2010/10/26

مشاهد من الزمن الجديد -5-





الفصل الديمقراطي

الفصل بلهجة القبائل والعشائر هو الدية التي تعطى تعويضا عن أي ضرر , من فصل القتل إلى فصل الضر .. حيث إن السواني – وهي تقابل المواد القانونية - لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا وقد وضعت لها تعويضا ماديا أو معنويا . وقد يكون الفصل ( حرمة ) أي امرأة أو أكثر , ومن هذا المعنى جاءت الأغنية الشهيرة ( الفصلية ) والفصلية هي المرأة التي تمنح ( فلاحة ملاجة ) إلى أقارب المتضرر وليس لها حقوق , كما لا يحق لأهلها الدفاع عنها . وعندما أسقطت الديمقراطية علينا ( ببرشوت ) مع الأسلحة المطلية باليورانيوم المنضب ( طحنة ما بين حانة ومانة وضاعت الحانة ) . فالبسطال الأمريكي لا يرضى بغير ديمقراطية أبو غريب , والقتل غير المتعمد للآلاف من العراقيين مصحوبا بالاعتذار والأسف لذلك . ولا نحن نرغب بالتخلي عن عاداتنا وسوانينا لذا فقد فصلنا أمريكا عن خسائرها بمشروع قانون النفط ومشروع المعاهدة الأمنية الطويلة الأمد . كما يقول بعض المغرضين إن الفصل الديمقراطي دخل في كل شيء , واستعملت سياسة أعطيني أعطيك وقاضيني أقاضيك - وهي تشبه لعبة حية ودرج - كما يحدث ألان في ماراثون قانون انتخابات المحافظات . ويقال إن السيد ( دي مامستورة )قد اقترح مشروع قرار ( كركوك مقابل النفط للعراق ) تحت البند السابع ومضاعفاته , كفصل للأكراد مقابل اضطهاد النظام البائد لهم . علق أحد الشوفينيين ( بس لا يروح العراق فصلية ) .

الحنة
الحنة أو الحناء هو نبات تعجن أوراقه وتوضع في يد العريس وتحنى به يدي ورجلي العروس . كما إنها توضع على أبواب أضرحة ومقامات الأولياء وفاءا للنذر . ويروي لي أحد المطلعين على أسرار الفراشين العاملين في عيادات الأطباء , إن بعض الأطباء غير المعروفين, قد طلبوا من فراشيهم طلاء أبواب عياداتهم بالحنة حتى يوهموا السذج من المرضى بأن هذا الطبيب مبروك ( وسره باتع ) فيتكاثرون على عيادته للعلاج والتبرك . وقد اقترح منظمو الحملات الانتخابية على السادة السياسيين أن يخضبوا رؤوسهم بالحنة لضمان إقبال الناس على انتخابهم في الدورات الانتخابية المقبلة بعد أن أثبتت تجارب الأطباء فاعلية ونجاح هذا الاختراع. علق أحد الظرفاء بأننا قد أضفنا إلى التجارب العالمية تجربة جديدة هي تجربة ديمقراطية الحنة . وأعتبرها أحدث موديلات الديمقراطية وأكثرها صلاحية للشعوب والدول .. وحنة يحنة يعيني ياقطر الندى .
دعاية انتخابية
يلعب ( الحرمل ) دورا كبيرا في حياة الشعوب . ويروى عن فاعلية الحرمل أنه سلاح فتاك مضاد لسلاح الحسد . والحسد ينطلق من فوهة العين ولا يحتاج إلى تطبيق الفرضة على الشعيرة في التسديد حيث يروى عنه الكثير من الحوادث التي تشيب لها الولدان , وتقشعر منها الأبدان . ولكل هذه الأسباب فقد شاع استعمال الحرمل , وقت الغروب , لطرد العين . ويروي لنا بعض الذين لديهم تصاريح لدخول المنطقة الخضراء , إن رائحة الحرمل تسود بلا منازع في جميع مبانيها . وقد علل الأكاديميون المتخصصون بعلم الحرمل في الجامعات العراقية , ومراكز البحوث الحرملية , انتشار هذه الظاهرة في المنطقة الخضراء ومن ثم إلى أنحاء البلاد المختلفة , هو خوف المسئولين من الحسد , بعد أن توردت خدودهم بشكل لافت للنظر . ويشاع إن المفوضية العليا للانتخابات قد أضافت شرطا يجبر المرشحين على شراء مناقل مليئة بالحرمل أثناء جولاتهم الانتخابية حيث اثبت خبراء الانتخابات إن الحرمل لا يقي من الحسد فقط , وإنما يجلب الفال الحسن للمرشح , ويزيد من حظوظه في حصد اكبر عدد من الأصوات .

