2011/01/31

تونس – مصر

                 جدل الثورة الاجتماعية والبعد السياسي

لقد أشرت في مقال سابق إلى فرادة الثورة التونسية باعتبارها نموذجاً للثورة الاجتماعية التي تضع الإنسان في صدارة اهتمامها على طريق إلغاء استلابه الاقتصادي والإيديولوجي وكافة أشكال الارتهان والعبودية التي تمس كرامته . بعد تونس ، جاءت الثورة الاجتماعية العظيمة للشعب المصري لتضرب أحد أقوى حلقات السلسلة للأنظمة التبعية والقهر وطبقاتها الطفيلية الحاكمة ، وسط ذهول قوى الهيمنة العالمية وتوابعها في المنطقة التي لم تجد أمامها سوى القمع والإرهاب العلني ، أو خططها السرية في الانتقام من الشعوب عن طريق أجهزتها السرية مستعينة بكل الجماعات المنحطة في المجتمع وشعارها (نحن أو الطوفان) .

على صعيد الأنظمة ، هنالك أمر مشترك بينها إنها تحكم بالحديد والنار وكونها أيضاً أنظمة هشة تسكن الجغرافية ولكنها خارج التاريخ ، أي إنها عبارة عن أنظمة فاشلة ومفتعلة ، بمعنى إنها لا تعبر عن ضرورة معينة ، بقدر ما هي أدوات مفروضة ومصنعة من قبل قوى الهيمنة العالمية . وإذا ما أمعنا النظر في طبيعة الاحتجاجات الجماهيرية وقواها المحركة لوجدنا إنها تختلف جذرياً عن الأساليب والتكتيكات المعروفة في العمل السياسي حيث تصنف على إنها تحركات " عفوية " وغير منظمة ، وهذهِ صورة خادعة ، تستمد تصوراتها من الفهم الكلاسيكي للتنظير والعمل المتكلسة وبذلك تحجر على الجديد بنزعة محافظة ولم تدرك إن الجماهير الخلاقة الساعية إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية قد ابتدأت بابتداع أساليب نضال خلاقة ونقدية ، ليس باتجاه الأنظمة التابعة الحاكمة بل اتجاه بدائلها المعارضة من أحزاب وتيارات تقترب من بنية هذهِ الأنظمة في النوع وتختلف عنها بالدرجة .

إن الجماهير ، بحسها العفوي ، تحاول أن تمنع مشاريع الأنظمة الكامنة المحتملة كبديل عن الأنظمة الحاكمة الحالية حيث نلاحظ ذلك واضحاً في الردود الجماهيرية الحاسمة على أي تنظيم ، وأي كانت إيديولوجيته ، يحاول تجيير حركة الجماهير وحرفها إلى إيديولوجيته الخاصة وشعاراته الفئوية . إن رفض الجماهير للأنظمة الحاكمة وبدائلها الفئوية هو الخيط الدقيق الذي استندت عليه في أطلاق صفة الثورة الاجتماعية على ثورتي تونس ومصر .

إن الثورة الاجتماعية ليست ثورة مطالب اقتصادية معينة أو من أجل بعض الحريات المفرغة من المحتوى كما يحاول البعض تصويرها وإنما هي ثورة تذهب إلى أبعد من ذلك باصطدامها بعنف بالطبقة الطفيلية ونموذج ما يسمى بالاقتصاد الحر الذي تريد فرضه الإستراتيجية الأمريكية على الشعوب ذات الاقتصاد التابع من أجل نهب ثرواتها.

2011/01/27

عرصة (أبو فيصل)

في كل يوم تنقلنا سيارة نقل العمال إلى المعمل بعد أن تلتقطنا من أحشاء الأحياء البائسة, بيد إن أبو فيصل لا يجلس على المساطب الخشبية المحورة – كون السيارة في الأصل سيارة حمل صغيرة - وإنما يقرفص على قدميه عند نهايتها المطلة على الشارع ليرمي بصره بعيدا عن حافة الجانب الأيسر للطريق الإسفلتي خارج المدينة .

منذ أن ولد , لم يمتلك مترا من مساحات الوطن الشاسعة , بل عاش مابين التجاوز والاستئجار دافعا نصف " دم قلبه " وهو تسمية أبو فيصل لأجره الشهري, مقابل غرفة واحدة وملحقاتها.

كان يشكو إلى العم هلكان همه السكني بشكل يومي إلى أن جمع ( العنده والماعنده ) ليشتري عرصة على أطراف المدينة عسى أن يستطيع في يوم ما بناء غرفة يستظل بظلها (ويخلص من طلابة الايجار ) كما قال للعم هلكان .

هذا اليوم كان العم هلكان مرحا فقد وشت به قسمات وجهه ورائحة الهيل التي عبقت وهو يقدم لي قدح الشاي المهيل ويغني بما يشبه التمتمة ( مرينة بيكم حمد وحنة بقطار الليل.. وسمعنة دﮔ اﮔهوة.. وشمينة ريحة هيل ) . لاحظ علامات الاستفهام على وجهي فارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة لم تستطع محو الأخاديد التي حفرتها على وجهه هموم القرون الطويلة التي أنتجها العوز والقهر المستدام موضحا : لابد لمن يعرف أبو فيصل من الابتسام وهو يتحدث عنه . في كل يوم يمتلئ أبو فيصل بالحيوية عندما تقترب السيارة من عرصته حيث يحدد لنا إحداثياتها من خلال نقطة وحيدة هي المعسكر الأمريكي , مما يعرضه إلى العديد من ممازحات رفاقه العمال - بسبب تأديته لهذا الطقس اليومي – وردود فعله الغاضبة مما أغرقنا بنوبات من الضحك لا تنقطع .

المعسكر الأمريكي يجثم كالكابوس على عنق الطريق , ليحصي كل شاردة وواردة , غير انه رغم كل تقنياته المتطورة لم يستطع رصد نظرات أبو فيصل وهي تخترق أسوار المعسكر المحصنة لتفيض حبا وحنانا وحسرة وهي تحتضن ذرات تراب عرصته .

مازال يرمق عرصته كعادته بوله عبر أسوار المعسكر رغم تحوله إلى الجيش العراقي . في هذا الجو المشحون بالسياسة والحديث ذو شجون يتحدث العمال عن الدكتاتورية والديمقراطية فتثار ثائرته وينهرهم ناعتا إياهم بالمجانين .. أبو فيصل لاتهمه السياسة وشجونها فهي لا تبني له دارا ولا تنقذه من جحيم الإيجارات المرتفعة . لم يمتلك دارا لا في زمن الدكتاتورية ولا في زمن الديمقراطية لذا فان من يتكلمون في السياسة هم من المجانين ( المسودنين ) حسب تعبيره . وليس بالديمقراطية وحدها يحيى الإنسان .. والحمد لله الذي يهلك ملوكا ويستخلف آخرين , سنته الأزلية في خلقه والبقاء له وحده .

قال لي هلكان بن تعبان العريان العراقي لم ولن تنتهي قصة أبو فيصل وأمثاله إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح . وهنا سكت هلكان عن الكلام المباح

2011/01/24

ثورة تونس - قراءة أولية

لقد شهد التاريخ ثورات عظيمة تركت أثارها وبصماتها على العالم . ويمكننا الإشارة إلى الثورة الفرنسية وثورة أكتوبر الاشتراكية ، باعتبارهما الثورتين اللتين رسمتا الاتجاهات التي سارت على منوالهما الإحداث في الكثير من دول العالم لعقود طويلة ولربما لقرون من الزمن .

نأتي هنا على الثورة التونسية التي يبدوا من سير أحداثها بأنها الثورة المتميزة الثالثة التي سيكون لها تأثير مشابه للثورتين الانفتي الذكر . أني أرى إنها الثورة الأقرب للثورة الاجتماعية التي تنبأ بها (ماركس) والتي وصفها بأنها الثورة التي لا يخلقها حزب أو عصبة من الرجال مهما كانوا متحمسين وذوي عزم ، كونها نتاج "موقف ثوري ينتج من عدة عوامل : تذمر مزمن ، وانقسام بين أعضاء الطبقة الحاكمة مع انفصال قطاعات مهمة عنها ، كذلك تكرار الأزمات بمعدل متزايد ، إضرابات وشغب ومظاهرات ضخمة ، ثم انهيار النظام القديم نهائياً . الملاحظة المهمة جداً لنجاح الثورة ، كما قال : إن الثورة لا يمكن أن تنجح حتى تقتنع الجماهير بأنها لا تريد النظام القديم ويثبت الحكام إنهم عاجزون عن الحكم ، وهذا ما يحدث الآن في تونس .

إن الطبيعة الاجتماعية لثورة تونس وطبيعة شعاراتها المعبرة عن ذلك : الخبز ، العمل ، الحرية والكرامة ، العدالة ، التي ربطتها بالإطاحة بالنظام القديم وكافة رموزه تمثل ربطاً جدلياً واستلهاماً ذكياً لطبيعة الأزمة والأهداف المرجوة الانجاز ، وكذلك فأنها تمثل وعياً متقدماً لنقض نظام أدت طبيعته البنيوية ، وليس شخصاً بعينه ، إلى ما آل أليه الوضع من أفق مسدود للحياة السياسية والاجتماعية . ومن هنا يمكننا فهم أسباب الإصرار الجماهيري على الوصول بالثورة إلى نقض النظام القديم وبناء نظام جديد محله .

إن المطالب الجذرية المرفوعة هي مطالب حقيقية ملحة أدركها الوعي الجمعي للجماهير وإن إصرارها العظيم على طرحها بقوة واستمرارية ناتج عن وعي مدرك بأن على الثورة أن تهيكل مطالبها على أرض الواقع في ضل إلغاء الاستنكافية السياسية للجماهير وحضورها بقوة في الشارع وهي تدرك إن الحلول الوسطية مثل الحكومة الانتقالية الحالية هي محاولة التفاف على ثورتها وهنا يجب أن يبرز دور القوى الفاعلة الحية للإسراع بتمكين الجماهير من إيجاد مجلس تأسيسي وحكومة انتقالية حقيقية لتصريف شؤون الدولة وإنجاز مشروع دستور وقوانين تهيأ لانتخابات عامة تناقش هذا الدستور وتقره . ويمكن للمراقب ملاحظة حجم المطالبة بإسقاط الحكومة الانتقالية من دون توصل القوى والفعاليات الحية إلى آلية محددة لتحقيق ذلك . هنا أسمح لنفسي بالتحذير من هذه الحالة الشللية الخطيرة في هذه اللحظة التاريخية فأن الزمن أذا ما طال بهذا الوضع فأنه سيسمح لقوى النظام القديم بالتعاون مع القوى الإقليمية والدولية المتضررة من الثورة باستعادة توازنها والعمل على احتواء الثورة وإجهاضها .

2011/01/16

ثورة تونس وخطر الالتفاف

لاشك في إن ثورة الشعب التونسي هي ثورة فريدة من نوعها . شعب أعزل يواجه دكتاتورية راسخة وبشعة ، وطبقة سياسية اقتصادية فاسدة محمية من نظام الهيمنة العالمي وتوابعه من أنظمة القمع الإقليمية ، استطاع باستخدام التظاهر ووسائل الاحتجاج السلمي ، في زمن قياسي ، إجبار رأس النظام على الهروب .

الشيء المهم الأخر في نجاح هذه الثورة ، الذي لمسته كمراقب ، هو عدم بروز الحساسيات الحزبية والفئوية الضيقة في الشارع المنتفض . كانت شعاراته واضحة وحاسمة ، الخبز ، حق العمل ، الحرية بكافة أشكالها والكرامة الإنسانية ، رحيل الدكتاتورية ، وهذه الملامح تجعلنا نصنف هذه الثورة حقاً كونها ثورة اجتماعية سياسية شاملة ، أي أنها مثلت وتمثل نقيضاً شاملاً لا بديلا لدكتاتورية الحزب الدستوري منذ عهد الراحل بورقيبة إلى عهد سلفه الهارب بن علي .

