2010/12/12

القمع والانقماع

لا يمكن إطلاق أحكام معممة على التاريخ , ولكن ظاهرة القمع والانقماع قد وجدت منذ قرون وترسخت واستمرت إلى يومنا هذا - ويبدوا للمتدبر إنها ستستمر ما لم يفاجئنا التاريخ - مشيرة إلى أن هناك أسباب معممة تخرج أحيانا عن منطق الأشياء فتضطرنا إلى دراسة لامنطقها. استمرار الفعل والعقل القامع والانقماعي في مجتمعاتنا وتمفصله في كل خلية من خلايا حيواتنا يخرج عن منطق التاريخ وعلوم الإنسان الأخرى وهي أدواتنا في تحليل الظواهر والجواهر وفهمها .
توقف عن الكلام ريثما ملأ أقداح الشاي وقدم لي لفافة تبغ آخذا واحدة لنفسه ومازحني قائلا: لا فائدة من الشاي بدون سيكارة وبالعكس فهنالك علاقة جدلية تربط بينهما ... أدركت من خلال مزاحه المتفلسف انه يهيئني لموضوعة فيها شيء من الفلسفة فأخذت على نفسي أن اتركه يسترسل غير إنني لم استطع إخفاء نظراتي المتسائلة والمستفهمة اعتمادا على أن العم هلكان من الذين ( يلكفونهة وهية طايرة ) كما يقول المثل الشعبي.
ابتسم ابتسامة خفيفة واستطرد موضحا لست ممن يعتقدون بالتفسير الواحدي ولا بانعزال المناطيق بعضها عن بعض , بل بتفاعلها تفاعلا جدليا في إنتاجها للتشكيلات الاجتماعية - الاقتصادية ووسمها بميسمها . ليس المقصود بذلك تساوي المناطيق في تأثيرها فمازال قانون البنية التحتية يلعب دورا رئيسيا في تحليل وفهم البنى الفوقية ولكن ليس بالفهم المسطح السائد فالمناطيق الأخرى لها استقلاليتها النسبية , ودينامياتها المؤثرة والمتأثرة في صياغة الأحداث . وقد يبرز تأثير واحد من هذه المناطيق أو أكثر ليكون له التأثير الأهم , وعلى العموم فأن ذلك يرجع إلى مجمل النشاط الإنساني والسايكولوجيا الجمعية المكونة لجماعة بشرية معينة , خصوصا إذا كانت موغلة في القدم , أو متطرفة في الاعتزاز بذاتها . وقد يصل الأمر إلى ‘‘ثبات’’ بعض القيم وعومها في بحور الأزمنة اللاحقة لزمانها وان حصلت متغيرات في البنية التحتية وبذلك تشكل كابحا لإنتاج قيم تتطلبها هذه المتغيرات .
تضاحكت مخاطبا العم هلكان ( هاي ينراد الهة استكان جاي وجكارة ) فبدلا من أن توضح قد أزدتني غموضا . صب لي قدحا من الشاي وقدم لي لفافة تبغ وقال ( لا تستعجل على رزقك) . وأضاف .. لقد وجدت من خلال معاصرتي للأزمنة المختلفة إن الأشياء تتغير , وان الشيء الدائم هو ( إن دوام الحال من المحال ) ولكنني قد وجدت القمع والانقماع شيء ‘‘دائم’’ عندنا وهذا مخالف لطبيعة الأشياء , حيث أن طبيعتها التغير والتحول حيث تحمل جرثومة فنائها في ذاتها , فما بال القمع والانقماع عندنا قد شذ عن منطق الأشياء ؟ صمت قليلا ثم أضاف :
القمع صفة رذيلة وفي معانيه صرفك عما تريد فعلا وفكرا وقولا وفي نتائجه قهرك وإذلالك وردك حيث يأخذ منك ألانت ويجعلك ألهو . يستلبك ذاتك ويلغيك وفي ذاته يحتويك , فأنت شبح لذاته . ينتج عن ذلك النمطية والتنميط والظلال الباهتة للواحد وبذلك يحل العلاقة مع الآخر بإلغاءه . ينتج هذا الإلغاء الاستبداد وينتج الاستبداد طرفي علاقة لا وسط بينهما , الطرف القامع والطرف المقموع فيكون الثاني نسخة من الأول . تولد هذه العلاقة الشاذة الانقماع أي مطاوعة القمع وتبريره من المنقمع وبذلك يكون المنقمع مازوشيا والقامع ساديا فيتشرب القمع والانقماع في كامل النسيج الاجتماعي والذاتي الفرداني ليصل إلى قمع الجسد والعقل ويتحكم بهما ويشوههما منتجا سيكولوجيا سادية أو مازوشيا أو باجتماع الاثنين في الجسد والعقل الواحد, فيكون النظام العام والخاص شموليا وتدخليا يرسم للذوات مساراتها ( فالعثة تفقس ما بين الإنسان وثوب النوم وزوجته وتقرر صنف المولود ) ملغية بذلك عبقرية الطفولة الواعية بكل براءتها ومغامراتها المحكومة بالتساؤل الدائم والكشف والاستكشاف فالإنسان يولد على الفطرة ولكن ؟!
القمع حقيقة عارية والانقماع حقيقة ملتبسة ومهما اختلفت مناطيقها فان لامنطقها واحد وهو البربرية المتوحشة , فهي السلطة أولا وهي قدس الأقداس وترنيمة السلطوي في السياسة وفي الفكر وفي الجماعة ابتداء وانتهاء بالذات القامعة .
مجتمعات القمع تنتج الشخصية الازدواجية فتوحد النقائض في الذات الواحدة . تخلق شخصيات منافقة وواهنة , عديمة المبادرة , تابعة مطيعة ذليلة , ومتمردة أنانية شرسة وفي ذات الوقت مستهينة بذاتها , إنها مرض جمعي . قلت له : لم هذا الثبات للقمع والانقماع على عكس منطق التاريخ ؟ أجاب : ابحث في نمط الإنتاج الراكد والدوائر المغلقة للكثير من الأشياء وقد يكون الأوان قد آن لمثقفيكم وباحثيكم أن يكدوا الفكر ويكدحوا العقل للبحث في آليات اشتغال اللامنطق أي بمعنى تجاوز المناطيق العديدة السائدة فهي صائتة صامتة قد فقدت منطقها ولم يبقى منها سوى الصراخ .
أثارت أفكاره عندي تساؤلات مهمة وجوهرية وددت طرحها عليه غير انه سكت عن الكلام المباح إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح .

الطنطل وتحولاته

في " الطنطل لوجيا "

كثيرا ما حدثتنا عجائزنا عن الطنطل عندما كنا صغارا . وما زلت أتذكر الرغبة والخوف اللذان ينتاباني عندما أكون وحيدا ، أو في مكان مظلم ، من خطر بروز هذه الشخصية الأسطورية أمامي فجأة . لا أعرف
لماذا أستحظرت ذاكرتي ، من بين ذكريات الطفولة ، هذه الشخصية المرعبة وتوجسي منها والشعور الغامض الذي سيطر على تفكيري أن " للطنطل " علاقة ما بالأحداث الغامضة التي مرت وتمر بنا . حملت توجسي إلى العم هلكان بن تعبان العريان , علني أجد في حكمته ما ينير لي هذا الغموض , وما يوضح لي كنه هذا الطنطل العجيب الغريب .
أبتسم العم هلكان من علامات الاستفهام والتعجب المرتسمة على وجهي . عمد إلى لفافة التبغ. أصلحها ببطء وهو يسترق النظر إلي ليرى ازدياد لهفتي ورغبتي لسماعه , بعد أن أخذ نفس عميقا , قال : أعلم يا بن أخي أن ما تسالمت عليه عجائزنا , في شأن الطنطل , أنه طويل القامة . عيناه مشقوقتان بالطول . رجلاه خشنتان كرجلي القرد . له القابلية على التحول إلى أشكال مختلفة . يخاف من النور فلا يظهر إلا في الظلام ويختفي عند بزوغ الشمس . لا يظهر في الأماكن المزدحمة ويختار الأماكن المنعزلة . نقطة ضعفه سماعه كلمتا ( مخيط وخيط ) فيرتعب لسماعهما فيهرب .
توقف هلكان العريان قليلا عن الكلام . أخذ نفسا من لفافته . قال : سأروي لك حكاية شائعة عن الطنطل , لم تضعفها عجائزنا , بل اعتمدتها وقد تكون المدخل لمعرفة أحوال وأهوال الطنطل , وبداية لتأسيس علم جديد بعنوان ( الطنطل لوجيا ) لما للسلوك الطنطلي من دور كبير في كشف خبايا وغوامض الأحداث التاريخية , والصراعات السياسية والاجتماعية , والفلكلورلوجيا . وأليك الحكاية :
أن الطنطل يتواجد في الأماكن البعيدة عن العمران . يترصد من يجده منقطعا ليظهر له بصورة رجل مسن . ضعيف الصوت . محدودب الظهر . يتوسل إلى الرجل المنقطع لإغاثته وعدم تركه لمصيره , فما أن يتمكن من اعتلاء كتفيه حتى يتحول إلى صورته الحقيقة , لافا ساقيه على رقبة المنقطع, خابطا به خبط عشواء إلى أن يستنزف قواه . و أذا ما تمرد الرجل عليه لف ساقيه حول عنقه حد الاختناق . وبذلك يجبره على أطاعة أوامره .
أستطرد العم هلكان : ولو انتزعنا من أمهات الكتب أحشائها , منقبين ومحللين , نجد أن الطنطل يظهر بأشكال متعددة , وبأسماء متنوعة . فقد نسب إلى الجن مقتل سعد بن عبادة الغامض بقولها
نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة
رميناه بسهم فلم يخط فـــؤاده
وقد نسب إلى أبن سبأ تأليب الجموع بعضها على بعض , وافتعال الحوادث التي أججت الصراع وجعلت الناس يقتل بعضهم بعضا , دون أن يبن لنا التاريخ كيف استطاعت شخصية نكرة أن تقوم بكل هذه المعجزات , بعد أن ظهرت بغتة على مسرح الأحداث . التحول الأخر هو السم المداف بالعسل الذي فتك بأكثر المعارضين خطورة حتى قيل " أن لله جنودا من عسل " .
ولو رجعنا إلى العهد السابق , فسوف نجد بعض الإحداث والشخصيات الطنطلية , كشخصية أبوطبر الذي أرعب العراق من أدناه إلى أقصاه , أو التحول على شكل " فنجان قهوة " أو " كأس عصير " يضيف بهما المستدعى إلى دوائر الأمن أو الدولة , ليموت بعدها خلال أيام موتا غامضا . صمت العم هلكان . بدا على ملامحه الوجوم بعد هنيهة أستطرد قائلا:
أعلم يبن أخي أني بحثت كثيرا , فيما وصل إلي من مدون أو شفاهي , عن سر الطنطل وحقيقته , فلم أجد مثلما نراه اليوم في هذا الزمن المعولم من غزارة وتنوع الشخصيات والإحداث الطنطلية وتخادمها وتناغمها ضمن قانون ( الوحدة والتناقض ) ويمكن لنا تسميتها اصطلاحا (طناطل العولمة ) .
أن الاستنتاج الذي يمكن الخلوص إليه أن الشخصية أو الحدث الطنطلي , هو الشكل الزائف للإحداث الذي يحجب الإغراض والأهداف الحقيقة عن العين فيختفي بانجازها وفق قانون ( مخيط وخيط ) , لتصبح في خبر كان . وكما قال الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
أن الطنطل سيظل على مسرح الإحداث مادام هناك كرسي حكم وحاكم ومحكوم وثروات مع انعدام التكافؤ والمساواة بين الناس . تساءلت : ولكنك لم توضح لي ماهية طناطل العولمة . أجاب بعد هنيهة . أعترف لك يا ولدي بقصوري عن فهم العصر الالكتروني المعقد , ولكنني أحيلك إلى البريد الالكتروني التالي , عله يشفي غليلك , ويوضح لك ما استعصى على أدركك . وهو
g.w.al-aben@nahbenko.com
أجاركم الله .
إلى هنا سكت هلكان عن الكلام المباح , إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح .

13\12\2007

الرفيق بوش والراسماليون الجدد

لقد فعلها السيد بوش قبل انتهاء ولايته . فقد تحول ، فجأة ومن دون سابق انذار ، إلى "الاشتراكي" والرفيق المناضل بوش . ورغم كل التنظيرات عن اقتصاد السوق الحر ، واطروحات الليبراليين القدامى والجدد عن تضبيط الاسواق لنفسها فقد ابتلعوا كل اللعنات التي صبوها على الاشتراكية لما تقوم به من تدخل الدولة في الاقتصاد و"افسادها للطبيعة الانسانية" بذلك التدخل حيث إن الطبيعة الانسانية في عرفهم هي السماح لاقلية من البشر أن تكون ديناصورات مالية مخيفة ، بينما تعيش الاكثرية الساحقة منهم على الكفاف والتهميش أو الموت جوعا ومرضا وجهلا وقتلا .
الغريب أيضا في الامر ، هو تحول اغلب قادة العالم الصناعي الراسمالي المتطور إلى اشتراكيين متحمسين ، من الرفيق ساركوزي إلى الرفيق غوردن براون مرورا بالكثير من القادة الاخرين واخيرا وليس اخرا الرفيق المبجل اوباما . لقد اخذوا يغدقون المليارات تلو المليارات ، من الجنيهات والدولارات ، في دعم واقراض وشراء المؤسسات المالية والصناعية التي لم يضبطها السوق – مع شديد الاسف؟ - وفق المبدأ المقدس للراسمالية الليبرالية من نقود دافعي الضرائب ، وبذلك يحملون الشعب مسؤولية فساد نظرتهم المخالفة للطبيعة لانسانية من أجل عودة الديناصورات المالية للكنز الفاحش من جديد والقاء الكثير من العاملين إلى سوق العاطلين . كما علت أصواتهم بنغمة تضبيط الاسواق من خارجها ، ووضع الخطط وفق أسس جديدة لضبط الاسواق وحركتها ، وهو ما كانوا يأخذونه دوما على الاشتراكية .
الاغرب والاعجب إن دعاة الرأسمالية ونظام السوق الحر عندنا يسبحون عكس التيار . إنهم يسعون بكل ما في وسعهم من جهد وطاقة إلى تهميش دور الدولة ، وجعلها مجرد ( ناطور خظرة ) لا تهش ولا تنش، وقد صاروا ليبراليين أكثر من الليبراليين الجدد – الذين اعترفوا بعورات الاقتصاد الحر – فهم يرفعون الدعم عن كل شيء في صناعاتنا الوطنية ويغرقون السوق العراقية بكل ما هب ودب من نفايات الصناعات الخارجية ويدعمون الاستثمارات الاجنبية ، بأي شكل ، المهم أن تتيح الكثير من العمولات للبعض من ذوي الشأن في صناعة القرار ، محولين إتجاه الاقتصاد إلى اصحاب التوكيلات من الكمبرادور المحلي وطامحين إلى خصخصة كل شيء ، في ظل الضروف الكارثية التي نعيشها من فقر وبطالة وأمراض وتلوث بيئي وفساد سياسي ومالي وإداري والقائمة تطول .
حقا إن عالمنا اليوم عجيب وغريب . ففي الوقت الذي تتراجع فيه الرأسمالية الام ، مرغمة عن ثابتها الاساس ، نرى رأسماليينا الجدد في بلادنا يطبلون ويزمرون للبرلة متطرفة في الاقتصاد فيما يحجبون مزايا الليبرالية في الامور الاخرى إن لم يكن العكس تماما .
خلاصة القول إن هذا هو حال الاقتصاد الحر وفرسانه ففي الوقت الذي تلجأ فيه الرأسمالية الام إلى "الاساليب الاشتراكية" التي تمقتها محملين العالم مسؤولية ازماتها ودفع ثمن انقاذها فإننا نرى رأسماليينا الجدد يلجأون إلى اللبرلة المتطرفة على حساب البلد والمواطن . بذلك لا يمسكون الخيط ولا العصفور بل يزيدون ثرائهم الفاحش فيما يحولون إقتصادنا إلى أقتصاد غرابي – نسبة إلى الغراب – الذي أراد أن يقلد مشية الطاووس فلم يستطع كما إنه لم يتذكر مشيته الاولى فأخذ يقفز ، والخوف كل الخوف إن تكون له قفزة لا تحمد عقباها على البلاد والعباد .
ملاحظة اخيرة .. الطبقة الرأسمالية في العالم المتطور منتجة ومبدعة أما رأسماليتنا الجديدة ، في معظمها ، هي طفيلية وشرهة .

الخوف من (( الحرية ))

كنت أتأمل بصمت , في أبيات الشاعر الاسباني لوركا , وهو يخاطب حبيبته , ومن خلالها بلده :
ما الإنسان دون حرية يا ماريانا ..
قولي لي .. كيف أستطيع أن أحبك أذا لم أكن حرا ؟
كيف أهبك قلبي أذا لم يكن ملكي ؟
اعتصر الألم قلبي ونحن نعيش عصر العولمة , وفي عين الوقت , انتابتني فرحة غامرة لان لوركا والكثير من أمثاله ممن حملوا الإنسان وحريته في وجدانهم , قد رحلوا ولم يشاهدوا ( التقرد والثعلبة ) التي يحملها الكثيرون في سيرك العولمة المتنوع .
أن ما أثار هذه التأملات في نفس هذا العداء للحرية من بعض من يدعون أنهم ينتمون إلى مثلها , ويزعمون حمل همها الإنساني , حيث ضاقت صدورهم بالمختلف ضمن " فضائهم الفكري " , بينما أتسعة صدورهم لكل الألوان السوداء والخضراء وغيرها من ألوان الطيف الفكري " المضاد " , وكأنما كل مصائب الوطن والشعب قد تراجعت أمام هذه الأوراق .
أفاقني من حديثي الصامت , رائحة الأبخرة الدافئة المتصاعدة من قدح الشاي , في هذا البرد القارص , و ابتسامة العم هلكان العريان , وهو يقدم لي القدح .. بعد أن تأكد العريان من عودتي أليه . قال : لست على سجيتك , ففي كل مرة تبادرني بالحديث , واليوم أنا الذي أبادرك , فما الذي يشغلك ؟ بعد أن أوجزته . قال : أعلم يا أبن أخي أنك قد أصحرت و أظهرت ما كمن في نفسي من جرح غابر لا يندمل , جرح نزف وما زال ينزف , في ضمير ألإنسانية منذ أن فقد (( أرضون )) – أبن الأرض – حريته التي أخذت تتراجع بعد أن أكتشف بعض أفراد جنسه الذهب و أمتلكه , وأنشئ سلطة تحميه , وهو يصارع بلا هوادة من أجل نيل حريته مرة أخرى , ومن أجل فضح ومقاومة كل أضاليل وأباطيل السيد الذهب – الذي أستعبد الجميع – ومراكز السلطة والنفوذ التي أنشئها لخدمته .
أن أعداء أرضون الذين يخشون انتصاره وعودته إلى براءته والتحامه مرة أخرى بأفراد جنسه, وأمه الأرض , هم وحدهم الذين يخشون الحرية ويرهبونها , لان فيها جرثومة فنائهم , وهي الشمس الساطعة التي تكشف خبايا كهوفهم المظلمة .. صدقني أن رهاب الحرية لا يوجد ألا عند من تكون بيوتهم من زجاج , ليس بمعنى الشفافية التي يصدعون رؤوسنا بها هذه الأيام, بل بمعنى الهشاشة , لذا فأنهم يحيطون بيوتهم الرقيقة هذه بغلاف سميك من التعاويذ والبخور والفرمانات والنبذ والموت , وكل ما تتفتق عنه قرائحهم لأجل البقاء . وإذا ما كانت بعض الشعوب قد أنجزت بعض التقدم على طريق الحرية , بعد كفاح عنيد وتضحيات جمة , فأننا مع الأسف الشديد , من شعوب الضفة الأخرى التي مازالت تتلمس بداية الخيط على أول الطريق , فلا تعجب أذا ما تحصن كل منا في بيته الزجاجي .. أعاد العم هلكان ملئ الأقداح الفارغة , بالشاي , مرة أخرى ثم أستأنف حديثه : سأروي لك حكاية ذات مغزى فقد حدثتني أحدى عجائزنا, من ذوات الحكمة , أن هناك عائلة قد استشرت فيها عادة مهلكة متوارثة فكلما كبر فيها رجل تركه أبنه على قارعة الطريق لمصيره , وفي ذات يوم سار أحدهم بأبيه تاركا إياه على باب مسجد المدينة , لكن الأب أستوقف ابنه قائلا : أعلم يا ولدي بأنني قد طعنت بالسن , و أن لم أمت اليوم فقد أموت غدا ولكن يا ولدي أقطع هذه السلسلة اللعينة , حرصا على مستقبلك ومستقبل أبنائك من بعدك .
لاشك أننا سنبقى على حالنا البائسة الراكدة هذه , إذا ما لم نقطع هذه السلسلة و نكسر ونزيل هذه الجدران الزجاجية لمنازلنا , كي تدخل جرثومة الحرية لكنس مزابلنا و لتعقيم عقولنا وأفكارنا.....
وإلى هنا سكت هلكان عن الكلام المباح إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح .



1\1\2008

الخوف من " النظام "

الصخب أو "الهوسة" سمة ملازمة لنا في كل شيء نحن العراقيون . في الحب كما في الكره , في السلم كما في الحرب , في الأفراح كما في الأحزان . ضاع صوت العم هلكان في ضجة أصوات الباعة المنادين وضجيج السيارات وزخات من الرصاص لم نعرف مصدرها ولماذا أطلقت . عادة ما كنت أزوره في بيته ولكنني اقترحت عليه اليوم أن نتجول في شوارع المدينة الصاخبة ... اخترت مكانا للاستراحة في مقهى صغير يقع على مشارف تقاطع شارعين صاخبين . كان استقبال (القهوجي) له حارا وسرعان ما كان الشاي (المخدر على الفحم) أمامنا . الود الظاهر بين الرجلين يوحي بعمق العلاقة فيما بينهما , رغم إنهما من جيلين مختلفين . هل يكمن السر في اسم (القهوجي) حمد العراقي , رمز العراقي الكادح ألمليء بالغيرة و النخوة والذي خلده مظفر النواب في (ألريل و حمد) و قصائد أخرى أم للبساطة والألفة و التلقائية – وهذا ما يعشقه هلكان – التي تميز الشخصية العراقية الكادحة .. ما قبل التلويث ؟
قاطع تأملاتي مستأنفا ما أنقطع من حديثه .. لقد هالني هذا الكم الهائل من الصخب الذي يسود حياتنا , بل ما هالني أكثر اندماج الناس فيه وكأنه جزء منهم أو هم جزء منه . لمح علامات ألاستفهام التي غمرتني فقال : لا تستغرب , ففي هذا مكمن الخطر .. فمنذ أن أسقطت الحضارة السومرية الرائعة , أسلحة المحاربين بكل همجيتها ونحن نعيش تحت رحمة أنظمة ألصخب و فوضاها . أنظمة الفوضى الصاخبة , إلى يومنا هذا , تتحكم في كل شيء وتحوله إلى فوضى منظمة , حتى صرنا نخاف من النظام ونجد أنفسنا في خرقه وتحديه . ‘‘ثقافة السيف والخيل و البيداء’’ لا تنتج سوى قيم الغلبة و ألاستحواذ و ضيق ألأفق و الوحشية . الفوضى أصوات نشاز متنافرة تلزمك القيء و المرض وتنتج الشخصية المتوحدة , وليست المتفردة, القطيع وليس الجماعة . التوحد ينتج ألأنانية والقسوة والقطيع تجمع المتوحدين التي لا يربط بينهم رابط سوى تعظيم الأنانية الجمعية و تعظيم قسوتها . ليس له أهداف بقدر ما هو دفع غريزي للخوف و شعور خادع ''بالطمأنينة'' , و الهرب من تحمل المسؤولية عن ألأفعال الفردية و إلقائها على الجماعات المنغلقة . إما النظام فهو عملية تناسق وتناغم بين الأشياء و موسقتها , لهذا ترفض ذواتنا الفردية و الجمعية الصاخبة – و هذا سر ديمومة الصخب في حياتنا – أن نموسق حياتنا لأن في ذلك فنائها.
أنشغل هلكان بإصلاح لفافته ثم أستطرد .. كنا و مازلنا نعيش في دائرة مغلقة تبتدئ من حيث تنتهي وإن قضيتنا كقضية ((أبو عگروﮒ)) , حيث يروى أن احدهم كان يشكو من إن ضفدعا في بطنه يتطفل عليه فيأكل كل ما يتناوله من طعام و ينق فيها نقيقا مزعجا , حيث عجز الأطباء عن إقناعه بان ذلك وهم , غير إن طبيبا حاذقا أوهمه بتصديقه ثم أجرى له عملية وهمية ليريه ضفدعا جاء به من النهر . إننا نحتاج إلى الكثير من الأطباء الحاذقين ليخلصونا من ضفادعنا الوهمية عسى أن نلتفت إلى عللنا الحقيقية ونعالج أسبابها لنخرج من هذه الدائرة المغلقة .. ابتسم حمد العراقي ابتسامة غامضة ... وعندها سكت هلكان عن الكلام المباح إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح .

( الانفل- تاح )

لم أرى العم هلكان , منذ أن عرفته , بمثل هذه الحال . ما يشبه الحدث التاريخي أن يكون (وجاغ) الشاي منطفئا في داره , وان كانت بقايا لفافات التبغ المحترقة تنتشر في المكان بشكل فوضوي , رغم كرهه للوساخة على اختلاف أشكالها وأنواعها , مما يعني أن هناك خطب جلل قد حدث . وجدته يترنم:
حمد تبگه بثنايه الهور والبيرغ رگد نصه
حمد والعار غطه الهور مامش زلم وتگصه
مضيف اهلك تفلش شبه عن ...
سألته.. عن أي هور تتكلم ؟ .. الم يجتث الهور وكأنهم ينتقمون من تاريخ امتد لآلاف السنين من خلال تجفيف رمزه المكاني ؟! .. بل من تاريخ الإنسانية كلها , الذي انطلق من ارض سومر معطيا إياها النور والحرف والحضارة ... يعجبني أن تكون لماحا – قاطعني هلكان- فللإنسان والحيوان , للتناسق والتنوع , كان الهور بيئة حنونا وملاذا آمنا , للثائرين والمطلوبين , للفقراء وللجائعين , يمنح خيراته لأبنائه البسطاء ولمن يلجا إليه بدون منة وتمييز . إن اجتثاث التاريخ أو تشويهه هو ما أثارني . إن ما أحالني إلى ما أنا فيه هو الانتشار الرهيب للانفلتاح , والانفلتاحيين الذي .. هيه ياعم , على مهلك .. ما هذا الذي تتكلم عنه ؟! تبسم مجيبا : هو تركيب عولمي جديد ذو جذور محلية يتكون من تفاعل اندماجي بين الانفلات و‘‘الانفتاح’’ ينتشر كأنفلونزا الطيور - كسلاح تدمير شامل يدشن عهد ما بعد القنبلة الذرية – منتجا شخوصا وأحداث مشوهة , مسوخا عولمية , ديدنها الارتزاق والحرباوية بأي شكل وبأي ثمن . ومع اعتزازي بالفن والنقد باعتبارهما روح الحياة , ومن دونهما تستنقع المجتمعات وتتعفن , إلا إن هذه الكوميديات الرائجة لا هم لها سوى ‘‘إضحاكنا’’ على سكان الاهوار والأرياف من خلال لهجاتهم بعرضها شخوصها بشكل مسطح وساذج وتهريجي .
هذه اللهجة ‘أيها السادة’ هي التي أنجبت أعظم القصائد التي هزت عروش الطغاة والمستعمرين , وعبرت عن شجون المسحوقين على شكل دارمي وابوذية وأطوارها ,كالشطراوي والحياوي والصبي والمحمداوي.. نسائهم ليست ((نوميه)) بل المرأة الفلاحة التي اسر ألانگليز وحيدها الصغير, فأشفقت عليه من الوشاية والتنصل
بس لا يتعذر موش آنه
هي أم (حيال) الذي أشعل النار بجسده ليحرق باب مخفر الشرطة فجاءت (هوسة أمه)
ﭼف غازي أم حيال تريده
مجسدة بذلك وعيا بجوهر المشكلة , فالنظام هو الذي قتل حيال ورفاقه الفلاحين ولذلك فان النظام هو غريمها ممثلا برأسه . إنها أم (صويحب) – الفلاح الذي قتل برصاص الإقطاعيين - التي نهرت الفتيات الباكيات على جرحه
ميلن لا تنگطن كحل فوﮒ الدم جرح صويحب ابعطابه ما يلتم
لا .. لا تفرح أبدمنه يلگطاعي صويحب لو يموت المنجل يداعي
أنها ليست قضية صويحب فقط بل قضية الظالم والمظلوم . لست من دعاة تصنيم وتعصيم الذات الفردية والجمعية , بل من دعاة النقد الجذري عسى أن تتغير الأحوال , ولكن يا بعض أهلنا إن أردتم فأضحكونا على شخوصكم وبؤسكم ولكن لا تأكلوا لحم أهلكم نيئا فتكونوا (براقش) التي جنت على أهلها ولكن .. (من اجل حفنة من الدولارات ) .
أطلق هلكان زفرة هائلة .. خلت أنها ستهد الجبال .. وعندها سكت عن الكلام المباح إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقراءه نور الصباح .