مشاهد من الزمن الجديد -4-




حدث في العراق
كان ذلك في ظهيرة يوم قائض من أيام تموز ( اللي ينشف الماي بالكوز ) . الشمس اللاهبة تخترق حتى العظم . فجأة سمع السادة المسئولون وممثلو الشعب والأقرباء والأحباء والأصدقاء ألمتعددي الجنسيات من سكان المنطقة الجرداء سيارة بيع الغاز المخصصة لإغراض البطاقة التموينية , فهرعوا وهم يحملون قناني الغاز الفارغة أو يدحرجونها على أسفلت الشارع ( المحفر ) والكل يريد أن يكون في ( أول السرة ) . جاء السائق مهرولا والعرق يغمر جسده فصرخ بهم : لماذا تصطفون خلف السيارة والمختار غير موجود ؟ من يوزع عليكم الغاز ؟ انطلق مسرعا بسيارته بحثا عن بيت المختار . حمل الجميع قنانيهم وهم يركضون وراءه . وبعد تكرار هذه الحالة المأساوية تداعى السادة النواب إلى اجتماع ( حار بحار ) تحت أشعة الشمس الحارقة ليسلقوا مشروع قانون حول إلغاء فترة الظهيرة , بيد إن الاختلاف والخلاف أشتد حول تحديد وقت فترة الظهيرة , وكادت المشادات الحادة تصل إلى ما لا يحمد عقباه . أستخدم احدهم نقطة نظام بأن النصاب لم يكتمل بسبب سفر معظم النواب إلى المناطق الشعبية للاطلاع على أوضاع الرعية ولكن النصاب لم يكتمل لحد اللحظة الراهنة . لقد نسي السادة النواب أنفسهم وهم يطوفون المدن والأرياف بحثا عن مصالح الشعب .
حدث أيضا
الإحياء التي يسكنها الشعب تسمى الإحياء الخضراء , لكثرة حملات الأعمار التشجيرية وتنوع الأشجار في الجزرات الوسطية وفي الحدائق الغناء . اقترح احدهم - على عادة العرب في إطلاق لفظ السواد على الخضرة الكثيفة - تسميتها بالإحياء السوداء . جاءت سيارة الغاز التموينية لتوزع الغاز ( بلاش ) ولكن بعد أن بح صوت المختار وهو يصيح غاز .. غاز ( بلاش ) للشعب . لم يخرج احد من الشعب من بيته . أمر المختار السائق بإطلاق صوت المنبه ( الهورن ) على نغمة غاز .. غاز مصحوبة بموسيقى الخشابة . ما إن فعل السائق ذلك حتى أطلت الكثير من الوجوه الغاضبة وهي تهددهما بمقاضاتهما أمام المحاكم بتهمة إقلاق راحة الشعب ( الخدران ) من تبريد ( السبالت ) أو المكيفات . سألهم المختار عن مطالبهم , فجاءت أصواتهم ( باردة بعد أن جرشهم البخيخ ) مطالبين بطريقة غاز الأنابيب . في اليوم التالي كانت الإحياء الشعبية قد امتلأت بأنابيب الغاز السائل وقد اخترقت أحشاء البيوت .

