاف العملاقة ، إضافة إلى النهر ، واحدة من المعالم النادرة التي تستهويه وقد أضاف إليها (مشعل الحرية) وهو نصب انشأ حديثا بعد الثورة ، ينتصب بارزا على الضفة الأخرى للنهر ، مقابل الجسر الذي يربط بين الضفتين حيث يقع في موقع يتوسط المسافة بين قصر الحاج وشجرة الصفصاف العتيقة .
اختلفت الروايات في أصل هذه الشجرة لكن الرواية التي قالت بان احد أجداد الحاج سعدون هو من زرعها هي الرواية التي استقر عليها الناس .
- لقد جاء بها جد الحاج سعدون من تربة مبروكة .. لقد منحته وأبنائه البركة والبخت .
- الحاج سعدون بخيت ..
- نعم إنه ابن أجواد .. (أحنة داخلين عله بخته ) .
يزين جذع الشجرة الضخم خضاب الحناء ، وكثيرا ما تشاهد عدد من النسوة يخضبن جذع الشجرة وفاءا لنذورهن . لقد نسب لهذه الشجرة الكثير من المعجزات .
كثيرا ما يتوقف خالد قبالة الجسر ، ناقلا نظره بين المعالم الثلاث ، فيما ينتابه شعور لم يجد تفسيرا له إن هناك علاقة ما بين هذه المعالم لا يتمكن من فك رموزها . الوقوف أمام الشجرة العتيقة والتأمل فيها طقس يومي لخالد . بعد ذلك يرمي ببصره إلى مشعل الحرية ، عبر النهر ، لكنه يشعر برهبة ووجوم عندما تقع عيناه على القصر الكبير ، الذي يذكره بالثور الأسود المخيف فيلتصق ، لا شعوريا ، بجذع الشجرة الضخم .
أثار انتباهه ، هذا اليوم ، إن شجرته الحميمة تستقبل الكثير من الضيوف . لقد تحلق حولها العديد من التلاميذ الذين جلسوا القرفصاء ، وهم يحدقون برجل جلس متكأ على جذع الشجرة والإعياء باد عليه ولم تستطع كل مظاهر البؤس إخفاء محاسن عينيه الواسعتين حيث احتل سوادهما معظم العينين تاركا مساحة ضئيلة لبياضهما .
- لماذا لا تنظر ياعم إلى محدثك عندما تتكلم معه ؟
- عمي .. أنا أعمى .
ذهل خالد من إجابة الرجل ، فقد اعتاد أن يرى العميان بعيون مطمسة أو مشوهة .
- ولكن عينيك سليمتان ، فكيف تكون أعمى ؟
- إنه العمى الأسود .
قفز إلى ذهنه حديث جدته عن الماء الأسود الذي ينزل على العين فيمنعها عن الرؤية .
- إن هذا المرض ، نعوذ بالله .. الله يكفينا شره ، لا شفاء منه .
قالت جدته ذلك وهي تمسح على عينيه بكفها .. أسم الله جدة .. أسم الله على عيونك .. ثم رفعت يديها إلى السماء وهي تدعوا الله أن يحفظه من المرض ويكفيه شر بني ادم .
- سأكون طبيب عيون في المستقبل لأعالج هذا المسكين وأمثاله من الفقراء. قال ذلك في سره .
- لماذا غادرت البيت وأنت على هذه الدرجة من الإعياء والمرض ؟
- أنا رجل منقطع وليس لي أحد إلا الله - قال الأعمى - ولم أذق طعاما منذ الأمس لذا خرجت على باب الله .
شعر خالد بغصة .. أيعقل هذا ؟ وهل يعقل أن يترك الإنسان لمصيره دون أن يهتم به أحد ؟
- إن الله سبحانه وتعالى قد ادخل امرأة النار لحبسها قطة ، فلم تطعمها أو تتركها تبحث عن رزقها حتى ماتت .
قال ذلك العم كشكول وهو يتحدث إلى مجموعة من الرجال الذين تحلقوا حول منقلة الفحم التي تبعث الدفء في أوصالهم الخاوية .