الإنسان وأساطيره -1-

سألني الحكيم هلكان عن سر حزني ويأسي , بعد أن شاهد علامات الهم والقنوط على وجهي. أجبته : لقد استحضرت بعض الروايات التي تتحدث عن نهاية التاريخ . سواء تفاؤلية يوكو هاما الخادعة , التي تبشر بسرمدية الرأسمالية الطيبة , أو رواية الفناء الأخير المتشائمة . أنما دعاني إلى ذلك هو الميل القديم للإنسانية لإنتاج الأساطير والخرافات ومن ثم الإيمان بها وتصديقها ولم يتحول هو إلى أسطورة تخضع لها الأشياء . إن سبب يأسي هو عجز الإنسانية عن التحول إلى كائن أسطوري , وبذلك أعلنت عن موتها التاريخي .
لقد اكتشفت الخيط الدقيق بين التمجيد والتصفيق , وكلما أشعلنا البخور , أنتجنا صنما وقدسناه , وبذلنا في سبيله الغالي والنفيس . فما عانيناه من التوتاليتارية وفجائعها , وما جنيناه من الديمقراطية وفضائعها . ونحن في كل الأحوال نصفق ونهتف كالمهرجين في السيرك , بوجوه منمطة , وعقول مغيبة . لقد افتقدنا ذواتنا واستبدلناها بذوات أخرى , أو صرنا ذواتا متوحدة , وجزر متباعدة , مشحونة بالانانوية , وفي الحالتين يفترس بعضنا بعضا . فهل فقدت الإنسانية الأمل في التحول إلى كائن أسطوري ؟
قدم لي قدحا من الشاي , وقد بدت على ملامحه علامات الانشغال الفكري العميق . ثم قال:
اعلم إن الإنسانية منذ تواجدها على هذه الأرض , قد أنتجت الأساطير والخرافات , فكانت تؤامها وظلها واحتياجها الدائم . ومن حديثك إنك تذم ذلك وتطلبه في آن . وقد يبدوا للعقول المسطحة والساكنة , إن في ذلك تناقضا , ولكن العقول العميقة والمركبة , تجد في ذلك شيئا أخر سأوضحه .
إن الأسطورة , أساسا , هي محاولة الإنسانية للتغلب على ارتهانات الضرورة , كما هي محاولة فهم العالم وإعادة تشكيله . إن امتياز الإنسان عن غيره إنه كائن مفكر . والفكر يتطلب الخيال والسعة , والإبحار في المجاهيل , وتفكيك الأشياء وإعادة تركيبها . ناقضا عجزه الموضوعي بما يوفر له الخيال من أدوات فيعيد صياغة واقعه بأدوات الخيال والتخيل , وهو ما قامت به الأسطورة . فكثيرا ما نتهم الطفل الواسع الخيال بالكذب والبراعة فيه . ونؤنبه على ذلك, فلا يفهم السبب , وهو على حق . فكلما سألناه عن حادث معين يعيد صياغته بشكل مختلف . فهو لا يفهم تادلجنا الناتج عن الانصياع إلى متطلبات الضرورة وهو لا يعترف بالنهايات ولا يعرفها . يكتشف العالم في كل لحظة , فيعيد صياغته من جديد , فلا ترضيه صياغة تصل إلى نهاية النفق وتنغلق . فهو اقرب إلى الفنان التشكيلي منه إلى المصور الفوتوغرافي . وهو الجانب المشرق المستشرف من الطبيعة الإنسانية وسر ديمومتها وتقدمها . وقد نسأل الطفل الأخر فيجيب إجابات محددة . نراها ثابتة ومكررة . فنتهمه بمحدودية التفكير , وهذا خطأ أخر . فهو يمثل جانبا أخر من الطبيعة الإنسانية . وهو الجانب الذي يجد الحلول ضمن الممكن ومن خلال قوانين الضرورة . المستوى الأول يمنعك من الجمود والسكون الذي يفرضه الخضوع والعجز وبالتالي الموت , إذا ما وصلت الضرورة المحددة إلى نهايتها وكفت عن العطاء , فتكلست وأعاقت . فينطلق الفكر في التساؤل والتدبر , والبحث والمغامرة في المجهول , فلا فكر بدون تساؤل دائم وبحث مضني . الطفل الأول يمثل المستوى الأول للإنسانية , وهو المستوى الذي تتفرد فيه ولا تتشارك مع بقية الحيوات . أما الطفل الثاني , فيمثل المستوى الثاني وهو مشترك بها مع البقية , وإن يكن مشتركا واعيا , فما تنتجه خلية النحل من عسل , يختلف عما تنتجه مصانع السيارات من سيارات . وهو الذي يسهل مصاعب الحياة ويجعل العيش ممكنا . ويجدر بنا الإشارة إن التراتب هذا لمجرد الترتيب وليس لبيان الأولويات , فالمستويات تتفاعل فيما بينها, ولا تعمل الواحدة بمعزل عن الأخرى . فالأسطورة تفقد فاعليتها وافقها الرحب وتتحول إلى خرافة تأخذ مظهر اليقين الشعبي , فتأخذ بشكلها بعيدا عن مضامينها وغاياتها ومغازيها , فتنعزل عن ظروفها وأزمنتها . وعندها تحول النخب الأسطورة إلى خرافة بما يخدم مصالحها . وتجد ذلك عند ذوي الثروة والنفوذ وأرباب الحكم وفي مفاصل المجتمع كافة فحتى للعاهرات نخب مهيمنة على حد تعبير الايطالي باريتو . وعندما تتحول الأسطورة إلى خرافة , فأن النخب تستطيع أن تسير الجمهور وتحوله إلى قطيع تابع هلامي الملامح لا يمثل نقيضا على مستوى التناقض , بل ضدا على مستوى التضاد يضيع في صراع البدائل , تتقاسمه النخب المتصارعة فيكون وقودا لمصالحها , ولا يفهم أبدا سر بؤسه وماساته .
الأسطورة إذا , ليست ذميمة بذاتها , ولا ممتدحة لذاتها , فهي في الأصل رغبة الإنسانية وأدواتها للفهم والتفسير والتعلم والتعليم والتغيير . كما هي وسيلتها لقهر الضرورة عندما لا يتوفر لها الإمكان لقهرها فتعكس طبيعة الأشياء في التحول والتغير والحركة والفتوحات العظيمة للمجاهيل . وكما قالت حكاية (كايدارا)* :
[ أيتها الحكاية , المحكية , لتحكى...
هل أنت حقيقية ؟
للأطفال الذين يلهون في ضوء القمر , حكايتي قصة خرافية .
للنساء اللاتي يغزلن القطن في ليالي موسم البرد الطويلة , هي وسيلة ممتعة لتمضية الوقت .
للذقون المشعرة والكعوب الخشنة هي رؤية حقيقية .
فأنا , في الوقت نفسه , بلا معنى ومفيدة ومعلمة ...
احكيها أذا من اجلنا ]¹ (التشديد مني)
نشاهد هنا , تعدد المستويات في الفهم , فيتم التساؤل : هل أنت حقيقة ؟ في الإجابة نرى الحقيقة متحركة حمالة أوجه , فهي قصة خرافية للأطفال الذين يلهون . وللنساء العاملات وسيلة ممتعة لقتل الوقت الطويل , وإضافة المتعة إلى روتين العمل الممل وهي رؤية حقيقة , للذقون المشعرة والكعوب الخشنة – أي للمسنين يقول همباطي با إن هذا الوصف يطلق على ذوي الحكمة والمعرفة عند شعوب غرب افريقية- ونلاحظ اقتران الذقون المشعرة بالكعوب الخشنة حيث إن الشعوب التي أنتجت هذه الحكاية هي شعوب رعوية .
ومن ديباجة حكاية (كايدارا) تبتدئ الحكمة : يأيها الإنسان لا تتزمت ولا تتعصب ولا تتحدد, فهناك وجوه عديدة للأشياء , وأفاق لا متناهية للمعرفة , وزوايا مختلفة للنظر . فما هو صواب بالنسبة لك , قد يكون خطأ بالنسبة للآخر , ليس لأنك على صواب , أو أنه على خطأ , أو بالعكس , بل الاختلاف سببه اختلاف المنظار , أو الزاوية المحددة , التي فرضتها عوامل وظروف عديدة ساهمت في تكوينك . فما أنت إلا ورقة بيضاء تلونها تجربتك وأوضاعك وما يسود ويؤثر في مجتمعك .
تساءلت : ولكن أيها الحكيم ألا نستطيع القبض على جوهر الحقيقة ومعرفة كنهها , وإلا ما معنى المعرفة وما فائدة الفلسفة ؟! وهل نبحر في بحر له حد واحد ولا ساحل أخر له ؟ أجاب الحكيم : هو ما تقول وهو غيره . فالإنسانية قد أنتجت ما لا يحصى من الفلسفات والعقائد والأفكار , وكل تبني على ما قبلها فتطوره أو تنقضه . وكلما جاءت امة لعنت أختها . فالحقيقة لها منازل متجددة , ومستويات متعددة . فوصولك إلى ميناء ليس معناه نهاية المطاف . وستستمر هذه الرحلة إلى أن تتحول الإنسانية إلى كائن أسطوري عندما تنتهي ارتهانات الضرورة المختلفة وتصير هي الضرورة الوحيدة لذا فأننا نرى الإنسان قد سار على سطح الماء . وركب بساط الريح مسافرا عبر الأجواء . وسخر الجن – ذوي القدرات الخارقة لنواميس الضرورة لمصالحه . غير إن محاولاته الدائبة لاسطرة نفسه ليست كلها ورودا من دون أشواك . فنرى , مثلا , كيف دفع عباس بن فرناس حياته ثمن لمحاولته الطيران . وكيف دفع غاليلو الثمن باهظا لنقضه خرافة مركزية الأرض وثباتها . وكيف اختفى الحلاج وسجن وصلب لأنه رمى الخرقة بعد معرفته للأسرار وكشفها للعامة وكيف دفع الكثير من المفكرين والمبتدعين والهراطقة - عبر التاريخ - الثمن باهظا لكسرهم خرافة سائدة تجد قوتها في ‘‘العقل’’ السالب التابع القابع , ومصالح وقمع المستفيدين من الجهل والأمر الواقع .
من كل هذا, نفهم ديباجة حكاية كايدارا , حيث تقول عن نفسها [ فأنا , في الوقت نفسه , بلا معنى ومفيدة ومعلمة ... ]² وهذا هو جوهر الأسطورة , وسر عبورها للأزمنة المختلفة , واعتلائها سروج الظروف المتعاقبة , وحدوثها في لا زمان ولا مكان محدد . حيث تقول الحكاية:
[ حدث ذلك في بلد كايدارا , الخارق للطبيعة , البلد الذي لا يمكن للذاكرة الإنسانية أن تحدد له موقعا بدقة في الزمان ولا في المكان .
آه يا أبناء أبي الأعزاء مانا الذي كان أول من حكي هذه المغامرة , يحدد زمنها ببضعة فصول شتاء , بعد الفترة التي جمدت فيها الجبال . وهي الفترة التي انتهى فيها الجن من حفر قاع الأنهار . ]³
إن الأسطورة هي خرق لقوانين الضرورة , ونواميس الطبيعة , في محاولة لتفكيك الأشياء وإعادة تركيبها وصياغتها من جديد بما يحقق للإنسان توقه إلى السيطرة على الأشياء من حوله, وتسخيرها لصالح تفوقه - وهو المستوى الذي يمثله الطفل الواسع الخيال - ولو انتزعنا من ثنايا الحكاية بعض السطور , لوجدنا القوى الهائلة التي يمتلكها الإنسان . نرى أبطالها الثلاث , الذين يلتقون في ملتقى طرق ثلاث , يمثلون ثلاث مستويات للشخصية الإنسانية , وقد قدم امادو همباطي با هذا التفسير :
[ هذه الحكاية تقدم لنا ثلاثة أبطال يقومون برحلة , أو بالأحرى , بعملية بحث , الهدف منها هو تحقيق الذات الكاملة للفرد عندما ينجح في كشف أسرار الأشياء والحياة . فالإنسان يعتبر بالفعل قادرا على العيش وفقا لثلاث حالات : حالة فضة خارجية بحتة , تدعى ‘‘قشرة’’, وحالة وسط , أكثر نقاء , تدعى ‘‘خشب’’ وأخيرا حالة جوهرية ومركزية تدعى لب .
اثنان من بين إبطال القصة الثلاث يمثلان احدهما القشرة والثاني الخشب فهما لن ينهيا رحلتهما . أحدهما سيقذف به مثل القشرة والثاني سيحترق مثل الخشب . وحده الثالث , حمادي , الذي يمثل ‘‘اللب’’ وقد مر بنجاح عبر المحن المضنية المنثورة بمهارة في طريقه . ويخلص همباطي با إلى : إن كل واحد من هؤلاء المسافرين يرمز أذا إلى إحدى حالات الكائن البشري ككل . ]4
لقد أعطى الكائن الخارق كايدارا الذي [ كان العرش الذي يجلس عليه يدور من دون توقف وكايدارا يبدو مثل شمس عظمى. لم يكن في إمكان احد أن يصف شكله. ]5 لقد أعطى الرجال الثلاثة ما يكفي من الذهب لحمل ثلاثة ثيران .
[ سأل حمادي : ياكايدارا , ألا كشفت لنا عن معاني الرموز التي شاهدناها على الطريق التي قادتنا إليك ؟
قال كايدارا : أحسنوا استعمال الذهب الذي قدمته إليكم ستجدون كل ما تشاءون بما في ذلك السلم الذي يقود إلى قمة السماوات والدرج الذي يغوص في باطن الأرض ]6
لقد منح الكائن الخارق كايدارا الشبان الثلاث دامبورو وحمتودو وحمادي ثلاث أحمال من الذهب لكل منهم. قال دامبورو : سأستخدم الذهب لأكون زعيما أوحدا أو سيدا ذا شأن . وقال حمتودو : إن الزعماء أكثر الناس شقاء , بل سأصبح تاجرا [ سأضاعف ثرواتي إلى درجة إن كايدارا , إذا راني ستصيبه الدهشة من ازدهار أحوالي ]7
قال حمادي : [ أما أنا , فلن أسعى إلى أن أصبح زعيما أو أضاعف ثروتي . لا أريد أن أسبح في الرخاء . لقد عقدت العزم , إن أقتضى الأمر , على إنفاق كل عائداتي لمعرفة معاني ورموز بلاد الأقزام . ليس في ذهني أي أحلام أخرى . سيرى البعض في رغبتي ضربا من الجنون الخالص , وستبدو للآخرين رغبة متواضعة للغاية , إما بالنسبة لي , فأن ذلك هو الهدف الأعظم والأكثر فائدة الذي يمكن لإنسان أن يتخذه لنفسه على هذه الأرض ]8
دامبورو يمثل السلطة , وهي القشرة , أما حمتودو فيمثل الثروة وهي الخشب , إما حمادي , فيمثل اللب , الذي هو المعرفة التي تقود إلى الإنسان الكامل , فقد تمسك دامبورو بالسلطة وحمتودو بالثروة فكان مصيرهما الموت على يد اللبوة بالنسبة للأول , والغرق بالنسبة للثاني لأنهما خالفا نصيحة كايدارا , ولم يحسنا استعمال الذهب . أما حمادي فقد ضحا بكل الذهب من اجل معرفة إسرار بلاد الأقزام , بلاد كايدارا , وكيل الإله جينو الخفي , وبذلك تخلص من الضرورة وارتهاناتها , فتمكن من أن يكون الإنسان الكامل , الإنسان الأسطوري . وكما قال همباطي با : [ كذلك في كايدارا فأن التخلي التلقائي عن الذهب الممنوح من ألإله كايدارا نفسه هو الذي يمكن حمادي في النهاية من الخروج منتصرا من كل المحن ... وحمادي بتنازله عن ذهبه – مع أنه الثروة الشرعية لرحلته البحثية – يفوز هو أيضا بحياته ويحصل في النهاية على أكثر مما أعطى . ]9
وتوضح ها يكمان في تذييلها إن همباطي با يوضح هذا الموقف بأن [ يذكرنا بمكوك الحائك التقليدي ومنواله المكون من ثلاث وثلاثين قطعة , والمرتبط برمزية ‘‘ الكلمة الخلاقة’’ (الإلهية) المنتشرة في الزمان والمكان . المكوك موجود في اليد اليمنى تعتقد اليد اليمنى إنها تمتلكه , وهي في الحقيقة لا تحتفظ به , لان عليها أن تقذف به إلى اليد اليسرى . عندما تكون اليد اليمنى فارغة تعتقد اليد اليسرى إنها قد انتصرت . لكنها أيضا لن تحتفظ بالمكوك , عليها أن تعيده ... وخلال تلك اللحظة الخاطفة الهاربة حيث لا تمتلك كلتا الكفتين شيئا , وبينما يكون المكوك ينتقل من أحداهما إلى الأخرى , يضاف خيط جديد إلى قطعة النسيج , ويتحقق لغز ‘‘الخلق’’ المتجدد دائما . ]10 وهذا المثال , أكد الحكيم هلكان , هو الذي يجيبك على تساؤلك عن القبض على الحقيقة , فالحقيقة كخيوط المكوك , في كل حركة تضيف خيطا إلى النسيج , وهي حركة مستمرة متغيرة , تنمو باستمرار . هي خلق دائم متجدد .
سألت الحكيم هلكان : لماذا , دوما , نفرغ أساطيرنا العظيمة من ثرائها ورموزها ودلالاتها , فنحولها إلى خرافات قاتلة ؟
أجاب : قد يرجع ذلك إلى تنوع أسباب الضرورة وتعقيداتها , وتطور وسائلها وأدواتها , ومن جهة أخرى الميل الحثيث للإنسان لإخضاع الأشياء لمناطيق التجريد , التي تمسطر الأشياء وتقولبها, ورغم توهم التجريد , بانعزاله واستقلاله , غير إن مساماته مليئة بنفايات الضرورة , وتأثيراتها المختلفة . وهذا بحث آخر قد نتكلم عنه لاحقا .
وهنا سكت هلكان عن الكلام المباح ... إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :-
*حكاية كايدارا هي الحكاية التي حكاها امادو همباطي با وكما تقول عنها هيلين هيكمان في مقدمة لكتاب " لا وجود لخصومات صغيرة " ( حكايات جديدة من الساڤانا ) . أنها تصف ( المسار الكامل للبحث عن الحقيقة , بما فيه من محن معينة تترك بصمات على ذلك المسار , سواء في طريق الذهاب أو في طريق العودة ) ص6 . والكتاب المذكور من تأليف امادو همباطي با . ترجمة وتقديم محمد أحمد بنعبود . مراجعة أ. ليلى عبد الحميد بدر . سلسلة إبداعات عالمية . تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت . يونيو 2008
1- نفس المصدر. ص181 ديباجة حكاية كايدارا .
2- نفس المصدر. ص181
3- نفس المصدر. ص181 . في ملحق هوامش كايدارا , مانا : الصفة التي كان يشار بها قديما , للملوك العالميين – بكسر اللام - وقد أصبحت اسما للملك العالم – بكسر اللام - الأسطوري الذي نجده في عدد كبير من الحكايات التلقينية ( التعليمية ) . أما عن الفترة التي تجمد فيها الجبال يقول الهامش : الجبال تصبح صلبة . الجبال في أسطورة خلق العالم , كانت , في الأصل لينة مثل الزبدة النباتية , لكن جينو الإله الأوحد , الخالق , الأزلي , منح ‘‘الملك الأعور’’ أي ‘‘الشمس’’ القدرة على جعل الجبال صلبة بفعل كثافة نظرته . ص200 ملحق هوامش كايدارا . كتبتها ليليان ركسيلوت .
4- نفس المصدر. ص284 . تذييل . أحاديث أمادو همباطي با حول حكاية كايدارا ( اختارتها وقدمتها هيلين هيكمان ) .
5- حكاية كايدارا . ص205 . نفس المصدر .
6- نفس المصدر . ص205 . وفي الهامش : السلم والدرجات , رمزان للبحث عن المعرفة الظاهرة والباطنة . وفي ملحق هوامش كايدارا :
الذهب هو المعدن الباطن بامتياز , بسبب نقائه وعدم قابليته للتغيير ... هو يجلب السعادة إذا أحسن استخدامه أي أذا أستخدم في البحث عن المعرفة وإلا فأنه سرعان ما يضيع مالكه , هو إذا معدن محير ويتضمن هو أيضا الثنائية الواردة في أصل الخليقة .
7- نفس المصدر . ص206 .
8- نفس المصدر . ص207 .
9- نفس المصدر. ص288. تذييل أحاديث امادو همباطي با حول حكاية كايدارا. (اختارتها وقدمتها هيلين هيكمان). حيث أن حمادي قد أستعاد بالإضافة إلى حموله الثلاث من الذهب فقد أضاف إليه كايدارا أحمال رفيقيه الست من الذهب. لقد ورث السلطة والثروة, إضافة إلى المعرفة.
10- نفس المصدر. ص288 .

الإنسان و أساطيره – 2 –

كيفية تحول الديمقراطية إلى ألخرافه الليبرالية الجديدة!