يخطأ من يضن أن كل شيء قد انتهى برحيل الطاغية ، إلا من كان ساذجاً أو متساذجاً من الناحية السياسية ، فنظام بن علي ليس شخصاً وإنما هو منظومة متكاملة ، اقتصاديا وسياسياً وإداريا وإيديولوجيا تمثل طبقات وشرائح طفيلية تابعة مندرجة في بنية نظام الهيمنة السائد عالميا .

ومن هذا التحليل لطبيعة الثورة التونسية وطبيعة النظام الذي رحل ممثله ، وبقي هو وإن تصدع وتلقى الصدمة . ليس هنالك من حل وسط ، فأما أن تبني الثورة نظامها ومؤسساتها وفق تطلعات وأهداف الجماهير المنتفضة ، وأما أن تكون الثورة المغدورة حيث يعاد أنتاج النظام السابق بوجوه مختلطة أو حتى جديدة تعيد الكرة مرة أخرى في قمع ونهب الشعب . الحل ليس في تبدل الأشخاص والأحزاب والإيديولوجيات التي تنتمي بنيوياً إلى المنظومة الاقتصادية – الاجتماعية وإن بدت متعارضة سياسياً ، وإنما في إيجاد بنية جديدة تلبي متطلبات واحتياجات ومزاج الشعب في المرحلة الراهنة .

إن الدعوات الحالية لرموز النظام التي ما زالت في سدة الحكم بحجة احترام الدستور والشرعية وعدم الفراغ الدستوري إنما هي السلاح الخطير الذي تخطط له وستستخدمه أنظمة الهيمنة الخارجية المتنفذة لإنقاذ بنية النظام الفاسد بالتوافق مع الطبقة السياسية المندرجة في البنية التحتية للنظام .

إن الشرعية الحقيقية للشعب الذي أعطاها في ثورته بتصويته ، بكل وضوح ، على عدم شرعية النظام القائم ، وأن لا شرعية لدستوره ، والشعب مصدر السلطات والدستور ، وكذلك لقوانينه وممثليه السياسيين الذين ما زالوا يتربعون على هرم السلطة .

أن الشرعية الوحيدة هي لمجلس تأسيسي منتخب بحرية يقوم بكتابة دستور وقوانين تناسب المرحلة لتجري بعدها انتخابات ديمقراطية حقيقية ، وما عدا ذلك ، سيؤدي حتماً إلى إعادة إنتاج نظام قهر جديد .

2011/01/15

عندما يفهم السيد الرئيس !

تابعت خطاب السيد الرئيس بن علي وقد أصبت بالدهشة . لم أتصور هذا الكم من الوداعة والحنان الذي خاطب به شعبه وهو يؤكد : لقد فهمتكم . نعم الرئيس منذ أكثر من عشرين عاماً ، قد فهم ما الذي تريدون منه أيها التوانسة ، فلتزغرد نسائكم ، وليرقص رجالكم فرحين بدلاً من التظاهر والموت برصاص القناصة من رجال أمنه ، وليهنئ بعضكم بعضاُ ... أخيراً قد فهم السيد الرئيس !

نعم بعد أكثر من عشرين سنة رئاسية ، وثلاثون سنة من الخدمة لتونس – كما قال – قد فهم السيد الرئيس إن تونس تحترق . بعد كل هذه العقود الطويلة الثقيلة من الزمن أكتشف ، سيادته ، إن شعب تونس لا يمتلك الخبز ولا العمل ولا الحرية . الذنب ليس ذنبه وإنما ذنب من غلطوه وغشوه من مستشارين وحزبيين ووزراء فاسدين ولم يخبروه الحقيقة . أما الفساد ، نعوذ بالله منه ، فلم يعرف به فالرئيس يقبل بكل شيء إلا الفساد ، لماذا لم يخبره أحد بأن أقاربه وأزلامه وأصحاب رؤوس الأموال الطفيليين الشرهين والمقربين والمتزلفين قد (شفطوا) ونهبوا كل شيء ؟ لقد تصور أن هنالك عصابات قليلة قد جاءوا من جزر الواق واق ، وليسوا من أهل تونس كانت وراء هذه الأحداث والذين استغلوا بعض التظاهرات المشروعة التي طالبت بأشياء بسيطة وهي إيجاد الفرص لتشغيل مئات الآلاف من العاطلين بدلاً من جعلهم أكلاً للأسماك في البحر وهم يهربون من جنته ومعجزته الاقتصادية ، وكذلك القضاء على الفساد المستشري وإنهاء معاناة الأسر التونسية من إخطبوط الغلاء الفاحش ، ونزع الكمامات عن أفواه الناس ، وإطلاق الحريات وو... غيرها من المطالب البسيطة للشعب التونسي .

نعم لم يعلم ، ولي الأمر حفظه الله ، بما جرى ويجري إلا بعد أن أحرق الشاب العاطل عن العمل نفسه أمام رمز الدولة في بلدته وخروج الشعب أثر ذلك بأغلبيته الساحقة ليقول للسيد الرئيس : كفى .. كفى ، أرحل ولكن هنالك سؤال بريء : هل حقاً إن السيد الرئيس قد فهمكم أيها التونسيون ؟!

2011/01/11

عبد العال موسى مناضلا وشهيدا

كم هي الاحداث والحيوات الكبيرة والجنود المجهولين في التاريخ الكفاحي الطويل لليسار العراقي ، على امتداد تاريخه العريق ، قد بقيت مجهولة لتطمر في زوايا المجهول فيما تصلح كل جزيئه منها لتكون دراما رائعة وكبيرة . هنا يجب الإشارة إلى مسألة مهمة وهي إن هناك الكثير من الظلم وعدم الإنصاف قد تعرض ويتعرض له الكثير من مناضلي اليسار ، وهل هناك ظلم أشد من بخس الناس أشيائهم وترك هذه الحيوات الكادحة المناضلة ليغطيها غبار التاريخ ومقتضيات السياسة والتحزب والمصالح الانانوية الضيقة بعيدا عن التوثيق ؟

إن القراءات لهذه الإحداث يجب أن تكون موضوعية بعيدا عن المعيار الذي يستند إما على التبجيل المطلق أو على الإدانة الأخلاقية فما هي إلا حركات اجتماعية تتحدد بزمنها وظرفها لها ما لها وعليها ما عليها .

أود أن أقدم شكري وامتناني إلى كل من ساعدني في إنجاز هذا الموضوع ، كما أقدم اعتذاري مسبقا لكل من يخالفني الرأي وعذري لذلك إن الحقيقة أهم كثيرا من المجاملات وهذا ما اجتهدت به ولا ادعي العصمة .

الشطرة .. مدينة تغفوا على ضفتي نهرها الحالم

محافظة الناصرية بمدنها واهوارها وقراها يمكننا اعتبارها المحافظة الثائرة دوما . ربما لم تكن صدفة إن هذه المحافظة كانت موطن حضارة سومر العريقة فتلاقح الماضي مع الحاضر . فهي بلد الثقافة والأدب والفن والحضارة وإن عدت عليها عاديات الزمن ونالت قسطها من الخراب والتخريب الذي طال الوطن بعمومه فأصابها ما أصاب الجميع .

قضاء الشطرة واحد من حاضرات هذه المحافظة الكريمة المعروفة بطيبة أهلها ووداعتهم وقوة شكيمتهم . لم تكسبهم طيبتهم ووداعتهم ضعفا ولم تمنحهم قوة شكيمتهم قسوة إنها مدينة تغفوا على ضفتي نهرها النحيل الحالم – وهو فرع من نهر الغراف – فتحضنه بشغف فيما يبعث الحياة في أوصالها . في مثل هذه البيئة نشأ وترعرع شهيدنا مليئا بالشهامة ، كما كان عقله متنورا ومواقفه صلبة ومقدامة كما هم أهلها الطيبون . كانت هذه البيئة تبحث عن أدواتها لتستخدمها في حل اشكالياتها فوجدت الحل في الفكر اليساري وكانت الشطرة لها باع كبير في ذلك فصارت قلعة من قلاع اليسار في العراق وكان أبو مؤيد واحدا من الناشطين الشيوعيين الأوائل فيها .

محطات من حياة الشهيد

كتبت مجلة الحقيقة الذيقارية الصادرة في تشرين الأول 2003 ، العدد الثالث المعلومات التالية :-

· ( عاش هموم الناس والوطن فقادته تلك الهموم إلى درب الحزب الشيوعي العراقي ، ففي عام 1939 م ربط مصيره مع الحزب فكان بيته خندقا للرفاق . ) أي انه أنتما مبكرا بعد سنوات قليلة من الإعلان عن تأسيس الحزب ، وكذلك يمكن الاستنتاج إنه لم يكن بعيدا عن فكر الحزب قبل تاريخ انتمائه المذكور . وفي رسالة من الرفيق علي عويش الهلالي سكرتير اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في قضاء الشطرة ، بتاريخ 12/4/2010 يذكر تاريخا آخر ( أنه عبد العال موسى – أبو مؤيد – ابن الشطرة البار الذي نذر حياته منذ صباه لقضية الشعب والوطن حيث لازم خط النضال الوطني والكفاحي الطبقي منذ عام 1946 كما ابلغني بذلك الرفيق عيسى جعفر حيث تعايش معه , خاض غمارها بكل شجاعة وإباء لا تلين له قناة أمام الجلادين سواء في العهد الملكي أو ما تلاه طيلة عهود من السنين . ) ولكنني أميل إلى الرأي الذي نشرته مجلة الحقيقة حيث ذكر لي الشهيد إنه انتمى إلى الحزب في نهاية الثلاثينيات .

· ( في أربعينيات القرن الماضي حيث نمى عود الحزب نمى عوده فأخذ يشارك في انتفاضات الشعب وبروح الشباب الثوري راح يوزع المنشورات يوم كان جنديا في حامية الناصرية ليلقى القبض عليه ويحكم سنتين . في السجن تشتد عزيمته حتى إذا تنسم الحرية من جديد عاد مشاركا في انتفاضة تشرين الثاني 1952 . )

· ( في عام 1960 أعتقل ثانية ليودع في سجن العمارة سنة واحدة وعندما أطلق سراحه أخذ يعمل في أحد مقاهي مدينة الحرية في بغداد مواصلا عمله التنظيمي والجماهيري بكل إباء ، وكأنه مجبول على السجن والاعتقال فقد اعتقله عام 1964 من جديد . )

· (بعد خروجه من السجن عاد إلى مدينة الشطرة حيث تم إعادته إلى وضيفته مساحا في مدينة الناصرية عام 1968 . وفي الناصرية عاود نشاطه الحزبي فكان بيته ملاذا للشيوعيين . ) هنا أود التوضيح أنه خرج من السجن قبل عام 1968 م كونه من الكوادر المتقدمة التي شاركت في حركة القيادة المركزية ولكنه عاد إلى الشطرة بعد أن أصدر انقلاب 17/ تموز/1968 م عفوا عن السياسيين وإعادة المفصولين إلى وظائفهم لطمأنة العراقيين ومسح الدور الدموي لهم في انقلاب 8/ شباط/1963م من ذاكرة العراقيين .

قد تكون هذه المحطات هي المعالم البارزة من سيرته النضالية . وقد ترك الشهيد مذكراته التي تكلم فيها عن أمور وجوانب عديدة من تاريخه السياسي ولكن، مع الأسف الشديد ، تعذر علي الوصول إلى هذه المذكرات المهمة التي بإمكانها إثراء الموضوع .

وقد تحدث لي عن تجربته في القيادة المركزية وكان معجبا بشخصية الشهيد خالد أحمد زكي ( ظافر ) وقد ابلغني إنه شارك في مسح الهور وإعداد الخرائط وكان ينتقد الخط السياسي للحزب ( ل. م. ) آنذاك ويذكر الرفيق علي عويش في رسالته ( سألته يوما لماذا يا أبو مؤيد ذهبت مع الانشقاق عام 1967 وكان قد التحق بالقيادة المركزية انشقاق عزيز الحاج وقال أردت أن اختصر الزمن ونحقق سلطة العمال الفلاحين كي ننهي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ونخلص مناضلي حزبنا من هذا العذاب الذي يواجهنه من سجون وتعذيب وتشريد ومنافي ولكنه اعترف بأن الانشقاق قد أللحق ضررا بالحزب وحركته الثورية وانتقد نفسه بشجاعة . ) وذكر أيضا إن أبا مؤيد مع رفاق آخرين وهم من الوجوه الشيوعية القديمة ( يشكلون لجنة العمل الديمقراطي في المحافظة والتي تعد الواجهة العلنية للحزب حيث كنا في بداية حوار عن الجبهة الوطنية كان أبو مؤيد يتفجر كالبركان في الهمة والعمل وكانت اغلب الاجتماعات تجري في بيته الكائن في نهاية شارع ألحبوبي . ) وهو شارع رئيس في مدينة الناصرية .