مشاهد من الزمن الجديد -3-



ذو الشهادتين
قد يتبادر إلى ذهن المولعين بالتاريخ إن هذا العنوان ينتمي إلى فترات زمنية من الماضي السحيق كالطاعن بالرمحين والضارب بالسيفين وما إلى ذلك . غير أن هذا ينطبق على واحد من مئات الآلاف من الخريجين , سواء الذين فاتهم القطار أو الذين سيفوتهم , فعجلات قطار حملات الأعمار تسحق دائما ذوي الشهادات عدى ذوي القربى , بشفافية ديمقراطية , لتستبدلهم بأصحاب الكفاءات العائلية أو العشائرية أو الحزبية وما شابه ذلك من علاقات ‘‘ صلة الرحم ’’ حتى ولو كانوا من الأميين أو أنصاف الأميين ومزوري الشهادات . قصة صاحبنا هذا أنه يحمل شهادتين مطلوبتين في حملات الأعمار بشدة . وقد غمر صاحبنا الفرح بكثرة مشاريع الأعمار وطلب أحد المسئولين لإخوتنا في مصر لتجهيز مليون عامل ( سبير ) لسد النقص في العمالة فأخذ يتدلل على المسئولين ويتدلع عليهم ولكنه لم يرى احد منهم يطرق بابه . عزى ذلك إلى انشغالهم , كان الله في عونهم , بحملات الأعمار الانفجارية والرحلات المكوكية , حتى أنهم لم يجدوا مجال لحلاقة لحاهم التي طالت وتشعثت . فعذرهم وقال في سره , كافي دلع . دخل إلى إحدى الدوائر بشفافية وقال : أني حاصل على شهادتين أعماريتين وارغب في العمل . فأجاب الموظف : راجعنا كل عشرة أيام . ومنذ ذلك اليوم وصاحبنا يلف على الدوائر وهو يغني ( ماكو عقد لا تعيين ) وهي من الطور الملائي وهو من أطوار الغناء . إما سبب تلقيبه بذي الشهادتين لكثرة تكرارها عند مراجعة الدوائر . علق احد الظرفاء : لا فرق في صلة الرحم بين النظام الدكتاتوري والنظام الديمقراطي .
تحت موس الحلاق
من المتعارف عليه إن الحلاق متهم بكثرة الكلام أو الثرثرة , إلا إن الوضع قد تغير , حيث إن الحلاق هو الصامت الآن بينما يثرثر الزبائن . وقد حلل ذلك التغير احد المحللين المختصين بعلم الثرثرة بأن العراقيين قد أصبحوا كثيرو الكلام بعد أن ابتلعوا ألسنتهم طيلة حكم جمهورية الخوف وعزى طبيب نفساني ذلك إلى الانتقال الحاد والمفاجئ من حالة الصمت الدكتاتوري إلى حالة الثرثرة الديمقراطية . كنت أنصت إلى الجدال المحتدم بين الجالسين عن سوء الأوضاع الخدمية والبطالة وهيمنة الفساد المالي والإداري والمحسوبية والمنسوبية . ثار احد الجالسين على الحضور وألقى خطبة عصماء عن فضائل الديمقراطية واتهم الحاضرين بتأييد الدكتاتورية لانتقادهم الحكومة . قال بحماس إن الشركات الأجنبية ستصل قريبا بعد إصلاح ( البناﭽر ) في عجلات قطار العولمة حيث ستمطر علينا سماءها ملايين فرص العمل والدولارات . سكت القوم بانتظار ( غودو ) علق احد الظرفاء : هل يعقل أن يتم بناء أمة في ظل هكذا مقاييس ؟!