لقد سألتني في الحوار السابق،قال هلكان الحكيم ، عن سر تحول أساطيرنا العظيمة إلى خرافات قاتله ، و قد وعدتك بالحديث عن ذلك السر . ويمكننا معرفة ذلك من خلال (حكاية كايدارا) ومن جدل العلاقة بين رمزية أبطالها الثلاثة* .
]حمادي الباحث عن المعرفة . دامبورو الباحث عن السلطة . و حمتودو الباحث عن الثروة .[1 تمثل هذه الرموز المسارات الكلية الثلاث التي ينتظم فيها النشاط الإنساني .
لقد أشارت الحكاية إلى المعرفة باللب . والى الثروة بالخشب . والى السلطة بالقشرة . وحيث إن السلطة كالقشرة فإنها الأقل كثافة بحيث يمكن أن تطيح بها الريح . وان الثروة ، وان كانت أكثر كثافة من القشرة ، باعتبارها خشبا ، سوف تأكلها النار . إما اللب ، الذي يرمز إلى المعرفة ، فإنها الأكثر كثافة فهي الجوهر الثابت من حيث الاحتياج الدائم له ، والمتغير الدائم له من حيث طبيعته .
ألمعرفه لا تأبه و لا تعترف بما هو سائد وساكن وواقع ونهائي . أدواتها لم وكيف ولماذا و أين ومتى ؟ وحين لا تسعفها أدواتها هذه للإجابات "الشافية" بفعل حدود ضروراتها و محددات عجزها الذاتي و الموضوعي ، فعندها تخرج عن ضرورات الممكن و أقفاصه ، إلى عالم الحرية الرحب والمخيال الواسع ، بعيدا عن نواميس الطبيعة و تحديدات الموضوع المكبل للنشاط الاجتماعي المختلف ، باحثة عن الإجابات بابتداعها أساطير رائعة ، حيث أن لكل مجتمع أساطيره بغض النظر عن درجة تطوره .
إن الثروة و السلطة لن تقفا مكتوفتا الأيدي أمام تحدي الإنسانية للضرورة المكبلة لأحلامها في الحرية و التحرر ، إذا ما اعتبرنا الحرية كنقيض للارتهان للضرورة ،
واعتبرنا أيضا المال و السلطة النقيض الثاني في جدلية الضرورة - الحرية التي طبعت النشاط الإنساني منذ التواجد الأول له . وبما إن الزوجين الكاثوليكيين ، المال والسلطة لا يمكنهما سلب الإنسانية المرتهنة أحلامها ورؤاها وأستشرافاتها المستقبلية ، فإنهما يلجان إلى إيقاف التاريخ عند تخوم الضرورة بقتل أساطير الإنسانية التي تسعى إلى إعادة تشكيل العالم بتحويلها إلى خرافات يقينية ثابتة .
[ يمثل دامبورو الطموح إلى السلطة وتفاهة المجد الإنساني : "لن يتحدثوا في البلد إلا عني" وهكذا نتوقع سلفا نتائج العجرفة والطغيان والتعصب] 2 كذلك يسعى حمتودو إلى الغنى [ حيث يتوق حمتودو إلى مباهج أكثر حسية ومادية : الغنى والرفاه . ومن اجلها سيكتسب صفتي التربح والأنانية . ]3 ولكن حمادي رمز المعرفة لا تهمه السلطة ولا الثروة ، وبذلك يتحرر من العجرفة والطغيان والتعصب – وهي صفات تلازم أي سلطة أو مؤسسة دولتية أو مجتمعية – كذلك يتحرر من عبوديته للمال وبذلك يتحرر من التربح والأنانية ، وهما صفتان ملازمتان لمالك المال ، حيث أن رأس المال يسعى إلى ما لا نهاية لتعظيم ذاته ممركزا ومغولا نزعته إلى التربح والأنانية ، وبالتالي سحق المشترك الإنساني ، ولا يفوتنا هنا الاستشهاد بالمقولة الشديدة الدقة للإمام علي (منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب مال ) .
يتحالف ويتخادم طرفا الضرورة الأساسيان ، السلطة والمال – نستثني الضرورة الطبيعية ، باعتبارها ارتهانا خارجا عن النشاط الإنساني وليس من صنعه – لقتل الأسطورة كونها نقيضها ، عندها تتشكل الخرافة على شكل حكايات غير معقولة وعقائد وتقاليد وتصورات ومؤسسات وما إلى ذلك فتنتشر وتسود لا لقوة منطقها وقدرتها على الإقناع ، بل لصيانة نظام قائم وحمايته من التجاوز .
خرافة عصرنا ألان هي ديمقراطية المالكين الليبرالية الجديدة . لقد قادها المحافظون الجدد في أمريكا ، حيث رفع لوائها الممثل الرئيس رولاند ريغان ، وأنعشها وروج لها بوش الأب ، وسار بها إلى نهايتها المأساوية بوش الابن ، حيث يعتبره البعض أسوء رئيس حكم الولايات المتحدة الأمريكية .
لقد بنيت هذه الخرافة دجلا على تحييد النشاط الإنساني وإيكاله لآلية عمل السوق حيث إن الأسواق تستطيع تضبيط نفسها جاعلة من الاقتصاد الإله الذي يرسم ويحدد للبشر مساراتهم . وإن كل شيء عنده مكتوب ومقرر .
لقد قرن السيد بوش ليبراليته الجديدة ، بأصولية إنجيلية متطرفة ، فإدعا إن الرب أوعز إليه مناطحة قوى الشر في العالم كما أوعز إلى أسلافه إبادة سكان أمريكا الأصليين عن بكرة أبيهم – إلا من أستطاع النفاذ بجلده - لإنقاذهم من الوثنية ، وهداية القليل المتبقي منهم إلى عبادة الرب الحق ! والتمتع بمزايا الرأسمالية الليبرالية المضمخة بالدم والنهب والاستغلال . لقد جاب العالم وهو يحمل مشروعه الليبرالي الجديد و "فوضاه الخلاقة" ليحرق الأخضر واليابس ويبيد الحرث والنسل مقيما ، حيثما حلت عساكره وشركاته الاحتكارية ، ديمقراطية الملل والنحل والاثنيات ، والأقارب والعشائر والحارات ، بأسلوب التوافقات والمحاصصات ونهب الثروات ، فكان الولد حقا على سر أبيه .. قاطعته : وكيف اعتبرتها خرافة وقد صارت غاية للأعاجم والعربان في هذا الزمان ؟
أجاب الحكيم هلكان : وهذه هي الطامة الكبرى والدليل المبين على ما بنيت عليه. لقد صار فجاءه أشباه هولاكو والظلاميون . كذلك الليبراليون والديمقراطيون واليساريون . وصفق لها العنصريون والفاشيون والمتطيفون . وأتفق عليها الإيديولوجيون والبراغماتيون . فصار الجميع حاملين لواءها الرمادي حيث تغنى بها أهل الفضائيات والمغنون مع الربابة . كذلك قراء المدائح والخشابة فكيف قيض لهذا الخليط ، الذي ليس له لون أو طعم أو رائحة ، الاجتماع على مشترك ؟ فهل رأيت غزال يصفق للذئب وهو يفترسه ، وهل مصلحة السارق والمسروق واحدة ؟ هي إذا خرافة لتعارضها مع قانون السنور الحديدي .
سألت هلكان عن ماهية هذا القانون فأجاب : لقد رأيت تماثلا بين حكماء الهند في سفرهم كليلة ودمنة وبين عبارة باريتو الذي كثفت مغزى هذا الكتاب بمعيار قطه فقد كتب (أن القط يصطاد الفأر ويأكله ، ولكنه لا يتظاهر بفعل ذلك لخير الفأر . ولا يدعي إن هناك عقيدة بان الجميع متساوون . ولا يرفع عينيه إلى السماء عبادة لخالق الجميع) ومن حكاية (السنور والأرنب والصرد) المدونة في كتاب كليلة ودمنة تحصل على المطلوب . وإليك الحكاية :
في أحدى الغابات ، عاش سنور أعتاد العيش على صيد الحيوانات . وكان هناك صرد وأرنب يعيشان في ذات الغابة . عندما كبر السنور ووهن عظمه فعجز عن الصيد ، عندها أدعى الزهد والتقى والعبادة معلنا توبته النصوح عن أكل اللحوم الطازجة والاكتفاء بالحشائش الباردة . بعدها شاع صيته في الغاب وظمئت إلى التبرك برؤيته الثعالب والذئاب . كان الصرد والأرنب فيمن وقع في فخه وقد اختلفا على جحر أدعى كل منهما عائديته له . فقررا الاحتكام إليه . فأخذ يعضهما بالابتعاد عن حطام الدنيا الفانية حتى تمكن منهما وأصبحا في منال مخالبه فانقض عليهما قائلا : أيها المخدوعان ، إلا تعلمان إن الأشياء بطبائعها ، وإن أكل اللحم لا يستسيغ أكل الحشيش ؟
لقد حولت البرجوازية الليبرالية الجديدة الديمقراطية ، كمتخيل أنساني لنقض تحكم الضرورات بمصائر البشر إلى مجرد آليات نصية مقدسة ، وإلى أفق واحد هو اقتصاد السوق وبذلك كانت آخر الكليات الشمولية المتقنعة التي تحدد مسارات الإنسانية وتوقف التاريخ عند تخوم الضرورة الرأسمالية .
لقد خاضت القوى المهيمنة الكثير من التضليل ، وبأشكال مختلفة ، لإقناعنا بأن جنة عدن قادمة ألينا مع فردوس الليبرالية الجديدة المعولمة لخداعنا في إنها هي الديمقراطية التي حلمنا بها بديلا عن جحيم أنظمة الاستبداد التي تحكمت بحياتنا منذ تأسيس الدولة العراقية حتى 9/نيسان/2003 ... ولان الأشياء بطبائعها فقد كانت جنة عدن الليبرالية التوافقية المحاصصية جحيما وسرابا .. وهنا سكت هلكان عن الكلام المباح .
___________________________________________________________________
هوامش :-
* يراجع القسم الأول المعنون : الإنسان وأساطيره : أسئلة للتغلب على ارتهانات الضرورة . صحيفة الزمان – العدد 3285 في 4/أيار/2009 . مجلة الحرية العدد السادس .
1- في ملحق هوامش كايدارا فأن حمادي وهو نموذج للبطل " فحل الخيل" فهو معروف في قريته كلها ، وبمجرد وصوله إلى أية قرية أخرى ينتشر بين الجميع خبر وجوده . المصدر : لا وجود لخصومات صغيرة ت أمادوا همباطي با الكويت ينيو 2008 ص262 .
أما حمتودو ودامبورا أسمان لأسيرين هما بالتتابع أسير حمادي وأسير دمبا . نفس المصدر ص263 . ويمكن ملاحظة رمزية العبودية للأخيرين للمال والسلطة .
2- نفس المصدر . الهامش 49 ص25 .
3- نفس المصدر . الهامش 51 ص 256 .

الامبريالية الإيديولوجية

(( لقد جاؤوا . كانوا يملكون الإنجيل, إما نحن فكنا نملك الأرض. قالوا لنا أغلقوا عيونكم وصلوا لله, وعندما فتحنا عيوننا كانوا هم الذين يمتلكون الأرض ونحن الذين نمتلك الإنجيل. )) القس الجنوب إفريقي
القس توتو (1)