ومن خلال النقاشات بيني وبينه لمست منه إنه لم يتخلى تماما عن نقده لبعض القيادات في الحزب ولا عن الانتقادات لخطه السياسي السابق ولكنه قد انتقد أمورا في سياسة القيادة المركزية فاعتبرها طارئة على الأسباب التي حدثت من اجلها حركة القيادة منتقدا اعتبار إستراتيجية الكفاح المسلح غاية وكان يعتبرها حلقة من حلقات الكفاح أي إنه لم يهمه العنوان أو الأداة الحزبية لذاتها وإنما لما تقدمه للحركة الشعبية ولحركة اليسار .

لم تدم لعبة الجبهة الوطنية طويلا حتى تم توجيه ضربة قاسية للحزب من قبل السلطة عام 1978 م ، ويذكر الرفيق علي عويش إنه كان ( يجالد العيش مع الجلادين ويتسقط أخبار الحزب إلى أن وجد خيطا رفيعا يشده للحزب ولكن هذا الخيط كان واهنا إذ سرعان ما كشفته أجهزة الأمن الصدامية لتوجه ضربة قاصمة لمناضلي الحزب وقد مورست أفظع أساليب التعذيب على الذين كانوا ضمن هذا الخط التنظيمي وقد حكم بعض الرفاق بالإعدام ثم خفض إلى المؤبد ثم شملوا بعد ذلك بالعفو وكان نصيب أبو مؤيد من التعذيب هو الأكبر فإضافة إلى كبر سنه ومرضه المزمن كان الجلادون في منتهى القسوة معه حتى فارق الحياة شهيدا مناضلا . ) وكان ذلك عام 1986 م عن عمر ناهز الخمسة والستون عاما قضاها مناضلا صلبا لم يهتز يوما ولم يتوقف .

طبقة الأوزون العراقية

على سطح الذاكرة المتعبة , طفت نكته طالما أضحكتنا عندما كنا في مقتبل العمر مفادها أن كذابا بارعا تحدى من ينافسه على لقب ( الكذاب الأكبر ) وحتى يكتسب الشرعية , فقد نظم استفتاءا ديمقراطيا في المحلة , ولكونه ( شقاوة المحلة ) ويده والسكين كما يقال , كما أن له عصابة كبيرة تأتمر بأمره , لذا فقد جاءت نتيجة الاستفتاء لصالحه بنسبة 99.99% المعروفة والشائعة في ديمقراطياتنا العربية والمعبرة عن خصوصيتنا وليست كما في الديمقراطيات الأوربية المزيفة التي يشقى فيها المرشح ويكدح حتى يسيل عرق جبينه ويفرغ جيبه من النقود على الإعلانات والندوات التلفزيونية , وشراء الذمم للشرائح الاجتماعية الممكنة بوعود عرقوبا أخاه بيثرب , وإذا حصل على نسبة 50% من الأصوات , أفتخر ولا فخر على كل من حضر وغبر وحكم وأمر من البدو والحضر والعرب والعجم والبربر , بفوزه التاريخي الذي يحصل في العمر مرة أو لا يحصل , وعذرا فكلمة التاريخي لا يستعملها الأوربيون وأن كانوا يفعلونها في الواقع , والإنسان أبن بيئته كما يقولونه علماء الاجتماع وقد أثرت في هذه الكلمة كما أثرت في غيري , وانطبعت في ذاكرتي منذ الصغر , والتعلم في الصغر كالنقش على الحجر كما يقال , فمنذ صغرنا وكل شيء عندنا تاريخي , حتى دخول الزعماء والقادة إلى الحمام , إلى أن أصبحنا وأمسينا لا نعرف من معنى ( التاريخي ) سوى شيء واحد , فإذا كان هناك شيء تاريخي , فأن مصيبة أو عدة مصائب ستقع على رؤوسنا ورؤوس من خلفونا .
المهم غير أن الفرحة لم تكتمل رغم أن الناس قد زينوا المحلة ورفعوا صورة ( الكذاب الأكبر ) في كل مكان ليطالعنا بنظراته الصارمة وكأنه يذكرنا ويهددنا دوما . غير أن أحد ( البايعين روحهم ) أفسد عليه متعته وزهوه مخبرا إياه عن وجود ( كذاب أگشر ) كما نسميه باللهجة العراقية , يسكن في المحلة المجاورة .
استثيرت كرامة صاحبنا وأصر على اصطحاب عدد كبير من الشهود ليشهدوا له بالفوز المحتوم, عندما يناظر ( الكذاب إلاگشر ) في مناظرة تلفزيونية تتفوق على مناظرة السيدين ( بوش و كيري ) الشهيرة في الكذب على الشعب الأمريكي والعالم بأنهما يختلفان في تأييد أو عدم تأييد قانون (( تتهيب العراق )) والحمد لله الذي نقلنا إلى الزمن الأمريكي , والذي لا يحمد على مكروه سواه .
بعد أن أذاع الكذاب الأكبر بيانا شديد اللهجة متوعدا المحلات المعادية بالويل و الثبور وعظائم الأمور, مبشرا محلته بالنصر الكبير كما انتصرنا في أم المعارك وحرب حزيران عام 1967م. ثم سار أخونا ومن معه من الشهود إلى المحلة المجاورة طارقين باب منزله ليخرج لهم فتى في مقتبل العمر سائليه عن أبيه فأجاب : لقد حدث فتق في السماء وذهب أبي لرتقه . فما كان من الكذاب الأكبر ألا أن بهت وسكت فقد كان الفتى (( أضرب )) منه ومن أبيه .
كانت قوة النكتة في استحالة أن يحدث شرخ في السماء إلى أن جاءتنا الرأسمالية المعولمة بإحدى انجازاتها عندما شرخت وثقبت طبقة ألأوزون بفعل الاحتباس الحراري , لتندفع لنا من ذلك الثقب الأشعة الضارة رافعة درجة الحرارة المرتفعة عندنا أصلا في الوقت الذي نشهد فيه دخول الكهرباء عندنا متحف التاريخ , ألا من سويعات قليلة لتذكرنا بنفسها بين آونة وأخرى ((كي لا ننسى )) مع الاعتذار لبرنامج بهذا الاسم كان يعرضه التلفزيون العراقي , بعد انتهاء الحرب العراقية ألإيرانية باستمرار ليذكرنا بالموت والدمار والأشلاء المقطعة وما تعرضه ألان الفضائيات بتشف لأوصالنا التي تتفجر هنا وهناك وكأن الموت لعنة فرعونية حلت علينا ولا مناص منها , مادامت سود وقائعنا وحياتنا وحمر مواضينا و أشداقنا وما دمنا نصفق , هذه العادة اللعينة التي تعودنا عليها , حتى أن أحد الخبثاء ذكر لي أنه أبتلي بمرض خطير فهو يصفق كثيرا في نومه بل ويهتف رافسا الأرض تحت رجله وكانت الأرض زوجته المسكينة , مسببا لها (( البهتة والخرعة )) مما اضطرني إلى استدعاء ما قرأته من علم النفس لأثبت له أن كل من يمارس عملا روتينيا وكريها باستمرار ينعكس في المنام كأضغاث أحلام .
قال لي صاحبي (( على الخبير سقطت )) ويبدوا أنه قد ذهل من معلوماتي الطبية وطالبني ((بوصفة )) علاجية لإنقاذه من هذا المرض . أجبته علاجك الوحيد ياصاحبي أن تمتنع عن التصفيق والهتاف . وهنا وجم صاحبي وأرتعب قائلا هل تريد أن ترمل زوجتي وتقطع عيش أطفالي ؟ فسوف أصنف في خانة أعداء الثورة وأنت تعرف ما لذي يحصل لهؤلاء .
ويبدوا أن رائدة الحرية في العالم , أمريكا قد سمعت بحكاية صاحبي عندما صرخ ( وابوشاه ) فجيش جيوشها وعزمت على تحرير صاحبي من البهتة والخرعة والقطع المبرمج للكهرباء والحياة بعدما حاصرته ومعه مواطنيه طويلا , ومنعت عنهم السلع والمواد (( المزدوجة الاستعمال )) ومن جملتها الدواء والبطيخ وأبر ماكنة الخياطة والماء الصالح للشرب ولكن بدل من القطع المبرمج للكهرباء ( طارت ) الكهرباء وبدل من القطع المبرمج للحياة جاءتنا بالقطع المبرمج وغير المبرمج للحياة حيث نتحول إلى أشلاء في أي مكان و زمان , سواء بسيارة مفخخة أو طلقة طائشة أو قنبرة هاون أو نيران صديقة عن طريق الخطأ . فبدلا من الشعب الواحد , وأن كان بالقسر لا بالرضى وبالتسلط وألاخضاع لا بالإقناع , وتحولنا إلى شعوب وقبائل حسب وصفة السيد بريمر لا لنتعارف ولكن لنتقاتل ليذبح بعضنا البعض على الهوية والجنسية وشهادة الجنسية المدققة بالختم المثلث سابقا أو الفسفورية حاليا أو البارافسفورية مستقبلا وعلى غير ذلك, فقد تعددت الأسباب والذبح واحد . ويبدوا أن الوصفة الرأسمالية المتعددة الجنسيات كانت لعينة فقد فجرت فينا كل ما هو قبل المدنية والدولة الحديثة , ودفعته إلى أقصى مدياته , محدثة ثقوبا كبيرة في طبقة الأوزون العراقية مهددة النسيج العراقي الاجتماعي بالتمزق حتى صار الوضع من الخطورة بمكان . وكعادتنا ألقينا اللوم كله على المحتل البغيض باعتباره متخصصا في ثقب طبقة الأوزون والعياذ بالله , فقد سحرنا نعوذ بالله وجعلنا نساهم معه في أفعاله المشينة مساهمة فعالة وأخذ بعضنا يهدم بيت الأخر لمجرد كونه ..... الأخر .
لقد قامت الرأسمالية المتعددة الجنسيات بأخذ المواد الأولية من نسيجنا وصنعتها ووضعتها في مرجل كبير , بما لها من خبرة عميقة وطويلة , انبعثت وتنبعث منه الغازات السامة من طائفية وعرفية وعشائرية ونفط - غازية ( نسبة إلى قانون النفط والغاز ) ووووووالله أعلم بما سيأتي .
أننا بحاجة إلى (( معاهدة كيوتو )) عراقية لتخيط ثقوب الأوزون العراقي العديدة التي حدثت بشرط ألا تكون كاذبة ووهمية كمهمة (( الكذاب إلاگشر )) الذي ذهب ليخيط فتوق السماء .

جدل قراءة التاريخ وصنعه

نقد اليسار النقدي

ليس هناك شيء أكثر ظلما من كتابة التاريخ في ثقافتنا المعاصرة أو الغابرة على حد سواء . كنا ومازلنا أسرى لنوازعنا ومواقفنا وثوابتنا التي نسقطها على الأحداث والأشخاص مع غياب المنهجية العلمية الموضوعية والنقدية . نغيب من نغيب ونشوه من نشوه ونشعل البخور ونمجد من نريد . نمدح كافور الإخشيدي ، ما كنا على وئام معه، ونجعل من لونه الأسود فضيلة ونشبه بالمسك الاذفر ، وما أن نختلف معه حتى نشبه بالعبد ، فلا تأتي بالعبد إلا والعصا معه... وفي كل الحالات تنتفخ أوداجنا وتأخذنا العزة بالإثم .