مشاهد من الزمن الجديد -2-



احتلال
كنت في زيارة لصديق , وبسبب انقطاع الكهرباء وارتفاع حرارة الجو , طلب مني صديقي الجلوس فوق سطح البيت , حيث كانت نسمات الهواء حارة وجافة . جعل صديقي يفلسف الأمر باعتبار الهواء اللاهب يساعد على شفاء الجراح بسرعة وفقا لوصفة جداتنا – وقد أطلقن عليه الاسم العلمي ( السموم ) - وبما إن جراحنا كثيرة لا تشفيها الأدوية والوصفات الرديئة لصندوق النقد الدولي لذا لجئنا اضطرارا إلى الوصفات القديمة حتى ولو كانت سموما . علقت على كلامه: مكره أخاك لا بطل . نظر صديقي بغضب وعيناه تحملقان في المنزل المجاور حيث هناك عش صغير لفاختتين وقد تعرضتا إلى هجوم من حمامتين كبيرتين من الحمام البري الأزرق . وبعد دفاع بائس غير متكافئ تم احتلال العش . صرخ صاحبي اللعنة على المحتلين.. اللعنة على المحتلين . تناول عمودا طويلا لينهال به ضربا مجنونا على الحمامتين المحتلتين فهربتا مثخنتين بالجراح . قالت أمه العجوز : كم هو خبيث هذا الاحتلال فقد حول حتى الحمام الوديع إلى كواسر .
گرطة آل شلش
تضاربت الأنباء في وصف الكرطة . فما بين مدع رؤيتها وما بين من روى وصفها عن آخرين . غير أنهم تسالموا جميعا على إن كعب أخيل الكرطة أنفها فما أن تلمسه حتى تموت في الحال . وادعى بعضهم إنها مدرعة بدرع لا يقل قوة عن دروع المارينز حيث لا ينفع معها حتى العبوات أللاصقة . وقيل أيضا إنها أكبر من القط ( البزون ) وأصغر قليلا من الكلب . كما إنك لا تكاد تراها لسرعتها الفائقة حيث تهاجم العيون فتقتلعها بمخالبها الحادة . وقد ذكر بعض الشهود من آل شلش , الذين يسكنون في البساتين التي ظهرت فيها الكرطة اللعينة , أنهم لا ينامون الليل منذ زمن طويل بسبب المعارك المتكررة قرب مناطقهم إلى زمن قريب , والآن لا ينامون بسبب الكرطة التي ظهرت بعد انتهاء هذه المعارك . قال البعض ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة بأن الكرطة هي من صنع المحتل . تلقف بعض المسئولين هذه الأقوال لينسبوا تلكؤ مشاريع الأعمار وانقطاع الماء والكهرباء إلى كرطة آل شلش الخبيثة . قال صديقي : لعن الله الكرطة فقد أضافت شماعة جديدة إلى شماعاتنا .
ألحرامي
في بلدنا هناك الكثير من المفارقات التي من الصعب تفسيرها تفسيرا منطقيا . من هذه المفارقات إن منطقتنا تعرضت إلى شحه طويلة الأمد في الماء الصالح للشرب . كنت استطيع في بعض الفترات القليلة التقاط قليل من الماء بواسطة مضخة الماء ( الماطور ) . وقد كان جاري المباشر لا يستطيع سحب الماء رغم أضافته ( شافطة ) يدوية إلى الماطور . أشرت عليه بإبدال الماطور . أشترى جاري ماطورا جديدا فأخذ يسحب الماء بينما اختفى الماء عندي . سألت جاري : ما الذي حدث ؟ قال : أن ماطوري الجديد يسمى ألحرامي .. وهنا أدركت السر فقد أنتقل الفساد المالي والإداري إلى ماطورات الماء . صرخت بعطش شديد : حتى أنت .. ياماطور ؟؟!!