مداخلتي هذه تأتي تفاعلا مع البيان التأسيسي لحركة اليسار الديمقراطي العراقي في دعوتها إلى ( ضرورة قيام حركة يسارية مناضلة على ارض الواقع العراقي ) لافي اعتبار المتداخلين (ضيوف مسار بل أصحاب قضية وقرار فاعل في قيام تنظيم جديد يتجاوز قصور ما هو موجود نحو ما هو أفضل وأكمل ) بعد أن أتخمتنا أحزاب وقوى اليسار والتحرر الوطني , ومن ثم قوى التدين السياسي , ببرامجها الإيديولوجية ورسالاتها الخالدة المسقطة قسرا على الواقع , رغم كل ما قيل ويقال عن استلهامها الواقع والتطبيق الخلاق . الأهداف الكبرى وتياراتها وأحزابها وأبطالها المنقذون , الذين سيزرعون في عقول الجماهير الخاملة الجاحدة حقن الخلاص الأيديولوجي , المعد سلفا في مختبرات الأحزاب والتيارات ودهاليزها .
كي لا تقع هذه الحركة الوليدة في (( الفخ الأيديولوجي )) معيدة استنساخ التجارب النظرية والعملية والتنظيمية , للتنظيمات الطليعية المنقذة بشكل جديد يوهمنا بالتغيير والتجديد , وحتى ((نسعى إلى بناء حركة اجتماعية مناضلة يتبناها الأفراد كمنهج حياة متجدد )) فاني أتمنى على الحركة عدم التسرع في ( انجاز ) برنامجها ونظامها الداخلي , وتركه يتفاعل مع صيرورة الحركة ضمن فقرات بيانها , في تفعيل الذات الفردية والجمعية لخلق ذات حرة فاعلة وجمع حر فاعل . فكل ماهو منجز نص , والنصوص البرنامجية بصيغتها الطلائعية كما بينت لنا التجربة , قد صارت قيدا على الواقع وكما أشار هيغل إلى إن كل ما هو منجز شائخ(2) , إلى حين التوصل إلى أساليب ومناهج حركة التغيير الاجتماعية المناضلة . إنها الدعوة إلى حل إشكالية تادلج الفكر وتحوله إلى نصوص معيقة , تحرير الفكر من الدوغماتية , بادراك الحالة التناقضية في بنية الفكر و علاقتها الجدلية بالحالة التناقضية لحركة الواقع , تناغم مسارها في صيرورة متغيرة ومتجددة دوما . أتمنى على المثقفين والناشطين اليساريين أن يتداخلوا مع بيان الحركة , سيما إنها تعرف نفسها كحركة غير محددة بقيود وحدود ضيقة , أي إنها تمنح حقوق العضوية كاملة فهي خطوة مهمة لكسر قيود التنظيم الطليعي الحديدية نحو تأسيس حركة اجتماعية مناضلة .
إن كل أيديولوجيا تستلزم أن يكون لها رسالتها الخالدة الواحدة , ثوابتها وطقوسها , جمهورها المتعصب والمتزمت . هي منتج إنساني متغلب على منتجه ومستعمر له , جاعلة من الإنسان موضوعا لها , وبذلك تكون سلبا للواقع المتغير ومرضا بنيويا لطبيعة التجريد التي تميل إلى الإطلاق والتعميم . إنها خلق الإنسان العمومي(3) .
الذات الفاعلة في الواقع الأيديولوجي , المتقاطعة مع الذات الحرة الفاعلة في مسارات الاحتياج الواقعي , الفردي والجمعي , تستمد ديمومتها من حالة الركود والتخلف أو التأزم الناتج من عدم القدرة على إنتاج الحلول من ذات البنية الراهنة . لذا تكون نزعة رجعية أو محافظة تبرر ما هو قائم أو نزعة تعطى قيما ومبررات أخلاقية لمشاريع امبريالية أو استغلالية مهيمنة . الايدولوجيا تجعل من ذاتها كونا مستقلا صالحا لكل زمان ومكان مؤثرا غير متأثر لا يفسده تعاقب الزمن ولا ينقضه تغير الواقع , يتلقفها الإنسان العمومي فيجعلها هدفه وغايته , أفيونه الخرافي يخوض من اجلها حروبه . وبتعدد النصوص وانفلاقها الذري , تتقاتل هذه المجاميع بالنيابة عن النصوص متخلية عن همومها الواقعية, الذاتية والجمعية واحتياجات مجتمعاتها للنهوض والتطور . مجتمعنا العراقي يتصف بكونه مجتمع متأدلج تتقاتل فيه النصوص دون أن يصيبها خدش بسيط بل تتعافى وتتضخم بينما تسيل الدماء انهارا بين المتقاتلين بالنيابة عن النصوص ويقتل الناس البسطاء في تجمعات العمل وفي الشوارع وفي أماكن أخرى وهم لا يفقهون سر موتهم ولا سر قاتلهم ألشبحي, العفريت ( إرهاب ) سليل أبو طبر(4) . المشاريع الأيديولوجية وصراعاتها قد حولت المجتمع إلى مجموعات دائرية مغلقة متطيفة أو متعنصرة, عشائرية أو مناطقية سلالات عائلية وفئوية متحزبة . مجموعات ذات لون فاشي لا يرى سوى الأسود والأبيض عدوه الأكبر الاختلاف والتنوع, الفرد فيه عضو مستنسخ في القطيع بدلا من العضو الفاعل الحر في الطبقة أو الشريحة الاجتماعية والمجتمع. مجتمعنا المتأدلج يحد من التطور الواقعي ويمنع تشكيل المجتمع المدني الحديث والدولة الحديثة حيث معيار المواطنة هو المعيار القانوني الذي يعتبر المواطنين سواسية في الحقوق والمعيار الديمقراطي الذي يقر بتباين المصالح وشرائح ومكونات المجتمع الأخرى وحقها في المطالبة والمدافعة والاعتراض بالطرق السليمة . لقد ولدت دولة الصهر(5) الفاشي ألبعثي الاختزالية , المجتمعات الصهرية في داخل النسيج العراقي , وجاءت سلطة الاحتلال البريمرية لترعاها وتغذيها بالمنشطات فتتضخم في صراعها الدموي مع الآخر المختلف , وصراعها مع الوالد المخلوع الذي نزل تحت الأرض وما زال يطرح نفسه بديلا عن الفوضى التي أنتجها وسببها وما زال يسعرها باسم الأمن والوطن والشعارات الخادعة ذاتها للعودة إلى السلطة والتسلط , مزيدا المشهد الدموي دموية اكبر ووحشيته وحشية اشد . بين صراع ممثلي المجتمع ألصهري الواحد وممثلي المجتمعات المتطيفة والمتعنصرة وما تولده من دوائر متصارعة اصغر فاصغر , يدفع الوطن والمواطن ثمنا باهظا يمس مصائره بل وجوده ويجعله واقفا على كف عفريت .في ظل الاقتصاد الهامشي الراكد , الاستهلاكي والطفيلي ووهمه المجتمع الأيديولوجي .ينتج الإنسان العمومي الذائب في الجماعة , الممسوخ , وفي الوقت ذاته ينتج الإنسان الأناني , المتوحش , الذي يقتل من دون رحمة , ويتصارع بوحشية في زحمة المنافسة التي تسحقه .
إن ما يجمع بين هذه الجماعات المتخندقة في الذات الساكنة , كره وإنكار الآخر وتخوينه , أدعاء العصمة والتفضيل على الآخرين , نزعة الشك المرضية . إلقاء اللوم في كل مصائبنا وتخلفنا على العامل الخارجي .
أن الامبريالية اللعينة هي السبب في كل شيء والمؤامرة وراء كل حدث , فهي محرك التاريخ والجغرافية (6) أما نحن فأبرياء تماما من دنس الخطأ والخلل , ملائكة صالحون , بريئون براءة الذئب من دم يوسف . فقط لو تتركنا هذه الامبريالية اللعينة لحالنا , لعشنا في وئام وسلام , عندها سيختفي حكامنا الديكتاتوريون وسوف يزدهر الاقتصاد وتتوب عندنا القطط عن أكل الفئران . أذا فلنصرخ بأعلى أصواتنا : تسقط الامبريالية ؟ عندها سنمتلئ بالحمية وتهتز الشوارب ونهتز معها على أنغام الانفجارات , نموت موتا غير منتج مانحين الدراكولا الامبريالية الدماء التي ستديم وجودها مجانا وننشد لقد أنجزنا مهامنا ولم يبق إلا النصر .
بهذه الادلوجات المحكمة يضع نسق الأنساق الايدولوجية خطوطه الدفاعية والهجومية ليتحكم في مجتمعنا , معيدا أنتاج مآسينا بشكل دوري , وبذلك يمنع أي مشروع نهضوي يقارب فهم الموضوع الداخلي المعيق للتطور لغرض تفكيك قيوده المعيقة , فبيض الدجاج لاينتج سوى الدجاج وان أحتضنه طير العنقاء .
أنه المنطق المقلوب الذي يخفي وراءه كل العيوب منطق حامي الجراد الذي شهر قوسه بوجه الناس ليحمي الجراد الذي لجأ إلى حائطه ورفض الاحتياج لإبادة الجراد الذي يأكل قوت الناس لصالح دوغما حماية المستجير .
تتمترس خلف هذا الوهم مصالح مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة وما قبل المجتمع الحديث , فالبلطجي حاكما فذا , والديماغوجي زعيما وخطيبا مفوها والقتل العشوائي الإجرامي جهادا , والرأي ألقطيعي رأيا عاما , ومبدد المال العام اقتصاديا عبقريا , ...... والقائمة مفتوحة للإضافات .
يقابل أيديولوجية التخلف المحلي هذه أيديولوجية العولمة(7) , النيوليبرالية , رسالة السيد بوش , الذي يخاف الله , في تحرير العالم من " البرابرة الإرهابيين " كما حرر أسلافه العالم من " البرابرة الهنود الحمر الوثنيين " بتحويل مجتمعاتنا إلى سماسرة ووكلاء إلى الشركات المتعددة الجنسيات, ومستهلكين لمنتجاتها السلعية والثقافية . منحنا وهم التقدم والتطور , إسقاط أدلوجاتها الليبرالية والديمقراطية وفرضها مع إعاقتها لأساسها المادي وبنائها التحتي الذي يمثل الشرط الموضوعي لنموها ووجودها لتأتي عاجزة وواهنة عجز الشرائح الكومبرادورية الطفيلية المحلية المرتبطة عضويا باقتصاد وسياسة العولمة , كما هو عجز سياسة الفوضى البناءة لأميركا التي لا تنتج سوى الهدم والعدم , معبرة عن العجز البنيوي للرأسمال المعولم في بناء عالم متقارب في مستوى التطور وستارا يختفي خلفه مشروع الهيمنة على العالم وجعله الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأميركية .
التناقض القاتل لمشروع العولمة بإنتاجه تطورا ثوريا في التكنولوجية والعلوم والاتصالات الحديثة, وفي الوقت ذاته يعيد أنتاج آيدولوجية قروسطية بالصراع الدموي بين " الحضارات " مما يؤدي إلى "أستنقاع " التناقض وتشرنقه في صراعات تستبعد الخروج من النفق المظلم .
جناحا المشروع الايدولوجيا ينتجان التخلف المستدام والحركة الدائرية , تهميش المليارات من البشر وموت الملايين جوعا وقتلا ومرضا , الاختلال الخطير بالميزان بين الأمم , البربرية المستعادة كحلول للعجز . الإنسانية ترتهن لمنتجاتها وتستعبد في اغتراب متطرف .
بعد انهيار اليسار الايدولوجي وفشل تجاربه وتجارب حركات التحرر الوطني التي أنتجت أنظمة ديكتاتورية بائسة , يتحمل العراق وطنا وإنسانا تناقضات المشروع المعولم , خرابا ودمارا وموتا يوميا , الصراع الرهيب بين مشروع العولمة الرأسمالية وأنصاره المحليين وبين المشاريع الايدولوجية المتناقضة, والماضوية والفاشية , الشوفينية المتطيفة والعنصرية القومانية وإفرازاتها المحلية والإقليمية والعالمية , يتطلب منا أعادة قراءة المشهد الراهن قراءة تستوعب إشكالاته وتستنهض القوى الحية ببناء يسار جديد يقرأ الإحداث قراءة واقعية ويكون فاعلا في التغيير وبناء اصطفاف واسع في المجتمع العراقي لمقاومة الخراب والدمار واكتشاف مراكز المقاومة ضد العولمة الرأسمالية محليا وإقليميا وعالميا والاندماج فيها .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:-
(1) في رؤية كاثوليكية لاكتشاف أميركا ( أن اكتشاف أميركا قدم للمسيحية فرصة كبيرة وفريدة لكي تقرب ملايين البرابرة الملحدين من جادة الإيمان الصحيح بالرب المسيحي الحق . وبذلك بررت الرؤية الأيدلوجية للغزو الهمجي ولنأخذ بعض الأرقام والوقائع :
- إبادة 90% من السكان الأصليين خلال قرن ونصف يقدرون بمائة مليون إنسان .
- من أصل 22 مليون من سكان المكسيك الأصليين بقي مليون واحد خلال أقل من قرن .
- اغتصاب ارض السكان الأصليين والاستيلاء على ثرواتهم كما أن ثقافات وشعوبا قد محيت من الوجود
(هذه المعلومات من النظام العالمي الجديد ومشاكل العالم الثالث . هارالد نويبرت.دار الطليعة بيروت)
(2) أن الفلسفة تأتي متأخرة جدا لكي تقدم وصفات حول الكيفية التي يجب أن يكون عليها العالم , أنها تفهم ما هو في الحين(( الذي يكون فيه شكل الحياة قد شاخ )) هيغل .
(3) الإنسان العمومي هو الإنسان الذي وصفه وليم رايش بالرجل الصغير أنه يجد قيمته وجدواه في حياة القطيع, أنه مشغول عن التفكير بنفسه بالتصفيق للزعيم وعقلية القطيع . غوغائي , مفتون بالقوة أكثر من فتنته بالعقل . مادة وقاعدة التطرف الأيديولوجي ومشاريعه .
(4) (أبو طبر) الاسم الذي أطلق في العراق على قاتل متوحش أثار الرعب في صفوف العراقيين و كان ستارا للصراع على السلطة بين أقطاب النظام والتصفيات المتبادلة في السبعينيات من القرن الماضي .
(5) الصهر تعبير أكثر قربا من سياسة (تبعيث)المجتمع والدولة وأكثر أشكال الفاشية تطرفا كما هي إلغاء عدائي استفزازي لأي شكل من أشكال الحرية والتمايز .
(6) نظرية المؤامرة هي نظرية تخضع كل ما يحدث لكونه تآمرا وبذلك تعطي للأحداث بعدا غائما وغير مفهوم لا يضع التآمر ضمن سياقه الطبيعي في الصراع .
(7) عندما نتحدث عن العولمة فإننا لا نلغي الانجازات الموضوعية لها والتطور العلمي والتكنولوجي الذي تنتجه إضافة إلى ذلك فأنها تنتج الظرف الموضوعي لتوحد الإنسانية عبر العالم في مجابهة المخاطر والتحديات الناجمة عن العولمة الرأسمالية .