في ‘‘ منهجية ’’ كهذه فقط أشيائنا الصغيرة هي الأهم ... كبريائنا الزائفة و اوهامنا الكثيرة تردنا إلى عصبويات مقيتة ، فما أنا إلا من غوية إن غوت ... غويت وأن ترشد غوية أرشد . ما الذي أنتجته هذه المنهجية سوى معايير خادعة كاذبة ؟ فكم من القتلة صاروا أبطالا ؟ وكم من المتهورين كانوا شجعانا ؟ وكم من الحكماء والناقدين الجذريين والمتمردين على السيئ مما هوى سائد ومتوارث اعتبروا هراطقة ؟ وكم من سراق المال العام صاروا شطارا وكم وهب الأمير ما لا يملك ، وكم .. وكم ؟!

عودا على بدء ، كيف يتمكن قراء بائسون للتاريخ بهذه العقلية من صنعه والتحول إلى فاعلين تاريخيين ، إذا ما كانوا بهذه الهشاشة ، يتلفعون بجلودهم فيضنون عريهم مستورا ؟

لا يمكن لمنصف إنكار دور اليسار العراقي في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية منذ ولادة الدولة العراقية الحديثة . لقد نبت وتبرعم وامتدت خلاياه في نسيج المجتمع فكانت مصده المتين الذي كافح ، في بطولة وتضحيات جمة ، عواصف الهيمنة والاستغلال والقهر والاستبداد المحلي والخارجي ، فيصدها تارة ويأكل من جرفها وتأكل من جرفه تارة وتوهنه في حرب سجال. انتصارات تارة وتارة نكسات .

هكذا هو التاريخ ، صراع متضادات متناحرة . التملك والتسلط والإرغام يقابله المقاومة والعمل على التحرر والعدالة . هذا هو الأساس الموضوعي للوجود اليساري وسر ديمومته وصموده ، تراجعه وانبعاثه ، وانتصاراته وهزائمه ، فليس هناك من هو أكثر غبائا ممن يمسطر التاريخ ويراه بعين واحدة فهو كمن يصرخ في واد فلا يسمع سوى رجع صوته .

نعم علينا أن نعترف إن اليسار في تراجع ، وإن لتراجعه وتأزمه أسباب عديدة، موضوعية وذاتية ، خارجية وداخلية , فبدلا من لعن الظلام فالنشعل شمعة ولا نلقي بمشاكلنا على شماعة الشياطين فلا يجوز ذم النار ولومها إذا ما أضرمت حريقا كبيرا . ولا جدوى من التمسك بأصنامنا وتبخيرها عسى أن نطرد الشياطين .

نعم منا من فقد بوصلته وسبح مع كل الشياطين الكبيرة والصغيرة حتى عام فاقدا كل وزن تتلاقفه الأمواج فتقذف به هنا وهناك ، ولكن ما الذي فعله الآخرون ؟ لقد تشظوا وكل منهم معجب بشامة حسن في خـ... وقد صبوا جام غضبهم على من فقد بوصلته فكانوا كناطح صخرة يوما ... فكانت المحصلة إنهم صاروا ذرات صغيرة تدور في فلك الجرم الأكبر الذي فقد بوصلته بل حتى في فلك أجرام لا تمت لهم بصلة نسب أو قربى بل هي على النقيض منهم تماما ، وبذلك يقودوننا إلى محطات أخرى إلى الإحباط واليأس ، فهم لا يشبهون حتى طائر مينيرفا فلا يطيرون حتى في الليل .

القصة تكمن أذا هنا ، ألا إن علينا نقد ممثلي ‘‘ يسار البؤس ’’ الرسمي بمقاربة نقدية ‘‘لبؤس اليسار ’’ النقدي وتفكيكه ومن ثم إعادة بناءه ، فليس مجديا توجيه السهام إلى اليسار الرسمي بعد أن اعتبرناه جثة هامدة فالشاة المذبوحة لا يهمها السلخ ، وليس مجديا لمن يبتغي الصحة والعافية الاعتياش على لحوم الجثث .

إن الشيء الأكثر أهمية وراهنيه هو نقد النقد النقدي وكفانا لوكا لمنهجية مضت عليها طوائفنا عقودا طويلة في سب ونقد اليسار الرسمي حيث ينطبق تماما القول المأثور وفسر الماء بعد الجهد بالماء . كما إن علينا الكف عن اجترار الماضي العظيم والتذكير بما سلف لتبيان ‘‘نقائنا وطهارتنا الثورية ’’ فكل شيء أبن ظرفه ولنتذكر بأن التذكير بخطايا الآخرين لا يعني إننا قد عثرنا على الفانوس السحري .

إن احتجاجي الرئيس في كل هذا ، ببساطة ، لو إن هذه المنهجية كانت ناجعة وملائمة لقراءة واقعنا لما كان هذا التردي ، بل إنما تشير إليه الأمور حاجتنا إلى منهجية جديدة لبها قطع خيوط العنكبوت المتشابكة مع اشكالياتنا القديمة شرط أن يكون قطعا جدليا وهذا هو معنى اليسار الجديد .

بطاقة شخصية

منذ أن عرفت هلكان وإنا متلهف إلى معرفة كنهه فرغم محاولاتي العديدة معه لم احظ منه بإجابة سوى ابتسامة ذات مغزى . شجعت نفسي وجمعت شتات عزيمتي لاتجرا واطلب منه أن يريني بطاقة الأحوال الشخصية . قال مداعبا: ما هذا ياولدي فهل تعينت في سلك الشرطة أو الجيش - حيث انه الباب الوحيد تقريبا لكسب الرزق عندكم - فكلما حدثت عندكم مصيبة فتحتم الباب على مصراعيه للتعيين فيه , واني لا أخشى أن يأتي يوم نستورد فيه شعبا ليقوم بإعمال المدنية, فكل شيء عندنا قد توقف , لا زراعة ولا صناعة ولا ... قاطعته انك تهرب من الإجابة الحقيقية على سؤالي كأغلب المسئولين عندنا فعندما تسألهم يجيبوك إجابات ( ما أداوي جرح ) . تعلل بأنه لم يستخرج البطاقة لأنها لا تعني شيئا فعراقيتي ليست ورقة . قلت ولا كنك قد تحتاجها عند الحواجز الإسمنتية سواء كانت عراقية أو متعددة الجنسية . أجابني : إن ما تقوله صحيح فنحن البلد الوحيد الذي لا تستطيع فيه إثبات هويتك إلا بسلة من الوثائق , وياريت إن تفعلوا ذلك في الاقتصاد , كما فعل عبد الكريم قاسم عندما فك ارتباط الدينار العراقي بالجنيه الإسترليني واستبدله بسلة من العملات الصعبة والمعادن الثمينة كغطاء للدينار وبذلك ساهم في تحرير اقتصاد البلد من التبعية و( تخلصونة من الأخضر إلي من يوم ماشفناه ما شفنة خير ).. مازلت تهرب من الإجابة ياعم ولكني أصر على رؤية بطاقتك . تعلل هذه المرة بكرهه للرشوة والفساد المالي والإداري حيث إن دوائرنا ( ما تمشي المعاملات إلا بعد أن تدهن السير والمشكلة أنها لا تقبل التوريق إلا بالأخضر وأنت تعرف انه ليس لي علاقة ود مع الأخضر وأصحابه ) كما إنني ملتزم بنصيحة جدتي الحكيمة التي نصحتني ( بمراجعة عزرايين ولا أراجع دائرة حكومية منحيث عزرايين يطلع روحك بسرعة والدايرة مال الحكومة اطلع روحك بالإقساط ) قطعني العم هلكان وأدركت إن هناك سر ما وغرض لم افقهه وراء امتناعه عن الإجابة فأنهيت تساؤلي .

كنت استذكر حواري معه وفضولي يشتد لمعرفة شيء حرص على إخفائه عني وراء بردة من حصران لم أر مثلها في حياتي, نقوشها توحي بالإبداع والقدم. تجرأت وأزحت حصيرة منها فوجدت العديد من الألواح الطينية المليئة بالكتابات المسمارية فأصابتني الدهشة والذهول فقد كانت هذه مكتبة العم هلكان . لفت انتباهي لوح طيني صغير يشع نظارة وجدة رغم قدمه معنون ( بطاقة الأحوال الشخصية ) مختومة بختم أتونا بشتم وقد دون فيه

" الحكيم هلكان بن تعبان العريان العراقي . الضارب في القدم والمستشرف للمستقبل ومالكه . روح أتونا بشتم وحكمته . حبيب گلگامش ومانح القوة لانكيدو . زوج عشتار الجميلة . المهنة صانع حضارة سومر وما بعدها من الحضارات العلامات الفارقة انه

سندباد انه شفت كل العصور

سندباد انه عبرت كل البحور

شفت أصل الظلم واحد

كرسي وأموال وقصور "

أسدلت الحصيرة على عجل بعد أن سمعت وقع خطوات تقترب من ديوان العم هلكان وأنا فريسة لمشاعر مختلفة مابين الحرج لتطفلي على سره بدون إذن , وبين الزهو والاحترام وانأ في حضرة التاريخ . دخل هلكان إلى الديوان وحياني وابتسامة ماكرة تعلو شفتيه . قلت في سري لقد كشفني . طلب مني الجلوس بعد ان ألقى من بين يديه حزمة من الحطب في الموقد وأوقد فيها النار وقد اختلط دخان لفافته بدخان الحطب واضعا قوري الشاي على الموقد . قال : لا عليك ياولدي فإذا كان الأجنبي ( وبطران ) قد عرفا سري فالأولى بأولادي أن يعرفوه . تمهل حتى ( تهدر الشاي ) فصب لنا قدحين من الشاي وقال : لقد وردني توا من وكالة أنباء سومر ان جدتكم الفلاحة السومرية تقول لكم وهي تعض على أصابعها (وسفة عليكم ياولادي ألف وسفة ولكم ما شبعتوا من الدم , ماتنكسر كلوبكم والأطفال مجطلة والنسوان املخة ولكم ذبيت شيلتي من علة راسي وما راح البسها إلى أن تصلحون أرواحكم ) أكمل هلكان وان لم تفعل فبؤوا بعار كشف سترها .. ولعنة الأجيال والتاريخ .

انحدرت دمعة على خد هلكان حاول إخفائها بسرعة . وهنا سكت هلكان عن الكلام المباح إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح .

إلى من يهمه الأمر

أثار في نفسي الكثير من الشجون , اجتماع لمجلس النواب الموقر , وهو يناقش مشروع قانون لوزارة التجارة . فقد قام بعض السادة النواب بالاعتراض عليه , من ناحية المبدأ , بإطلاق التهمة الخطيرة بأنها اجرات اشتراكية . لست في صدد مناقشة القانون أو الدفاع عنه أو مهاجمته, ولكني في حالة الاعتراض على استخدام هذه الكلمات وكأنها سبة أو جريمة خطيرة يندى لها الجبين ووجدت إنها الشماعة الأخيرة التي اكتشفها علم ‘‘ التبريرلوجيا ’’ للعقل السياسي العراقي , وأضافها إلى قائمة الشماعات الكثيرة التي تعودنا عليها حكاما ومحكومين على حدا سواء .

حسب معلوماتي المتواضعة فأن تدخل الدولة بشكل أو بأخر , لا يعني بالضرورة , بأنها أجرات اشتراكية وإلا كان كينز والكينزيون مجموعة اشتراكية ولصارت معظم دول العالم اشتراكية حيث أن تدخل الدولة , بهذا القدر أو ذاك , موجود في جميع الأنظمة والدول .

أللافت للنظر أن شماعاتنا ليست من ماركة واحدة وإنما متنوعة متعددة . فمن الحصار الاقتصادي والمؤامرات الامبريالية إلى الإرهاب والمحاصصة , حيث نرى في جميع الحالات أن الحكام يأكلون لحم الغزال بينما الشعب يتحسر على اللقمة الحلال . وحيث أن ماركات الشماعات المختلفة هي ماركات طبقية حيث يسعد بها الحاكمون ويشقى بها المحكومون .