مشاهد من ‘‘الزمن الجديد’’ -1-



ملاحظة :- ليست هذه المشاهد أفكارا لمسلسل عربي أو هندي أو ما يشابه مسلسل (حبيب و حبيبة) الذي تعرضه قناة الديار الفضائية , بل هي جزء من أفكار تلفزيون الواقع الذي تنتجه شركة (New Time ) أليبرالية الجديدة الأمريكية وتسوقه باستمرار إلى جميع أنحاء العالم, لذا أقتضى التنويه .
مصائب قوم
توقفت بنا السيارة في أحد أسواق المدينة قرب بائع السمك. قال أحدنا : أنه سمك من النوع الجيد . أعترض آخر بأنه لا يأكل السمك إلا إذا كان حيا ( يلبط ) في حوض ماء . انتابت الجميع موجة من الغضب والحقد عليه, وتتالت عليه الكفخات – الكفخة بالعراقي هي الضرب بكف اليد على الرأس- نظر إلينا بدهشة وعلامات الاستفهام تغمر وجهه , أجابه أحدهم : ويلك إننا لا نجد الماء لنشربه وتريد ملئ أحواض السمك به .. والسبب في ذلك الانفعال هو إن معظم أنحاء المدينة تفتقد إلى الماء معظم ساعات اليوم , فقد تفوقت مديرية الماء على مديرية الكهرباء في القطع غير المبرمج , سألنا أحد أصحاب الحظوة عند أولي الأمر عن سر هذا الانقطاع . أجاب مشكورا إنهم ينقبون عن الأوساخ في الأحواض و الأنابيب لصيانتها . علق أحد الظرفاء لو أن جرذا ينقب في جبل , طيلة هذا الوقت , لنقبه , فما بال أصحابنا ؟ طالبنا أخونا ( المكفوخ ) برد اعتباره وديا وإلا فأنه سوف يقاضينا بعد أن أثبت بالدليل القاطع أن انقطاع الماء المستمر ذو فائدة , فقد كان هذا الشارع الذي نمر عليه يوميا , عبارة عن بحيرة اختفت باختفاء الماء عن الأنابيب . علق الظريف مرة أخرى .. مصائب قوم عند قوم فوائد .
تساكن
كنت وبعض الأصدقاء نسير في طريقنا إلى مركز المدينة وقد احتدم النقاش بيننا حول مشروع قانون انتخابات مجالس المحافظات , كما يحتدم النقاش بين أعضاء البرلمان دوما , والناس على دين ملوكها . الشارع الذي نسير فيه غريب وعجيب كالواقع العراقي . فعلى إحدى جوانبه تمتد القبور , بينما تم هدم بعضها على الجانب الآخر ليجري تشجيره , بينما الباعة المتجولون يعرضون بضائعهم المختلفة وهم ينظرون إلى المارة بترقب بعد أن انتفعوا من التكنولوجيا حيث استعاضوا بالات التسجيل لتنادي على بضائعهم وأسعارها بدلا من حناجرهم في تساكن عجيب بين الحياة والنماء والموت والفناء . أللافت للنظر أيضا الانتشار الكثيف للمتسولين الذين يزدادون عددا يوما بعد يوم .. كان من بينهم امرأة عجوز ذو وجه شاحب وبائس وقد افترشت الإسفلت وسط الشارع .. صرخ أحد المتناقشين بألم : أنظروا إلى هذه العجوز , فهل تحتاج هي وأمثالها إلى الصور أو الشعارات لحل مشاكلهم أم أنهم يحتاجون إلى البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها ذات الآليات الواقعية الواضحة ؟ انتهى الشارع لنجد أنفسنا في قلب المدينة حيث ابتلعت الشعارات والصور جدران المدينة والعديد من فضائاتها .
المشهد الثالث
أجتمع المهمشون والمتسولون وسألوني بغضب : ما الذي تغير .. هل نحن حقا في زمن جديد ؟ أمام سؤالهم المشروع لم أجد غير إجابة المرحوم جعفر السعدي : غريب أمور عجيب قضية . ضحكوا جميعا وشر البلية ما يضحك .