الحرية: لماذا و كيف

قد يتساءل البعض عن مسببات اختيار (الحرية) عنوانا لمجلتنا من بين العناوين الممكنة , لأناس ذوي توجه يساري , حيث يحمل تراثهم الكثير من العناوين التي عبرت عن مراحل مهمة من الكفاح العنيد و البطولي المضمخ بعطر التضحيات و عرق الكادحين . وقد يتساءل البعض عن مغزى اختيار عنوان ‘‘ملتبس’’ رفعت رايته الكثير من القوى المعادية للحرية , كالإمبريالية الرأسمالية عبر مراحلها المختلفة و الكثير من الحركات الفاشية والظلامية و الفردانية الرومانسية وغير ذلك , مشهرة هذا المسمى سلاحا أيدلوجيا مخادعا بوجه حركات التغيير الاجتماعي و الفكري المعترضة على فوضى العالم المتوحشة المنتجة للاستبداد و الإخضاع والهيمنة – على اختلاف مسوغاتها و إدعاءاتها – وانعدام العدالة الاجتماعية و اللامساواة والحط من الكرامة الإنسانية و قد يتخذ البعض موقفا ‘‘محايدا’’ من العنوان في ظل الخراب الفكري و انتحار المضامين و انفصالها عن أشكالها في ظل المحاولات الحثيثة لاستمرار و إدامة حالة ( اللا معنى ) التي تسير بالإنسانية سيرا حثيثا إلى الخراب الشامل وقد تؤدي – إذا ما تغيبت مقومات نقضها – إلى إنهاء الحياة برمتها على ألأرض .
إذا ما قرأنا الحرية بمعنى إدراك وفهم ونقض مسببات الضرورة و ديناميات عملها , و بأشكالها المختلفة , باعتبارها عائقا أمام الإنسانية الساعية إلى و لوج فضاء الحرية , و بغير هذه القراءة فان إعادة إنتاج حالات الاستلاب المختلفة بشكل دوري متعدد الوجوه و الألوان سيظل قائما , لذا فإن هذا الاختيار للعنوان هو الرد الجوهري على حالة الفوضى هذه , والأداة التي توفر لنا البحث عن ما وراء ‘‘ مفاهيم اللامعنى ’’ وفضحها و ردها إلى جوهرها الحقيقي المتمثل في انسداد آفاق النظام الرأسمالي وتهالكه وما ينتج في ظله من مخلوقات مرعبة قد استولت على الإنسانية واستعبدتها , وبالتالي إعادة التصالح و الانسجام و " التماثل " بين المضامين وأشكالها ومن اجل إعادة المعنى للإنسانية وإنهاء الارتهانات المدمرة لها .
الحرية هي بحث في النقيض التاريخي وليس بحثا في البدائل فلا يمكن لها أن تنمو إلا بموقف جدلي نقدي اتجاه البدائل بما في ذلك البدائل اليسارية التاريخية حيث لايمكن إيقاف الصيرورة المتجددة بالوقوف عند حدود التاريخ .
البحث في النقيض التاريخي هو بحث ما بعد رأسمالي , اشتراكي , وليس بالضرورة بمعنى الاشتراكية التاريخية التي كانت قائمة - باعتبارها بديلا من البدائل - بل يمكن له احتواء مضمون الحرية في جوهره أو بالأحرى إعادة إنتاجه والعودة إلى الملامح الرئيسية في منطلقاته بعد أن "شوهت" التجارب التاريخية هذه الملامح مع قراءة لما استجد ويستجد .
أن الرد على الخراب والدمار الذي يشهده بلدنا يكمن في ضرورة انبناء هذه المفاهيم في منظومة متكاملة لفاعلين تاريخيين , غائبين أو مغيبين الآن , للخروج من المأزق وبحسب رؤيتنا فانه احد الشروط الرئيسية الضرورية لذالك .
مجلة الحرية لا تدعي امتلاكها لجميع مفاتيح هذه المهمة الكبرى ولكنها قد تزعم أنها تفتح كوة من الضوء في قلب الظلام الحالك ... لكل ذلك كان هذا الاختيار .

إشكالية كركوك

قد تكون إشكالية كركوك , هي إشكالية الوضع في العراق في كثير من الوجوه . وقد تكون خزانة تناقضاته . فهي عراق مصغر في كثير من مفرداته , وفي كثير من معانيه , وفي جميع ماسيه . من خلال ما يجري في كركوك , وما يراد لها خلف السطور , قد يكون هو نفسه ما يراد للعراق ككل . وقد يتطلب منا ذلك قراءة ما وراء الإحداث .
ابتداء يجري الحديث عن ما يسمى المناطق المتنازع عليها وهي لهجة غريبة . فمن ينازع من في البلد الواحد ؟ وعلى ماذا يتنازعون ؟! قد لا تخلو دولة من دول العالم من نزاعات وادعات على المناطق فيما بينها . ولكن الحدود مازالت ثابتة نسبيا فلو أثيرت هذه النزاعات لسادة العالم فوضى مدمرة من الحروب والماسي . ما الذي يمكن أن تفعله هذه النزاعات حول كركوك إذا ما تفاقمت , خاصة وإن هناك الكثير من المناطق ‘‘المتنازع عليها’’ في العديد من المحافظات ؟ ليس من المستغرب أن يأتي يوم نرى فيه هذا التنازع يصل إلى المحلات والشوارع والمنازل - وفي الحقيقة إن ذلك قد حدث فعلا - ويذكرنا ذلك بصراع المحلات في المدينة الواحدة . وكذلك ما عهدناه – في زمن المجتمع الأهلي القديم - في عهد السيطرة العثمانية على العراق , وما بعدها , إلى وقت ليس بالبعيد كثيرا . ثم ألا يثير الريبة والشك , إن بلدا عمره ألاف السنين وهو معروف بهويته الجغرافية منذ القدم , يراد اختزاله إلى مناطق متنازع عليها استنادا إلى ادعاءات مختلفة .
العراق بلد يمتص الوافدين إليه – طيلة تاريخه - ولا يمتصه أحد . فكثير من الغزاة والمهاجرين الذين غزوه , أو هاجروا إليه , عبر التاريخ , قد ذابوا فيه وصاروا جزء لا يتجزأ من كيانه. وكل من أراد له الشر , أندحر حتى وإن حولوه إلى رماد وهو كالطائر الأسطوري كلما احرقوه وصار رمادا , انبعث من جديد . غير إن إشكاله الرئيس – لأسباب عدة على مفكري العراق ومثقفيه البحث عنها والغوص فيها- إنه لم يستطع إيجاد الحلول لمركبات هويته المختلفة, كيف تكون عراقية في الوقت الذي تمارس تنوعها بحرية وانسجام, انطلاقا من مبدأ أن لا تناقض في التنوع ولا تعارض .
إن الثقافة (عرقية , دينية , طائفية) النقية المنغلقة هي خرافة لا توجد إلا في أذهان مدعيها أو في المجتمعات المنغلقة كليا . وإن الإنسانية موحدة في كثير من الانشغالات والهموم المشتركة بل وحتى في خرافاتها . ليس للجمهور العريض أية انشغالات من هذا النوع , سوى ما يسقط عليه , حيث أن المشكلة في الأساس تكمن في اوليغارشيات ضيقة لها مصالح خاصة تحاول إعطائها بعدا عاما . إن مشكلة الفلاح الكردي ليست مشكلة الأغا . وإن مشكلة العامل أو المثقف العضوي أو النساء أو الأطفال أو المهمشين ليست مشكلة من أدعوا إنهم سيأخذون ثمنا مقابل ‘‘نضالهم أو جهادهم’’ من اجل القضية , فانطلقوا بهمة لاتكل ولا تمل في قضم ما يمكن قضمه من المال العام والاستفادة القصوى من المنافع والمناصب المختلفة ليثروا ثراء فاحشا على حساب الشعب الجائع مما يذكرنا بقصص إلف ليلة وليلة . لا نستثني من هم في الجانب الأخر فالمسألة واحدة .
إنها صراعات الطبقة السائدة الجديدة , في طور تكونها , والتي تسعى جاهدة أن تحل بديلا عن الطبقة السياسية القديمة التي أثبتت الوقائع فشلها . في الحقيقة إنها صراعات بدائل متناقضة في الصراع على السلطة والنفوذ , ومتشابهة في الجوهر , كقوى سلطوية تتداخل صراعاتها مع أجندات أجنبية مختلفة .
إن أغلبية الشعب العراقي له هموم ومتطلبات مشتركة واحدة . فكاكة حمه وعبد الزهرة وعمر وجرجيس واوغلو وخدر , معاناتهم واحدة وأهدافهم واحدة ولكنهم انخدعوا بغبار صراعات القوى المتنفذة , وانساقوا وراء أهدافها , وهي مشكلة قديمة .
مشكلة كركوك ليست منعزلة عن مجمل ما جرى بعد إسقاط الدكتاتورية واحتلال العراق , كما تحاول أطراف الصراع الإيهام بذلك , بل هي نتائج حتمية لما جرى وسوف يولد باستمرار مصائب جديدة .
من المفيد أن نشير إلى مبدأ (حق تقرير المصير) . فهو مبدأ دافع عنه الاشتراكيون واليساريون بصلابة , ولاقوا في سبيل ذلك الكثير من الاضطهاد . وهو مبدأ سليم فعلا , ولكن ليس هنالك شيئا مطلق فكل شيء محدد بظرفه والمسألة فقط تكمن في التفاصيل . الغريب فعلا أن ترفع الولايات المتحدة هذا الشعار . لقد عملت كثيرا على فصل كوسوفو عن صربيا , في الوقت الذي تعارض فيه بشدة ذلك لأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بحجة وحدة الأراضي الجورجية . أذن فالمسألة تكمن في التفاصيل وليس في المبدأ . فلو نظرنا إلى خرائط الكانتونات المطلوبة ودرسنا خارطة حقول النفط فيها لوصلنا إلى فهم أفضل .
إن توزيع حقول النفط على كانتونات ضعيفة محاطة بالأعداء من كل جانب سيجعلها في حاجة دائمة إلى حماية القوي , وهكذا حمايات ليست من دون ثمن باهظ في عالم يحكمه الأقوياء وتسوده شريعة الغلبة .
يقول بعض المفكرين إن إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية ترمي إلى تجزئة كل ما هو كبير, وإضعاف كل ما هو قوي , حتى تبقى وحدها الكبير والقوي للهيمنة على العالم . ولان العراق كبير بوحدته وبثرواته لذا يجب إن يجزئ ويضعف كمتطلب أمريكي ويمثل ذلك البعد الدولي للصراع كما أنه بعد إقليمي أيضا .
هناك أسئلة عراقية مشروعة تطرح نفسها . حق تقرير المصير لمن ؟ لأوليغارشية لا يهمها سوى مصالحها الضيقة أم لشعب محروم ومضطهد ؟ والسؤال الأخر الخطير هو : هل استنفذت الورقة الطائفية أغراضها وخبا لهيبها فجاء دور الورقة العرقية لتشعل النار في جسد هذا البلد الجريح ؟ نتمنى أن يعي الجميع الدرس فالورقة العرقية لا تختلف عن أختها الطائفية , وقديما قيل أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك ؟!
أخيرا تستند جميع الإطراف إلى مواد دستورية لإثبات وجهة نظرها غير إن الدستور محكوم بالمادة 142 , كما أشترط على ذاته , وهي المادة الأساسية الفاصلة والتي لم يتمسك بها أحد . لذا يجب الخلاص من الاسطوانة المشروخة حول التفويض الشعبي , حيث إن هذا التفويض مشروط بالتعديلات وباستفتاء شعبي عليها , وهو ما لم يحدث رغم الإلزام والتوقيت في هذه المادة . كما إن صاحب العقد أي الشعب له مطلق السلطة , ديمقراطيا , في سحب الثقة من وكلاءه متى ما اضروا بمصالحه , فالنصوص ليست مقدسة بل إن ما هو مقدس مستقبل الشعب والوطن ومصالح الناس .