يؤسفني أن أقول لكم أيها السادة أننا نحن المغلوبون على أمرنا , من أبناء هذا الشعب , قد أصابنا السأم من شروحاتكم ووعودكم وجولاتكم المكوكية وانتم تبشروننا دوما بقرب نزول المن والسلوى علينا من اٌقتصاد السوق الحر . فنحن في الحقيقة وبدون رياء لا يهمنا ذمكم لصنم الاشتراكية المفقود ولا مدحكم لصنم اقتصاد السوق المولود, فمجدوه وعظموه ما شئتم ولكن لا تجعلوا من مناقشة مشروع قانون وزارة التجارة سباقا ماراثونيا جديدا على حساب مفردات البطاقة التموينية التي بدأت بالتآكل تدريجيا لتلحقوها بالطحين الذي أحتجب عنا فأحتجب معه رغيف الخبز . ولا تجعلوا لعبة لي الذراع بين وزارة التجارة وأصحاب المطاحن لعبة سيزيفية لا حل لها وأن اتخذتم اضطرارا حلولا اشتراكية ملعونة أن كانت توفر رغيف الخبز فالمضطر لا أثم عليه أذا ما سد رمق جائع , ومن جانبنا نعدكم بأننا سنقدم نيابة عنكم الاعتذار إلى السيد اقتصاد السوق حتى لو سلط علينا زبانيته في صندوق النقد الدولي , فليس باقتصاد السوق وحده يحيى الإنسان الجائع .

الوطن والوطان

( لو أصغينا إلى الأناشيد التي يترنمون بها كل حين لوجدناها تردد ذكر " الوطان.. الوطان " ولست ادري ماذا يقصدون بهذا الوطن الذي يتغنون باسمه .. ) ألقى العم هلكان " وعاض السلاطين " من يده , باشمئزاز , ليملا أقداح الشاي معلقا :

ومضة برق ساطعة صفع بها الطيب الذكر , علي الوردي, ظلام واقعنا ألشعاري الغائم قبل أكثر من 40سنة , معرضا نفسه إلى نقمة " الهتافين والشعارين " الذين أقاموا الصراخ ألشعاري ضده ولم يقعدوه , ويبدو إن ذلك الأمر كان ومازال وباء سريع الانتشار , فقد كنا جميعا نردد ونصرخ " الوطان..الوطان " وكأننا في شبه غيبوبة أو منومون مغناطيسيا : الجلادين والضحايا السراق والمسروقين , الفقراء والمترفين , الحكام والمحكومين . نتقاتل باسمه , ويخون بعضنا البعض به , حتى صار لغزا وشبحا نقدم " له " القرابين تلو القرابين , وبأصوات مبحوحة منشدين:

وطن تشيده الجماجم والدم تتهدم الدنيا ولا يتهدم

لم نكتف بهذا بل زرعناه في عقول فتيتنا بدلا من الحب والعلم ولقناهم لاحت رؤوس الحراب , تلمع بين الروابي , فتربينا على انتظار رؤوس قد حان قطافها وأخذنا نقطع رؤوس بعضنا البعض. عشرات العقود من السنين والوطن هو الجماجم والدم والموت والخراب مابين اغتيال أو معتقل أو انقلاب, والانكى من ذلك , إن وجدت شرائح وجماعات ادعت - باسم الحق الوطاني- امتلاك واستعباد البلاد والعباد , لتوزع صكوك الغفران الوطنية للعائدين إلى الصف الوطني , ولتمنح صفة وطني لمن تشاء وتحجبها عمن تشاء .

لقد أصاب الوردي كبد الحقيقة في ( وعاضه ) بقوله ( مر على العراق يوم كان أولياء الأمر لا يبالون بحالة الفلاح مثلما يبالون بالرايات والطبول والأناشيد , إذ بحت أصواتهم وهم يهتفون : " إلى الأمام .. إلى الأمام " ولا ادري ما هو هذا " الأمام " الذي يريدون ) .. وما يزالون . فرغم إننا نعوم في بحر من الثروات , يعيش اغلبنا الفقر والبؤس والإذلال, دخلاء وضيوف غير مرغوب بهم في بيتهم , وكان الوطن وثرواته ملك أباء وأجداد الحاكمين .

كان بودي تركه مسترسلا في حديثه , ولكنني اغتنمت فرصة إصلاحه لفافته لأساله : ليس ذلك الوباء الوحيد الذي يفتك بنا فأوبئتنا لا عد لها ولا حصر , فلماذا هذا التخصيص ؟ أجابني بعد أن أشعل لفافته : هذا صحيح ولكن اعلم إن هذا وباء الأوبئة وحاملها وحاضنها مما يتطلب إعادة بناء مفهوم الوطن وتمييزه عن الوطان بعد كل ما مر به وبنا من ماسي ونكبات .

الوطن لغة - كما جاء في المنجد- ( وطن : وطن يطن وطنا بالمكان : أقام به ) فالمكان يكتسب صفته من خلال فعل التوطن أي إن المواطنين هم من يمنح المكان صفته ولكن الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة قد استعبدت المواطن باسم الوطن فضيعت المواطنين والوطن , إما الأنظمة " الديمقراطية " فقد ضيعت الوطن باسم الهويات الجزئية لتضيع المواطنين والوطن , كلاهما قد جعلا من الوطن والمواطنين البقرة الحلوب التي تدر درا على الحكام و" الضيوف " والأصحاب بينما تقطر بالقطارة على عامة الشعب ( وعلى هالرنة طحينك ناعم ) .. انقطع التيار الكهربائي لنغرق في ظلام دامس اجبر هلكان على السكوت عن الكلام المباح .. إلى أن يدرك الشعب العراقي نور الكهرباء و الصباح .

المقامات السومرية في مناقب الديمقراطية العراقية

المقامة الأولى :- دستور وبرلمان

حدثنا الحكيم هلكان بن تعبان السومري بعد أن انعقدت الجلسة واكتمل النصاب ، وقد حضر من حضر وغاب من غاب . مؤسسا بذلك برلمانا شعبيا ، بعد أن تعسرت ولادة البرلمان الفدرالي، فلا هو ميت ولا هو حي ، وقد داخ الناس في معرفة أعضائه ، فمنهم من قال إن الفائزين هم رؤساء القوائم وبعض الشطار وإن عددهم قليل ، لذا فقد وزعت الأصوات الفائضة بالقرعة على من نال الحظوة بطريقة التصويت السري لتحقيق العدالة ووضع الرجل الراسب في المقعد المناسب، وبذلك فوضنا الزعماء والقادة البارزين حق الاختيار نيابة عن الشعب القاصر الذي صرح وقال (أحنة فاضيين ياعم للعالم دي) على حد تعبير طيب الذكر عادل إمام .

من جهة أخرى ، فقد داخ فقهاء القانون ورجال الصحافة والإعلام ، ورجال السياسة الأعلام ، في فك غموض فقرات الدستور ومن يشكل الوزارة ويكشف المعلوم والمستور ، فلا الدستور أسعفنا ولا المحكمة الاتحادية شفت غليلنا ، على قاعدة يجوز الوجهان وهي من قواعد اللغة العربية العجيبة . وقد ظهر لنا إن الدستور بدعة وتحفة أدبية لا يستطيع فك رموزها إلا الناقد الخبير والأديب النحرير. وقد أظهر النقاد عجبهم من سعة وتنوع وعمق التأويل والترميز فيه . فكان الشيء الوحيد الذي تسالموا عليه أن هذه الوثيقة العظيمة عمل أدبي نادر قد وضعه رجال سبقوا زمانهم ، وإن علينا أن ننتظر أجيال بعد أجيال لنصل إلى مرحلة النضج ونرتقي إلى فهم مغالقه ومغازيه وإلى ذلك الحين فليحل بنا الخراب واليهلك الحرث والنسل ... ليس ذلك بالمهم والاهم إننا قد أضفنا لغزا إلى الغاز المرحوم برنولي التي داخ في حلها وإثباتها علماء المعمورة ثلاثمائة عام إلى أن جاء فتى عراقي أغر ليثبت ويحل لغزا واحدا منها .

واستنادا إلى هذه الحادثة الميمونة نسوق ونزف لكم البشرى وفحواها إننا سنصبر ثلاثمائة سنة حتى يأتينا فتى عراقي يفك لنا الغاز الدستور . فنعرف آنذاك من له دستوريا حق تشكيل الوزارة ، وعندها لا يحق لأي أحدا أن ينادي بالويل والثبور ويهدد الآخرين بعظائم الأمور ، ويرعب الشعب العراقي المثبور . وهنا اقترح الحكيم هلكان تسمية الفتى الأول بالفتى البرنولي والفتى المنتظر بالفتى الدستوري وبذلك نمسك بالمجد من طرفيه ونسجل منقبة للعملية السياسية لم يسبقها إلينا أحد في غابر العصور .

وبعد هذه المقدمة التحليلية طرح الحكيم هلكان على البرلمان الشعبي مشروع قرار للتصويت فحواه :-

"تجميد العملية السياسية في جبال القطب الشمالي لمدة ثلاثمائة عام . لا يجوز إلغاء هذا التجميد وإن ذابت ثلوج القطب بفعل الاحتباس الحراري . يفوض حصريا إلغاء قرار التجميد بالفتى الدستوري المنتظر بعد ثلاثمائة عام بالكمال والتمام"

بعد ذلك جرى التصويت ، فأقر القرار بالإجماع ، وهذا من الطرف النادرة التي حدثت عندنا لثلاث مرات فقط . لقد أجمع البرلمان المنصرف إلى جني حصاد رواتب التقاعد الخرافية والامتيازات الجزافية ، بعد أن حضر بكامل أعضائه لأول مرة ، على سلم رواتب البرلمانيين وامتيازاتهم ملحقا بهم ذوي الامتيازات الخاصة ، مما آثار علينا حسد ونقمة برلمانيو وسياسيو العالم المتقدم والمتأخر ، فدعموا الإرهاب لتدمير العملية السياسية ، وقانا الله شر الحاسدين ، التي أنصفت القادة والزعماء والأزلام فأطعمتهم لبن العصفور ، بينما عانى الشعب من فقر دم البطاقة التمويهية ، ومن العيش في المزابل وعلى حسنات المنظمات الخيرية . وفي المرة الثانية حظروا جميعا وصوتوا بالإجماع على امتيازاتهم في جولة التراخيص الثانية من سيارات مصفحة وجوازات سفر (دب لوماسية) لهم ولأولادهم (ولولد الولد وولد الولد اعز من الولد) على ذمة المثل المصري ، وما خفي كان أعظم .

وإلى هنا أنهى الحكيم هلكان الاجتماع وتقرر عقد الجلسة القادمة بعد ثلاثمائة سنة برئاسة أصغر الأعضاء سنا وهو الفتى الدستوري . وحتى ذلك الحين سننام نومة أهل الكهف (وجر ليل وخذ عتابة) .