علق بعضهم الناس للناس .. وقال الآخر :
- إن الله سيحاسب الجميع إذا جاع فيهم أحد ولم يطعموه .
فكر خالد : إلا يخاف هؤلاء الناس من النار ؟ ولماذا تركوا هذا الأعمى جائعا ؟
- لن أصدق كل ما يقوله الكبار بعد الآن .. فهم يقولون ما لا يفعلون .
قال خالد ذلك بثقة وتصميم فيما انسابت الدموع من عينيه بصمت .
- لا تذهب ياعم ، فبيتنا قريب .. ساتيك بالطعام .
لم يستطع الرؤية بوضوح ، بسبب الدموع التي ملأت عينيه ، حتى إنه لم يبصر التلاميذ الذين يقطعون الطريق عدوا وهم يلعبون ويتضاحكون .
- إن الله قد قسم الأرزاق بين الناس وجعل لكل مخلوق رزقه .. حتى الدودة التي بين صخرتين جعل لها رزقها .
كانت جدته تقول له هذا الكلام كثيرا . قال لجدته :
- ياجدة .. أين ذهب رزق هذا الأعمى ؟ وهل الدودة أكرم على الله من الإنسان ؟
لم تفلح إجابات الجدة البسيطة في إقناعه مثلما لم تستطع شجرة الصفصاف ، الموغلة بالقدم ، في إطعام الأعمى الجائع . شعر بان انبهاره بهذه الشجرة قد تضائل .
- أي شجرة كاذبة هذه التي لا تطعم جائعا ؟!
نظر إلى صخرتين متلاصقتين ، في باحة البيت بحب ، وأخذ يمسح عنهما التراب ويغسلهما بالماء ، على غير عادته ، فلم تكن الصخور من قبل تثير اهتمامه .. بحث عن فأس وأخذ يضرب به جذع شجرة الصفصاف الوحيدة في حديقة البيت وهو يصرخ
- علينا أن نقطع شجرة الصفصاف اللعينة هذه .
نظرت جدته أليه بقلق وهي تتابع تصرفاته الغريبة .
- أسم الله جدة .. أسم الله عليك .. ما بك ياولدي وما هذه الأسئلة والتصرفات الغريبة ؟
نظر أليها ، نظرة ماكرة ، وقد اضمر ما يفكر به فيما شعرت الجدة بالقلق الشديد عليه . قامت بإخراج (حرز) تحتفظ يطرد الشياطين ويقي حامله من مسهم ووضعته في أحشاء وسادته .
جاء صوت أمه من المطبخ يعلمه بانتهائها من طبخ الطعام . حمل القدر وقد اكتسى ووجهه بصرامة غريبة على ملامح طفل فيما تلاشت الدموع من عينيه .. فلم يعد يبكي .
سار خالد في وسط شارع النهر بثقة ، ولم يأبه للثور الأسود الذي أحتل الشارع مع قطيعه .
- رحم الله والديك . قال الرجل الأعمى وهو يلتهم الطعام . نظر خالد إلى الشجرة العتيقة ، مطولا ، نظرة غامضة . بصق على جذعها بغضب واحتقار .
- سأقطعك أيتها الشجرة اللعينة عندما أكبر .. أقسم على ذلك .
نظر إلى مشعل الحرية بتمعن ثم تناول حقيبته المدرسية ووضعها على ظهره ، متجها صوب المدرسة بشوق ولهفة لم يعرفهما من قبل

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

لغة هذا النص متمهلة وموحية وخصوصا في الوصف وأقرب الى لغة الرواية منها الى لغة القصة القصيرة .. في الأسلوب ثمة متازج بين الواقعية الشديدة في الوصف واعتماد على خزين الذاكرة في الأحداث . هل تمكن الكاتب من إيصال فكرة رئيسية ما من نصه أم اكتفى بإمتاع القارئ ؟ يبدو لي أنه حقق المهمتين بشكل واضح ويبقى كاتب هذا التعليق يتساءل : أهذه قصة قصيرة فعلا أم صفحات مجتزأة من رواية ؟ شكرا عزيزي كامل فقد استمتعت فعلا بهذا النص ... علاء اللامي