أزمنة "الريم"

الحكاية الرابعة لهلكان العريان

الشاي ولفافة التبغ , لا يمكن فصلهما عن شخصية العم هلكان , كما هي أيضا النظرة العميقة التي تجدها في عينيه المحتفظتين بصفائهما وبريقهما النافذ رغم تقادم الزمن وصروف الدهر التي تخللت عمره الطويل تقاطعت نظرات العم هلكان , مع الأبخرة المتصاعدة من "قوري" الشاي أطال النظر طويلا .. أردت فك الاشتباك .. هيه يا عم (شايك خدر) .
أعتذر مني عن حالة شروده , بعد أن ملأ أقداح الشاي , قال : كنت أقلب الفكر فيما وصل إلى مسامعي من حكاية المواطن(تعبان و ريمه) بعد أن جار عليهما الدهر , بعد "التحرير" , كما جار عليهما قبله , وكما قال المثل الشعبي (تيتي تيتي , مثل ما رحتي اجيتي ) , ليصبحا في رمشة عين مطاردين ومطرودين من شوارع ألمدينه وأزقتها و ساحاتها , لترتفع بدلا منهما رايات "النصر" المتعددة الألوان , ولا ندري من انتصر على من ؟
فما زال تعبان و ريمه يعيشان على هامش المدينة ,وهما ينشدان

عدنا و عادت حالنا الراكدة
يسألنا التاريخ ما الفائدة

"الريم" لا يمكن لها أن تعيش حرة فبعد أن كانت تطرق الفيافي و الوديان , و مرابع الأنس والجان , أجبرت على ترك الشوارع لصالح السيارات "الحديثة " التي تصدر ألينا من" مقابر السيارات و مزابلها "
من بعض الدول الصديقة و الشقيقة بأنواعها المختلفة , ولا فرق إن كانت "ستيرن يمنه أو يسره" حيث لا فرق بين اليسار واليمين في هذا الزمن الرمادي , مادام الجيب يمتلأ بالمال . كما اجبر تعبان على ترك داره ألمستأجره بعد التصاعد الجنوني في الأنفجارات والتهجير , وبدلات الإيجار, وحملات الأعمار ليسكن متجاوزا على أملاك الحكومة , والملك لله , ويرتكب الإثم بفعلته الشنيعة – أطال الله عمر غوار الطوشي – الذي ابتلع ليرة قد سرقها , ليخفي فعلته , ولكن الأشعة ألسينيه , كانت له بالمرصاد , في الوقت الذي عجزت فيه عن كشف الملايين المبلوعة من قبل "أبناء الأجواد" على اختلافهم .
من اجل حل " إشكالية " المطاردة هذه تصالحت الريم مع تعبان على أن يرفع نصف كراسيها ليحوله إلى مسكن , له ولعائلته , مقابل أن يوفر لها متعة السير في الشوارع , بين ألفينه و الأخرى , عند حضور مفارز مطاردة المتجاوزين المسلحة .
صمت العم هلكان طويلا . تشاغل بإصلاح لفافة التبغ بأناة . بعد أن اخذ نفسا طويلا , جاءني صوته هادرا ليمزق سحب الدخان : يبدوا أننا نعيش كذبة كبرى منذ بداية التاريخ فما قيمة القيم و (الخطابات الكبرى) وكلما نسجته البشرية من مماثل إذا كان هنالك إنسان جائع أو خائف أو بلا سقف يؤويه و أطفاله ؟ ما قيمة هذه اذاما مات طفل أو شيخ لأنه لا يمتلك ثمن الدواء الذي ينقذ حياته ؟ ما قيمة كل هذه الأشياء إذا كان هناك هولاكو في كل عصر يحرق شارع المتنبي ويرمي رماده في نهر دجله ؟
ما قيمة كل شئ و محاكم التفتيش ما تزال تلاحق "غاليلو " في كل زمان ومكان ؟ ما قيمة ....و هنا سكت هلكان عن الكلام المباح
إلى أن يدرك الشعب العراقي و فقراؤه نور الصباح .

احتجاج حكماء الجان

المقامة السومرية الثالثة
بينما كان أعضاء المقامة السومرية منشغلين بتصفح ملفاتهم التي تتناول شجون وهموم مواطني بلاد الرافدين التي ليس لها أول ولا آخر . وما تفعله بهم الدول الصديقة والشقيقة ، وكذلك كتلهم البنفسجية الرقيقة المختلفة الأنواع والألوان ، والمتماثلة في الأفعال والبنيان بغية طرحها على السادة أعضاء البرلمان ، حتى دخل عليهم الحكيم هلكان معلنا افتتاح الجلسة ، مبلغا عن وصول بيان خطير إلى البريد الالكتروني للمقامة السومرية وقد أرسله حكماء الجان طالبين فيه الإذاعة والبيان بكل شفافية وديمقراطية توافقية ، وهذا نصه بالتمام والكمال .
احتجاج حكماء الجان على افتراءات بني الإنسان
السادة أعضاء المقامة السومرية المحترمون
تحية طبية وبعد
منذ تواجدنا مع الإنسان على هذا الكوكب وانتم تتهموننا بشتى التهم ، وتقذفونا بأقذر النعوت فلم تحدث مصيبة لكم إلا ونسبتم أسبابها إلينا حتى أصبحنا بكل موبقة ندان ، ونسب إلينا كلما تقشعر له الأبدان على مر العصور والأزمان . ونظرا لهذا الظلم التاريخي الفادح منذ آلاف السنين فقد تنادى أبناء شعبنا بكل مكوناته وفيدرالياته من أرضية وطيارة ، وراكبة وسيارة . وقد رفعوا التماساتهم إلى اللجنة الفدرالية لحكماء الجان لعرض هذه المظلومية على مجلسكم الموقر لإحقاق الحق وإزالة الغشاوة عن العيون . ونحن أيها السادة قد درسنا هذه الالتماسات ، وقررنا استنادا إلى الحق الديمقراطي في الدفاع عن مكوننا وحقوق من انتخبونا بتقديم دفوعاتنا أدناه لجلستكم الموقرة للبت فيها وفقا للدستور والتي تتلخص بما يلي :-
أولا:- نحن مخلوقات ضعيفة مخلوقة من نار ، فبعض من الماء يطفئنا وكثير من الريح يشتتنا . وقد قال عنا عز من قائل (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) نهرب ونرتجف عندما نسمع الأذان . ونلتجئ إلى الفيافي والوديان . ولم يسمح لنا ، جلة قدرته ، في التأثير على عباده المخلصين، مبينا استحالة ذلك علينا . فما ذنبنا إذا ما كان المخلصون عندكم لا يتعدون عدد الأصابع أو يزيدون قليلا في كل زمان ومكان ؟ وإذا ما أراد الله أن يهلككم وتذهب ريحكم أمر مترفيكم ، أصليون أم محدثون ، أن يفسدوا فأفسدوا وحق عليهم القول فأخذهم اخذ عزيز مقتدر . فمترفوكم هم أساس البلاء على مر الدهور ، والغنى الفاحش والسلطان المتسلط أساس الطغيان والجور . فكم اسألوا الدماء وبخسوا الناس اشياءهم تحت كثير من الأعذار والشعارات . وعندما يتحول مثقفوكم إلى فقهاء السلطان وفقرائكم إلى مصفقين ومداهنين للباطل ومبررين عندها تزداد أحوالكم سوءا فيفترس بعضكم بعضا ، والشيء الوحيد الذي تتفقون عليه تحميلنا مسؤولية ما يجري بقولكم الله يلعن الشيطان .
لقد تناسيتم (إن كل نفس بما كسبت رهينة) فالعلة فيكم لا فينا . لقد تناسيتم إن العدل أساس الملك وهي حكمة تعلقونها وراء ظهوركم ولكنكم جعلتم مصالحكم وأهدافكم مقياسا للعدل بلا عدل ونسيتم إن الله قد كرم بني ادم على العالمين بآدميتهم بدون تخصيص للجماعة الفلانية أو العلانية فالناس سواسية في الحقوق .
ثانيا:- نحن بني الجان بكل أجيالنا ، من نفق منا ومن نفذ ، لا نملك شيئا من الأسلحة سوى محاولة الغواية والوسوسة ، وهي كما لا يخفى على حكمتكم أسلحة الضعيف الذي يفتقد الاقتدار ، وكما يقول مثلكم (التمني رأس مال المفلسين) فهي أسلحة تافهة لا مفعول لها ولا تأثير إلا إذا صادفت في نفوسكم حاجة ورغبة . فنحن كالمنشطات لرغباتكم الدنيئة ، فنسوغ ونحسن لكم نوازعكم بتوسل ودناءة ، فما ذنبنا إن كنتم تستسلمون لهذه الدناءة وتكتفون بعدها بلعننا ؟ وهل من العقل والمنطق لوم الحمار على غبائه وعناده وترك لوم من يمشي وراء الحمار ؟
ثالثا:- نحن غذائنا الروث والعظام . ومسكننا مكان النجاسات والفلوات والآجام . فما حاجتنا إلى كراسي الحكم والسيطرة على السلطات ؟ وما فائدتنا من الأموال والقصور الفارهات ؟ وما الذي نفعله بالوجاهات المزيفات ؟ لذا لم تحدث الهوائل والفواجع والحروب بين فدرالياتنا ومكوناتنا وكتلنا . لقد كنا وما زلنا نعيش في سلام ووئام وانسجام لافتقادنا إلى أسس المصائب والبلاء الثلاث التي ذكرناها . فاتقوا الله فينا ولا ترموا (بلاويكم) علينا .
بهذه الدفوعات قد أفحمناكم وقطعناكم . والآن وقد بلغ السيل الزبى ووصلت أرواحنا إلى الحلقوم بسبب بهتانكم لنا مما اضطرنا إلى كشف المستور . وأعلنا استسلامنا وتخلينا عن حقنا القديم في إغوائكم بعد أن وجدنا إن وسائلكم المتطورة قد اكتسحت وسائلنا البدائية وطلبنا من امتنا التعلم منكم فنون الوسوسة والغواية التدليس . و استنادا إلى اعترافنا هذا ، ولنؤسس معكم سلام الشجعان ، فإننا نطالبكم برفع الحيف عنا بوثائق مدونة ومعلنة ، وكذلك بحماية سمعتنا وامتنا من مؤامرة جديدة خطيرة قد تؤجج الصراع بيننا إلى يوم يبعثون ، فقد وصل إلينا من مصادر موثوقة طلبت عدم الكشف عنها – وهو حق ديمقراطي يكفله الدستور – إن جميع اللجان التحقيقية التي شكلت في بلادكم منذ ثمانية أعوام وإلى الآن ، قد اتفقت على تقديم تقاريرها النهائية بتحميلنا مسؤولية ووزر ما جرى ويجري من جرائم و(بلاوي) ، فيما إن براءتنا واضحة كبراءة الذئب من دم يوسف فلم يجدوا أحدا غيرنا ينسبون إليه هذه الأحداث بعد أن سكتوا كل هذا الزمن الثقيل عن البوح بالمحظور والمستور .
وتقبلوا احتراماتنا . انتهى البيان
بعد دراسة الموضوع من قبل جلسة المقامة السومرية الثالثة تقرر إحالته إلى مجلس النواب الجديد الذي قرر تحويله ، بدوره ، إلى لجنة للبت فيه وستذيع اللجنة النتائج التي ستتوصل إليها بعد عمر طويل عندما تجد شماعة أخرى غير بني الجان لتنسب إليها ما سيحدث وما حدث وكان ، ولكم الله أيتها الرعية من ثكلى ويتامى وأرامل وأصحاء وعرجان .

2010/12/11

ويكلكس

حرب غوُار الكترونية ؟
لاشك إن تاريخ الإنسانية هو تاريخ صراع طويل على السيطرة والنفوذ والهيمنة ، جماعات وأفراد ، عبر وسائل ووسائط ومسوغات لا حصر لها . ولأنها متفكرة فقد اكتشفت الكثير من التوابل وزوقتها لإعطاء أبعاد مقبولة لطبخاتها الرديئة وجعل رائحتها الكريهة قابلة للشم .
منذ تصدر الولايات المتحدة الأمريكية لمركز الهيمنة على العالم كانت طبخاتها الرديئة وما زالت مليئة بالشواط الحاد الذي ستحاول التعتيم عليه بتوابلها السقيمة ، المكررة حد الملل ، إلا أنها استطاعت إخفاء ذلك ، لا لجودة هذه التوابل بقدر إحكام قبضة آليات الهيمنة المختلفة على الوقائع والرأي العام . وطيلة عقود طويلة من الزمن ، ولربما قرون ، اضطرت الشعوب والجماعات ، بعد نفاذ الصبر والوسائل الأخرى ، إلى استخدام السلاح من أجل المقاومة ، وما عُرف بحرب الغوُار في القرن المنصرم ؟ لأحداث ثغرات مهمة في جدار الهيمنة ، حقق انجازات هنا وإخفاقات هناك ، إلا أن آليات الهيمنة السائدة استطاعت خنق هذه التجارب أو اختراقها وتحويل مساراتها وبالتالي تحولت في كثير من الأحيان إلى محاولات سيزيفية تكشف الكثير من الدم .
من خلال هذه المقدمات يمكن لنا أن نؤسس لفهم إشكالية ويكلكس وما يشابهه باعتبارها بداية حرب غوُار الكترونية وفرها التطور التكنولوجي الهائل لمقاومة كافة أشكال الهيمنة والفساد والتسلط وانتهاك كرامة وحقوق الإنسان في كل مكان وزمان ، ومن أي قوى مهيمنة مهما كانت التوابل التي تستخدمها .
وسواء كان السيد أسانچ وسيلة مستخدمة ، وفق آراء أصحاب نظرية المؤامرة ، أو ربما وفق آليات نظام الهيمنة التي تشككنا بكل شيء . أو ربما كان جيفارا العصر الالكتروني الذي يهدف إلى المساهمة في صنع عالم إنساني أفضل ، ولربما هو إنساني منسجم مع إنسانيته ومتضامناً مع أبناء جنسه ، ولكن الشيء الأكيد إنه فقأ دمامل نظام الهيمنة التي تعفنت بما فيه الكفاية ، وأزاح الستار عن الليبرالية المزعومة للإدارة الأمريكية التي تلاحق السيد أسانچ وموقعه ، ناسية إن المارد قد أنطلق من القمقم ، وقد يكون من الصعب بعد الآن حبس جميع المردة في القماقم الصدئة .