الامبريالية الإيديولوجية

(( لقد جاؤوا . كانوا يملكون الإنجيل, إما نحن فكنا نملك الأرض. قالوا لنا أغلقوا عيونكم وصلوا لله, وعندما فتحنا عيوننا كانوا هم الذين يمتلكون الأرض ونحن الذين نمتلك الإنجيل. )) القس الجنوب إفريقي
القس توتو (1)

مداخلتي هذه تأتي تفاعلا مع البيان التأسيسي لحركة اليسار الديمقراطي العراقي في دعوتها إلى ( ضرورة قيام حركة يسارية مناضلة على ارض الواقع العراقي ) لافي اعتبار المتداخلين (ضيوف مسار بل أصحاب قضية وقرار فاعل في قيام تنظيم جديد يتجاوز قصور ما هو موجود نحو ما هو أفضل وأكمل ) بعد أن أتخمتنا أحزاب وقوى اليسار والتحرر الوطني , ومن ثم قوى التدين السياسي , ببرامجها الإيديولوجية ورسالاتها الخالدة المسقطة قسرا على الواقع , رغم كل ما قيل ويقال عن استلهامها الواقع والتطبيق الخلاق . الأهداف الكبرى وتياراتها وأحزابها وأبطالها المنقذون , الذين سيزرعون في عقول الجماهير الخاملة الجاحدة حقن الخلاص الأيديولوجي , المعد سلفا في مختبرات الأحزاب والتيارات ودهاليزها .
كي لا تقع هذه الحركة الوليدة في (( الفخ الأيديولوجي )) معيدة استنساخ التجارب النظرية والعملية والتنظيمية , للتنظيمات الطليعية المنقذة بشكل جديد يوهمنا بالتغيير والتجديد , وحتى ((نسعى إلى بناء حركة اجتماعية مناضلة يتبناها الأفراد كمنهج حياة متجدد )) فاني أتمنى على الحركة عدم التسرع في ( انجاز ) برنامجها ونظامها الداخلي , وتركه يتفاعل مع صيرورة الحركة ضمن فقرات بيانها , في تفعيل الذات الفردية والجمعية لخلق ذات حرة فاعلة وجمع حر فاعل . فكل ماهو منجز نص , والنصوص البرنامجية بصيغتها الطلائعية كما بينت لنا التجربة , قد صارت قيدا على الواقع وكما أشار هيغل إلى إن كل ما هو منجز شائخ(2) , إلى حين التوصل إلى أساليب ومناهج حركة التغيير الاجتماعية المناضلة . إنها الدعوة إلى حل إشكالية تادلج الفكر وتحوله إلى نصوص معيقة , تحرير الفكر من الدوغماتية , بادراك الحالة التناقضية في بنية الفكر و علاقتها الجدلية بالحالة التناقضية لحركة الواقع , تناغم مسارها في صيرورة متغيرة ومتجددة دوما . أتمنى على المثقفين والناشطين اليساريين أن يتداخلوا مع بيان الحركة , سيما إنها تعرف نفسها كحركة غير محددة بقيود وحدود ضيقة , أي إنها تمنح حقوق العضوية كاملة فهي خطوة مهمة لكسر قيود التنظيم الطليعي الحديدية نحو تأسيس حركة اجتماعية مناضلة .
إن كل أيديولوجيا تستلزم أن يكون لها رسالتها الخالدة الواحدة , ثوابتها وطقوسها , جمهورها المتعصب والمتزمت . هي منتج إنساني متغلب على منتجه ومستعمر له , جاعلة من الإنسان موضوعا لها , وبذلك تكون سلبا للواقع المتغير ومرضا بنيويا لطبيعة التجريد التي تميل إلى الإطلاق والتعميم . إنها خلق الإنسان العمومي(3) .
الذات الفاعلة في الواقع الأيديولوجي , المتقاطعة مع الذات الحرة الفاعلة في مسارات الاحتياج الواقعي , الفردي والجمعي , تستمد ديمومتها من حالة الركود والتخلف أو التأزم الناتج من عدم القدرة على إنتاج الحلول من ذات البنية الراهنة . لذا تكون نزعة رجعية أو محافظة تبرر ما هو قائم أو نزعة تعطى قيما ومبررات أخلاقية لمشاريع امبريالية أو استغلالية مهيمنة . الايدولوجيا تجعل من ذاتها كونا مستقلا صالحا لكل زمان ومكان مؤثرا غير متأثر لا يفسده تعاقب الزمن ولا ينقضه تغير الواقع , يتلقفها الإنسان العمومي فيجعلها هدفه وغايته , أفيونه الخرافي يخوض من اجلها حروبه . وبتعدد النصوص وانفلاقها الذري , تتقاتل هذه المجاميع بالنيابة عن النصوص متخلية عن همومها الواقعية, الذاتية والجمعية واحتياجات مجتمعاتها للنهوض والتطور . مجتمعنا العراقي يتصف بكونه مجتمع متأدلج تتقاتل فيه النصوص دون أن يصيبها خدش بسيط بل تتعافى وتتضخم بينما تسيل الدماء انهارا بين المتقاتلين بالنيابة عن النصوص ويقتل الناس البسطاء في تجمعات العمل وفي الشوارع وفي أماكن أخرى وهم لا يفقهون سر موتهم ولا سر قاتلهم ألشبحي, العفريت ( إرهاب ) سليل أبو طبر(4) . المشاريع الأيديولوجية وصراعاتها قد حولت المجتمع إلى مجموعات دائرية مغلقة متطيفة أو متعنصرة, عشائرية أو مناطقية سلالات عائلية وفئوية متحزبة . مجموعات ذات لون فاشي لا يرى سوى الأسود والأبيض عدوه الأكبر الاختلاف والتنوع, الفرد فيه عضو مستنسخ في القطيع بدلا من العضو الفاعل الحر في الطبقة أو الشريحة الاجتماعية والمجتمع. مجتمعنا المتأدلج يحد من التطور الواقعي ويمنع تشكيل المجتمع المدني الحديث والدولة الحديثة حيث معيار المواطنة هو المعيار القانوني الذي يعتبر المواطنين سواسية في الحقوق والمعيار الديمقراطي الذي يقر بتباين المصالح وشرائح ومكونات المجتمع الأخرى وحقها في المطالبة والمدافعة والاعتراض بالطرق السليمة . لقد ولدت دولة الصهر(5) الفاشي ألبعثي الاختزالية , المجتمعات الصهرية في داخل النسيج العراقي , وجاءت سلطة الاحتلال البريمرية لترعاها وتغذيها بالمنشطات فتتضخم في صراعها الدموي مع الآخر المختلف , وصراعها مع الوالد المخلوع الذي نزل تحت الأرض وما زال يطرح نفسه بديلا عن الفوضى التي أنتجها وسببها وما زال يسعرها باسم الأمن والوطن والشعارات الخادعة ذاتها للعودة إلى السلطة والتسلط , مزيدا المشهد الدموي دموية اكبر ووحشيته وحشية اشد . بين صراع ممثلي المجتمع ألصهري الواحد وممثلي المجتمعات المتطيفة والمتعنصرة وما تولده من دوائر متصارعة اصغر فاصغر , يدفع الوطن والمواطن ثمنا باهظا يمس مصائره بل وجوده ويجعله واقفا على كف عفريت .في ظل الاقتصاد الهامشي الراكد , الاستهلاكي والطفيلي ووهمه المجتمع الأيديولوجي .ينتج الإنسان العمومي الذائب في الجماعة , الممسوخ , وفي الوقت ذاته ينتج الإنسان الأناني , المتوحش , الذي يقتل من دون رحمة , ويتصارع بوحشية في زحمة المنافسة التي تسحقه .
إن ما يجمع بين هذه الجماعات المتخندقة في الذات الساكنة , كره وإنكار الآخر وتخوينه , أدعاء العصمة والتفضيل على الآخرين , نزعة الشك المرضية . إلقاء اللوم في كل مصائبنا وتخلفنا على العامل الخارجي .
أن الامبريالية اللعينة هي السبب في كل شيء والمؤامرة وراء كل حدث , فهي محرك التاريخ والجغرافية (6) أما نحن فأبرياء تماما من دنس الخطأ والخلل , ملائكة صالحون , بريئون براءة الذئب من دم يوسف . فقط لو تتركنا هذه الامبريالية اللعينة لحالنا , لعشنا في وئام وسلام , عندها سيختفي حكامنا الديكتاتوريون وسوف يزدهر الاقتصاد وتتوب عندنا القطط عن أكل الفئران . أذا فلنصرخ بأعلى أصواتنا : تسقط الامبريالية ؟ عندها سنمتلئ بالحمية وتهتز الشوارب ونهتز معها على أنغام الانفجارات , نموت موتا غير منتج مانحين الدراكولا الامبريالية الدماء التي ستديم وجودها مجانا وننشد لقد أنجزنا مهامنا ولم يبق إلا النصر .
بهذه الادلوجات المحكمة يضع نسق الأنساق الايدولوجية خطوطه الدفاعية والهجومية ليتحكم في مجتمعنا , معيدا أنتاج مآسينا بشكل دوري , وبذلك يمنع أي مشروع نهضوي يقارب فهم الموضوع الداخلي المعيق للتطور لغرض تفكيك قيوده المعيقة , فبيض الدجاج لاينتج سوى الدجاج وان أحتضنه طير العنقاء .
أنه المنطق المقلوب الذي يخفي وراءه كل العيوب منطق حامي الجراد الذي شهر قوسه بوجه الناس ليحمي الجراد الذي لجأ إلى حائطه ورفض الاحتياج لإبادة الجراد الذي يأكل قوت الناس لصالح دوغما حماية المستجير .
تتمترس خلف هذا الوهم مصالح مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة وما قبل المجتمع الحديث , فالبلطجي حاكما فذا , والديماغوجي زعيما وخطيبا مفوها والقتل العشوائي الإجرامي جهادا , والرأي ألقطيعي رأيا عاما , ومبدد المال العام اقتصاديا عبقريا , ...... والقائمة مفتوحة للإضافات .
يقابل أيديولوجية التخلف المحلي هذه أيديولوجية العولمة(7) , النيوليبرالية , رسالة السيد بوش , الذي يخاف الله , في تحرير العالم من " البرابرة الإرهابيين " كما حرر أسلافه العالم من " البرابرة الهنود الحمر الوثنيين " بتحويل مجتمعاتنا إلى سماسرة ووكلاء إلى الشركات المتعددة الجنسيات, ومستهلكين لمنتجاتها السلعية والثقافية . منحنا وهم التقدم والتطور , إسقاط أدلوجاتها الليبرالية والديمقراطية وفرضها مع إعاقتها لأساسها المادي وبنائها التحتي الذي يمثل الشرط الموضوعي لنموها ووجودها لتأتي عاجزة وواهنة عجز الشرائح الكومبرادورية الطفيلية المحلية المرتبطة عضويا باقتصاد وسياسة العولمة , كما هو عجز سياسة الفوضى البناءة لأميركا التي لا تنتج سوى الهدم والعدم , معبرة عن العجز البنيوي للرأسمال المعولم في بناء عالم متقارب في مستوى التطور وستارا يختفي خلفه مشروع الهيمنة على العالم وجعله الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأميركية .
التناقض القاتل لمشروع العولمة بإنتاجه تطورا ثوريا في التكنولوجية والعلوم والاتصالات الحديثة, وفي الوقت ذاته يعيد أنتاج آيدولوجية قروسطية بالصراع الدموي بين " الحضارات " مما يؤدي إلى "أستنقاع " التناقض وتشرنقه في صراعات تستبعد الخروج من النفق المظلم .
جناحا المشروع الايدولوجيا ينتجان التخلف المستدام والحركة الدائرية , تهميش المليارات من البشر وموت الملايين جوعا وقتلا ومرضا , الاختلال الخطير بالميزان بين الأمم , البربرية المستعادة كحلول للعجز . الإنسانية ترتهن لمنتجاتها وتستعبد في اغتراب متطرف .
بعد انهيار اليسار الايدولوجي وفشل تجاربه وتجارب حركات التحرر الوطني التي أنتجت أنظمة ديكتاتورية بائسة , يتحمل العراق وطنا وإنسانا تناقضات المشروع المعولم , خرابا ودمارا وموتا يوميا , الصراع الرهيب بين مشروع العولمة الرأسمالية وأنصاره المحليين وبين المشاريع الايدولوجية المتناقضة, والماضوية والفاشية , الشوفينية المتطيفة والعنصرية القومانية وإفرازاتها المحلية والإقليمية والعالمية , يتطلب منا أعادة قراءة المشهد الراهن قراءة تستوعب إشكالاته وتستنهض القوى الحية ببناء يسار جديد يقرأ الإحداث قراءة واقعية ويكون فاعلا في التغيير وبناء اصطفاف واسع في المجتمع العراقي لمقاومة الخراب والدمار واكتشاف مراكز المقاومة ضد العولمة الرأسمالية محليا وإقليميا وعالميا والاندماج فيها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:-
(1) في رؤية كاثوليكية لاكتشاف أميركا ( أن اكتشاف أميركا قدم للمسيحية فرصة كبيرة وفريدة لكي تقرب ملايين البرابرة الملحدين من جادة الإيمان الصحيح بالرب المسيحي الحق . وبذلك بررت الرؤية الأيدلوجية للغزو الهمجي ولنأخذ بعض الأرقام والوقائع :
- إبادة 90% من السكان الأصليين خلال قرن ونصف يقدرون بمائة مليون إنسان .
- من أصل 22 مليون من سكان المكسيك الأصليين بقي مليون واحد خلال أقل من قرن .
- اغتصاب ارض السكان الأصليين والاستيلاء على ثرواتهم كما أن ثقافات وشعوبا قد محيت من الوجود
(هذه المعلومات من النظام العالمي الجديد ومشاكل العالم الثالث . هارالد نويبرت.دار الطليعة بيروت)
(2) أن الفلسفة تأتي متأخرة جدا لكي تقدم وصفات حول الكيفية التي يجب أن يكون عليها العالم , أنها تفهم ما هو في الحين(( الذي يكون فيه شكل الحياة قد شاخ )) هيغل .
(3) الإنسان العمومي هو الإنسان الذي وصفه وليم رايش بالرجل الصغير أنه يجد قيمته وجدواه في حياة القطيع, أنه مشغول عن التفكير بنفسه بالتصفيق للزعيم وعقلية القطيع . غوغائي , مفتون بالقوة أكثر من فتنته بالعقل . مادة وقاعدة التطرف الأيديولوجي ومشاريعه .
(4) (أبو طبر) الاسم الذي أطلق في العراق على قاتل متوحش أثار الرعب في صفوف العراقيين و كان ستارا للصراع على السلطة بين أقطاب النظام والتصفيات المتبادلة في السبعينيات من القرن الماضي .
(5) الصهر تعبير أكثر قربا من سياسة (تبعيث)المجتمع والدولة وأكثر أشكال الفاشية تطرفا كما هي إلغاء عدائي استفزازي لأي شكل من أشكال الحرية والتمايز .
(6) نظرية المؤامرة هي نظرية تخضع كل ما يحدث لكونه تآمرا وبذلك تعطي للأحداث بعدا غائما وغير مفهوم لا يضع التآمر ضمن سياقه الطبيعي في الصراع .
(7) عندما نتحدث عن العولمة فإننا لا نلغي الانجازات الموضوعية لها والتطور العلمي والتكنولوجي الذي تنتجه إضافة إلى ذلك فأنها تنتج الظرف الموضوعي لتوحد الإنسانية عبر العالم في مجابهة المخاطر والتحديات الناجمة عن العولمة الرأسمالية .

المرجعية الفكرية لليسار

إعادة قراءة التجربة الاشتراكية بعد انهيار اليسار قراءة جديدة لا تكون مجدية إلا بعد الاعتراف بأنها أزمة حقيقية وشاملة بعيدا عن الحلول الترقيعية التي توعز هذا الانهيار إلى المؤامرات الامبريالية أو الأخطاء والانحرافات وغير ذلك من القراءات التي تنطلق من البنية ذاتها . وكما يحدث في الأزمات التاريخية الكبرى تثار العديد من الأسئلة وتتعدد القراءات وتنشط الأدوات الفكرية للإجابة على السؤال الكبير : لماذا هذا الانهيار وكيف حدث ؟ هناك اتجاهات رئيسية ثلاث تنبثق منها العديد من الاتجاهات الفرعية تحاول إعمال الفكر للإجابة على هذا السؤال سنحاورها مساهمة منا في إذكاء حوار منتج لإنهاض اليسار من جديد اقتناعا منا بأنه يمتلك القدرة إذا ما تغلب على مأزقه الذاتي على تقديم الإجابات على أزمات عصرنا واقتراح الحلول لتجاوز الأزمة البنيوية المستعصية والمدمرة للنظام الرأسمالي المعولم ومخاطره ا لجمة على الإنسانية والبيئة ومستقبل الحياة على كوكبنا .
الاتجاه الأول:-
وهو الاتجاه القديم الجديد الذي شاع في الأدبيات الاشتراكية الذي يوعز كل الإشكالات التي مرت بها التجارب الاشتراكية إلى الأخطاء والانحرافات ورغم نسبية صحة هذه الأمور إلا أنها تبقى قاصرة عن تفسير هذا الانهيار ولا تستطيع الإجابة الواقعية عن السؤال المهم : لماذا تتكرر هذه الأخطاء والانحرافات بشكل دوري ؟ هناك العديد من الأجوبة الجاهزة لدى المدافعين عن هذا الاتجاه كنتيجة المؤامرات والانحرافات والأخطاء ؟ إن هذا النمط من لتحليل لا يدافع عن قضيته بقدر ما يقدم المبررات والحجج لأعدائها . انه قراءة من نمط الجمود العقائدي وإرغام الواقع على ارتداء جلباب العقيدة مهما كان مهلهلا وبذلك نكون الميت الحي الذي لا يرتبط بالواقع بأية صلة . إن الحياة قد أثبتت فشل النموذج السوفيتي للاشتراكية وبالتالي فشل الجماعات والعناوين المنشقة عن التي كان مبرر وجودها صراعها مع هذا النموذج وبذلك يمكن القول أنها انتفت بانتفاء " نقيضها " .
الاتجاه الثاني : وهو الاتجاه الذي يدعو إلى تعدد لمناهج والمرجعيات وعدم اشتراط الماركسية كصيغة للتعاقد اليساري ومنها من يعلن موت الماركسية والاستعاضة عن " واحديه الفكر " بالنضالات العملية في الميدان ورفض النظام الرأسمالي . وترى هذه القراءة إن القيد الايدولوجي قد أصبح ضيقا ؛ وان واحديه الفكر وما تولده من واحديات تمسطر حركة التاريخ والمجتمع خاطئة . الم تنتقد التجربة الواقعية واحديه الفكر وتطبيقاتها ومآسيها ؛ بل وسخرت منها سخرية مرة ؟ كما تعلن هذه الرؤية القطع مع تجربة قرون من الكفاح تحت بند القطع مع التجربة السوفيتية الفاشلة . يحاول هذا الاتجاه الهرب إلى الإمام من استحقاقات التجربة السابقة ، معتبرا إياها سلبا مطلقا وبذلك يكون نقيضا بلا تاريخ يولد من فراغ ؛ رغم تواضعه المحمود بأنه لا يدعي امتلاك إجابات لكل الأسئلة . رغم اتفاقنا مع هذا الاتجاه في نقد التجربة السوفيتية وأمور أخرى كما عرضته في موضوع ( حول التجربة الاشتراكية ) غير إنني أرى شيئا من الغموض في الصياغة لنظرية ومحاولة للهرب من اشتراطات الصيغة الواحدية لتجمع البيض الايدولوجي المتعدد الألوان في سلة واحدة ثم تضعه في خلاطه الممارسة العملية النضالية في مواجهة الرأسمالية السائدة من اجل تجاوزها . ولكن حساب الحقل غير حساب البيدر فهذا الغموض سيشتت اليسار في أول مفترق طرق حاد . إننا كيساريين لا يسعنا الهرب من استحقاقات هذه التجربة بخفة بالبراءة منها . إن كفاح الملايين من الناس . وبطولاتهم ا لعظيمة من اجل المثل والقيم التي حملتها هذه التجربة هو الذي يدفعنا إلى نقدها بدون تقديس أو صنميه .
الاتجاه الثالث : والذي ازعم إنني منه له رؤية أخرى . بعد كل الإخفاقات الكبرى للمشاريع الايدولوجية والرسالات الخالدة على اختلافها ، وما أنتجته من ماسي وكوارث على المجتمعات الإنسانية يجري هجوم صريح ومبطن على الفكر بحجة مكافحة الادلجة والدوغمائية حيث يطلب منه التخلي عن تطلعاته إلى عالم أفضل لصالح صنم جديد هو البراغماتية و" الواقعية " وبذلك يفقد قدرته على تحسس الجديد وتغيير الواقع بدلا من الارتهان للعقيدة ونصوصها الثابتة . من خلال ذلك يجري هجوم متعدد الاتجاهات على الماركسية ومشروعها في بناء مجتمع يخلو من الاستغلال ومن تسلع وتشيء الإنسان كفرد وكنوع . في ضوء المعضلات التي نمر بها نحن إمام استحقاق كبير لبناء الفكر اليساري بعيدا عن جلد الذات كما هو بعيد عن البكاء على الإطلال والتمسك بما هو قديم بال كمقدسات لا تمس . إنما يميز الإنسان كونه كائنا مفكرا انه يضع تجريداته النظرية ليكون الفكر هو الضوء الكاشف الذي ينير له طريق حريته ويمكنه من فهم طبيعة حياته ووجوده ميسرا له التغلب على الارتهانات التي تعيق مساره ولكن إشكالية الفكر البنيوية في تادلجه وبذلك يتعالى على تاريخيته مكتسبا وهم اكتفائه بذاته ولذاته يزيده تيقنا بتادلجه بناءا تحتيا محافظا يعمل على صيانة نظام سائد والمحافظة عليه . إن فتح الماركسية الكبير هو الإطاحة بكل نسق مادلج ووعيها بماهية الفكر وعلاقته بالواقع والتناقضات التي تحكم هذه العلاقة . غير إن الماركسية بحكم كونها نشاطا فكريا تتعرض أيضا لهذا الشكل حيث تادلجت في مجموعة من العقائد الثابتة . نستخلص من ذلك إننا كيساريين علينا إن نؤكد إن مجرد الانتماء إلى فكر مهما كان ناقدا لا يضمن لنا عدم لوقوع في هذا المشكل بل علينا إن نضع أسسا فكرية وعملية تتيح لنا " التخلص " من هذا الإشكال وهو الجذر المهم في بناء يسار جديد كما اعتقد . إن الماركسية هي النظرية الأهم التي وعت سخرية الواقع من التحديدات الايدولوجية فإذا كانت الحركة الواقعية قد استجد فيها في الأمور أمور وتجاوزت بعض النصوص والاستنتاجات التي قرأتها الماركسية والماركسيون بعد ذلك فان ذلك في صلب الجدل الماركسي . أنها حيوية المنهج الماركسي . تجاه فيروس الادلجة والجمود والمعرفة النهائية . إن منهجية ماركس مازالت تحتفظ بحيويتها من دون إن يكون كلما كتبه آيات بينات في كتاب مقدس لا يجوز المس بها . إن منهجه في قراءة النظام الرأسمالي وتحليله لآليات نشوؤه وعمله مازالت راهنة فلم يخبرنا الواقع إن الرأسمالية قد تحولت إلى جمعية خيرية أو إن الرأسماليين قد تحولوا إلى رهبان فطبيعة الرأسمالية لازالت كما هي مزيدا من الاستغلال ومزيدا من الحروب والهيمنة وتهميش أغلبية شعوب العالم والطغيان المسلح وغير المسلح . إن أي نظرة فاحصة ومتفحصة لعالمنا المعولم ستنبئنا بالكثير . إن المهمة لراهنة لليسار هو قراءة حركة الواقع والتغيرات التي طرأت فيه .
ما هو موجود وسائد وما لم يوجد بعد , المعلوم والمجهول . المعلوم الذي تمت قراءته والمجهول الذي هو إمكان يمكن تحديد صورة أولية له استنادا إلى تناقضات المعلوم أو الحاضر كما انه لايمكن تصوره كونه لم يقع بعد . ما يمكن تصوره يضع الفكر له صورة متخيلة من خلال التناقضات أو جدل بنية واقعية ما فيحاول إعادة صياغة الواقع وتخيل صورة المستقبل إما ما لا يمكن تصوره فسيكون مجهولا متروكا لظرف تحققه وعند تحققه ينشأ التناقض بين الصورة المتخيلة للمجهول وبين الصورة الواقعية له عند ما يكون معلوما عندها تولد الادلجة إذا كف الفكر عن مغامرته في قراءة ما لم يقرا بعد من صورة متخيلة إلى نصوص عقيدية ثابتة وتعاليم منزهة عن الخطأ . ما يمكن تصوره وتخيله يحمل بوصلة في اتجاه المجهول مغناطيسها التناقض الداخلي في بنية اجتماعية – اقتصادية راهنة . القراءة الجدلية للمجهول من خلال واقع قائم تختلف عن رسم صورة مشتهاة " طوباوية " لما ينبغي إن يكون عليه العالم لكن طوباوية القراءة الجدلية هي أمل يلهب خيالنا وحماسنا ويوجه طاقاتنا لتقريب زمن الولادة وتسهيل آلام المخاض على العكس من طوباوية التخيل والاشتهاء وفق رغبات الذات الإنسانية إلى التقدم والعدالة وإحقاق الكرامة الإنسانية التي قد يصيبنا عدم تحققها باليأس والإحباط . مع تقديرنا لها باعتبارها شكلا لفرادة الإنسان وتبصره بحالة لم توجد أو تتضح نواة تحققها بعد . إن تطور الحياة وتعقيدها والبرغماتية العمياء التي يشيعها رأس المال المعولم الذي يحاول إيقاف التاريخ عند حدود الرأسمالية ويشرنقه في شباك الثورة التقنية مرحلا التناقض من المجتمع إلى الآلات الصماء والحياة الاستهلاكية خالقا حاجزا إمام أية يوتوبيا جدلية كانت أم مشتهاة . محاولة الإلغاء ألقسري لجدلية التاريخ قد ولدت الانحطاط والفراغ . الثقب الأسود الهائل الذي ابتلع كل النفايات التي فقدت صلاحيتها للحياة معيدا ترتيبها في جوفه ثم يلفظها لتعيث فسادا مرحلة الصراعات الحقيقية لصالح صراعات مدمرة . إن صراعات البدائل المتناظرة مهما بدت مختلفة ومتخاصمة ومهما تقاتلت وأسالت الدماء انهارا فإنها تعمق المأزق وتقود العالم إلى الانهيار أنها تحجب النقيض الجدلي الحقيقي من التحول إلى المعلوم لصالح صراع البدائل المتناظرة . الماركسية منهج يقع بين العقائدية و الادلجة , النصوص التي هي بنت ظرفها التي تحاول الإفلات منه لتكون عقيدة ثابتة ويمثلها الاتجاه الأول وبين البراغماتية العمياء التي هي إنكار لدور الفكر في عقل المستقبل النقيض والتأثير على الوقائع وتبعيته الإلية للتجربة والواقع . لقد تم تحويل الماركسية إلى تعاليم مدرسية واجبة الحفظ والترديد افقدها قيمتها النقدية وقدرتها على التجاوز . إيقافها عند ماهو معلوم سائد وعدم رسم صورة جدلية متخيلة لما هو مجهول . الماركسية إذن هي منهج حي "يتماها " مع الواقع فينفذ إلى تلافيفه , يفككه إلى متناقضاته ثم يحيله إلى الفكر ليعيد تركيبه ويرسم صورة أولية لنقيضه الذي مازال مجهولا . يعيب الكثير من الناقدين للمركسية على ماركس انه لم يقدم لإتباعه تفاصيل كاملة عن بناء المجتمع الاشتراكي باعتباره خللا فيها واكتفى بصور عامة عنه . إن ما اعتبروه خللا هو قصور عن فهم منهج ماركس . إن الصورة العامة التي اكتفى بها هي الصورة الممكنة المتاحة التي أنبأته بها التناقضات الكامنة في البنية الرأسمالية ولم يرسم لها صوره جاهزة ومفصلة إذ أنها تدخل في المضمار الأخر من المجهول الذي لايمكن عقله ومعرفته لأنه لم يتحقق بعد أي إحالته إلى ظرفه وزمان تحققه . بهذا الفهم والمنهجية لم يصادر ماركس الجديد وما تبينه تجربته باد لجة تضع له مساراته من خارجه وبشكل مسبق . وفي الوقت ذاته لم يجعل حركة التاريخ حركة عمياء تابعة أليا وحتميا لحركته الموضوعية حيث لا يمكن عقلها أو التأثير فيها. انه تجسيد لحرية الفعل الإنساني دون إن يكون هذا الفعل ارادويا منفصلا عن الواقع وغير مؤثر ومتأثر به . ودون أن يكون تابعا آليا لحركته الموضوعية . ان الاشتراكية إمكان تستلزمه ومازالت تناقضات البنية الرأسمالية وليس حتما أليا بعيدا عن الفعل والتدخل الإنساني في تشكله . الاشتراكية التي قدمتها للإنسانية ثورة أكتوبر العظمى في الاتحاد السوفيتي ودول أخرى كانت هي المظهر المجهول الذي لايمكن تصوره الذي تركه المنهج الماركسي للتجربة الواقعية كي تحققه وتعطيه صورته الواقعية . وان فشل هذا النموذج لكنه قد ترك لنا تجربة ثرية لإقامة بناء اشتراكي قد يقترب من الصورة المتخيلة لمجتمع ( يكون فيه النمو الحر لكل فرد الشرط للنمو الحر للجميع ) كما جاء في البيان الشيوعي وكما يؤشر ذلك ألتوق الواسع إلى الحرية كمتطلب رئيسي لعصرنا . أليس التاريخ مزيجا من التجارب الفاشلة والتجارب الناجحة ؟
إن الخضوع لمنطق اللبرالية الرأسمالي باعتبار الاشتراكية لم تعد اليوم نموذجا عمليا ناجزا وباعتبارها هدفا خياليا أو عدم التطرق ا ليها في البرامج السياسية باعتبارها هدفا مؤجلا لا يعني سوى التحول إلى حركات ليبرالية ذات نزعات اجتماعية إصلاحية إذ لا معنى للمعارك الملموسة من اجل التغيير سوى أنها جمل إنشائية جميلة إذا افتقدت المعارك الملموسة هدفها الواضح . التغيير هو الاشتراكية لكن الاشتراكية في رؤيتنا ليست التعاليم الثابتة والإشكال المنجزة التي قدمتها التجربة الفاشلة التي يتمسك بها العقائديون مع بعض التغييرات. نحن في( حيد ) قررنا إن تحرر الإنسان العامل وتحرر المجتمع من عبودية رأس المال( يأتي عبر الإيمان بالخيار الاشتراكي وفق عملية تفرزها الممارسة المكتسبة لتجاوز النظام الرأسمالي وتحقيق المساواة .... بما ينتج القناعة لدى الغالبية العظمى من المجتمع لتكون الاشتراكية اسما ووصفا خيارا شعبيا يتحقق عبر كل وسائل النضال والكفاح السلمي المنظم)) 1
كما إن الاشتراكية في رؤيتنا هي ما يميز اليسار ومعنى وجوده فان المنهج الماركسي وليس الايدولوجيا الماركسوية التي باتت دائرة مغلقة متحصنة في ذاتها رافضة ما ينتجه الفكر الإنساني بحجة انه فيروسات برجوازية , إن المنهج الماركسي يستوعب كل ماهو ثمين في الفكر الإنساني والممارسة الإنسانية غير منغلق الم تكن الفلسفة الألمانية والاقتصاد السياسي الانكليزي والثورة الفرنسية مصادر الماركسية الثلاث ؟ في رؤيتنا رفض لاحتكار العلم والمعرفة والحقيقة فلسنا وحدنا الذين نعرف والآخرين يهذرون فنحن منفتحون على ما ينتجه الفكر الإنساني لان الوعي يكتسب في ثنايا النشاط الإنساني المتنوع ولا يشترط تمثله في ايدولوجيا واحدة موحدة أو مؤسسة معينة وكما أشار الشهيد مهدي عامل( إن الحياة في التنوع والموت في التماثل ) إن ( اعتماد المنهج الواقعي الجدلي لما يتمتع به من حيوية وعلمية في تفسير وتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي مع عدم إغلاق الباب إمام المناهج الأخرى بما يخدم انجح وأسرع واسلم الطرق في الوصول إلى الهدف المنشود) 2 . ولنا عودة أخرى للموضوع .
(1،2)من بيان حول انبثاق حركة اليسار الديمقراطي العراقي ( حيد ) منتصف أب

15 \ 2 \ 2007

((الكروسياسي)) و الوعي الكامن

بادئ ذي بدء نستأذن اللغة ، لنجمع بين الكرة والسياسة في مصطلح واحد أسميته ((الكروسياسي)) وأنا على وعي كامل بالتناقضات التي يحملها هذا الدمج ، وبالاعتذارات التي لابد من تقديمها إلى الرياضة وكرة القدم لانتهاكي عذريتها وبرائتها ، ولأضافتها عن طريق الإقحام على السياسة ، ولكن عذري في ذالك المثل القائل (عند الضرورات تباح المحظورات).

الرياضة هواية محايدة وجامعة ، كما أنها نزوع أنساني جميل إلى المتعة واللهو وكونها غاية لذاتها . لقد قرءنا وسمعنا ورئينا الكثير من العوامل المؤثرة والفاعلة في نشاط وسلوك الناس كالاقتصاد والايدولوجيا وما إلى ذلك من العوامل المسببة للصراعات . لقد سمعنا عن الامبريالية الرأسمالية ولم نسمع عن الامبريالية الرياضية مثلا. ولم تنتج الرياضة أسلحة الدمار الشامل، لتهلك بها الحرث والنسل ، ولم تخلق دكتاتورا أو قائدا ضرورة أو زعيما مفوضا من العناية الإلهية ليقتل من الناس أكثر مما تقتله أسلحة الدمار الشامل، أو مافعلته وتفعله الترسانة التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية بكل إمكاناتها الكافية لتدمير الأرض ومن عليها عدة مرات .

من هنا يأتي التناقض المنطقي بين الرياضة والسياسة . بين براءة ونبالة الرياضة وبين قذارة ووحشية الكثير من السياسة.السياسة التي من المفترض أن تكون أدارة الحياة ونشاط الناس بكل مناحيها بما يخدم ألإنسانية وبما يوفر لها الرفاه والحرية والكرامة والعدالة وجعل كل ما في الأرض من نعم وثروات ولذائد الحياة في متناولها.السياسة ، في العديد من وجوهها ألان ، صراعات على الكراسي والمغانم والاستحواذ على كل شيء ، الهيمنة والإثراء والوجاهة والوحشية مخفية حقيقتها العارية بشتى اللبوسات والذرائع .

أن الحالة الفريدة التي أوجدها الفوز ألأعجازي لمنتخبنا الوطني لكرة القدم بتسيده على أكبر قارة في العالم ومسيرته المراثونية القصيرة على مستوى الزمن والطويلة على مستوى المعاناة هو الذي أجبرني على هذا الإقحام .

أن فتية بنظارة الورد وبفواحة عطره قد دخلوا التاريخ ، وبعكس القوانين الطبيعية و((المنطق)) التي تقول أن الفريق العراقي سيخرج من البطولة من التصفيات الأولى لأسباب عدة منها ذاتية لأسباب تتعلق بالتدريب وضعف الاستعداد وأمور أخرى ، ولأسباب موضوعية تتعلق بظروف البلد وما يحيق به من خراب ودمار وانشقاقات داخلية وتدخل خارجي في شؤونه لم يشهد له التاريخ مثيلا من حيث الكم الهائل لهذه التدخلات ومن حيث إمكانياتها حيث الشعب يوميا يذبح من الوريد إلى الوريد وحيث تصبح فيه أدامه الحياة محل شك وريبه وسط كل هذا قام هؤلاء الفتية البواسل (أسود الرافدين) بكل البساطة التي يمتلكونها ليحققوا النصر العظيم ، وبذلك أضافوا عاملا فاعلا أخر يضاف إلى العوامل المؤثرة على النشاط الإنساني لأول مرة على ما أعتقد هو العامل الرياضي الكروي ، أي أنهم وضعوا الأساس لابتكار مصطلح ((الكر وسياسي)).

أنه ابتكار ستسجل ((براءة اختراعه)) باسم المنتخب الوطني العراقي لكرة القدم ، كما سيسجل التاريخ عظمة شعب تفاعل وساند منتخبه رغم الجراح البليغة مستخرجا وعيه الكامن ليخرج ((منتفضا)) عن بكرة أبيه ، هاتفا لهويته الوطنية العراقية ، وهاتفا للإنسان العراقي من حيث هو إنسان عابر للطوائف والاثنيات والتحزبيات، ولكل عناصر المشروع ألتدميري لهويته العراقية ولإنسانيته صارخا بوجه الكثير من السياسيين ، وبوجه المحتلين على تعدد أشكالهم كما صرح فيلسوف المعرة قبل قرون :

يسوسون الأمور بغير عقل فينفذ أمرهم ويقال سـاسـة

فأف من الحياة وأف مـني ومن زمن ((سياسته))خساسة

مع الاعتذار لأبي العلاء المعري عن تحوير البيت .