احتجاج أشعب الطماع



قيل لأشعب الطماع: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم انظر إلى اثنين يتساران إلا ظننتهما يأمران لي بشيء.
افتقدت العم هلكان لفترة من الزمن، فقد اختفى دون سابق إشعار أو إنذار، مما أصابني بالقلق عليه، وبالإحباط واليأس لافتقاده، فشعرت بأنني فقدت بوصلتي لحاجتي لاراءه السديدة. وعندما ظهر فجأة سبق عتبي عليه سلامي. أجابني معتذرا إن للضرورة أحكام. فقد وجدت نفسي كالكريم في مأدبة اللئام أو كالأطرش في الزفة، حيث إن حدثا غريبا قد استوقفني ليس من طبائع أهل ذاك الزمان المنصرم فقد انتشرت لافتات عريضة مصنوعة من جلد البعير في سكك المدن وأسواقها، وفي مضارب القبائل ومرابعها. مليئة بالشعارات المختلفة، وكأنها شعارات الحملات الانتخابية في زمنكم هذا. فسألت الناس عما حدث فاستغربوا سؤالي وأنكروا علي جهلي. واتهموني بالتقصير عن المتابعة. وعدم الاهتمام بمصالح العامة والخاصة والتغيير الشوروي الذي اجتاح البلاد والعباد. فاضطرني الأمر إلى البحث عن أهل الرأي، وبعد جهد جهيد وعنت شديد وصلت إليهم. فوجدتهم متقوقعين على أنفسهم وقد ضاعت أصواتهم ونقداتهم في ضجيج الهرج والمرج. فأعتزلوا مجبرين في انتظار الفرج. وعند الاستفسار عما جرى جاء الجواب: اعلم أيها السائل إن أهل زماننا قد علموا بما حدث في المستقبل من هبوب رياح الديمقراطية واجتياحها للولايات الدكتاتورية. فأجمعوا أمرهم على المطالبة بها حيث كان عندنا سلطان قد أباد الحرث والنسل. وقتل أحرارنا في المعارك أو قتلهم صبرا، ومن لم يقتله بذلك قتله هما. فكثرت عليه الثورات ولكنه أبادها بقسوة. فضجت العباد وتفرقت في البلاد. استجار بعضهم بإمبراطور الروم. الذي رفع شعار إغاثة الملهوف والمظلوم ولكن عينه على نخل وتمر بلادنا تحوم. فأطاح بالسلطان وأعلن أن لا بديل عن نظام الشورى، وهذا سبب ما تراه الآن من شأن الناس في الهرج والالتباس. حيث اخذ بعضهم يأخذ بخناق البعض. وانتشر بينهم القتل والتهجير المريع. فهذا مدافع عن قبيلته والآخر عن ملته. مكبرين الصغائر ومصغرين الكبائر، حتى صرنا بعضنا أعداء بعض وإنعزلت السكك في المدينة الواحدة. ولهذه الظروف المؤاتية نشط الكثير من الطفيليين. واندسوا في كل مكان وجماعة. وتلبسوا لكل حالة لبوسها فوصلوا إلى مجلس الشورى وأماكن النفوذ الأخرى فكثرت الولائم والعزائم التي وقتهم شر التطفل. وحصلوا على الدنانير الكثيرة بدلا من الدوانق والدريهمات العسيرة. مما نقلهم من طبقة التحايل والاستجداء إلى طبقة اللغف والاستيلاء. فأكلوا الأخضر واليابس. وقد تعاظم الصراع فيما بينهم مما دعا أهل الحل والعقد، والفك والشد، إلى الاجتماع وتدارس الأحوال والأوضاع. فاتفقوا، ولم يتفقوا، على التوافق وتقاسم المغانم والترافق فصاروا يشفطون كل شيء، لا يكلون ولا يملون، حتى مثلوا بالمنشار (صاعد واكل نازل واكل) مما حدا ببعض الطفيليين إلى الاجتماع وتدارس ما آلت إليه الأوضاع واتفقوا على أن يكون أشعب الطماع ناطقا باسمهم لما له في التطفل من صيت وباع فقدم باسمهم احتجاجه التالي الذي نشرته كافة وسائل الإعلام من شعراء جوالين, مداحين وهجاءين، ومن هم على الربابة عازفين:
استنادا إلى حقنا المكفول شورويا في التعبير عن الرأي. وبعد انتشار الانحراف الخطير. إن التطفل له جذور وثوابت منذ القدم توارثناها جيلا عن جيل، نشأ عليها صغارنا ومات وفاءا لها كبارنا فهي لا تتعدى أكلة لذيذة أو دراهم عديدة. فما أن يحدث طبخ أو شواء إلا شممناه. وقد أنشأنا خرائط وأسقطنا عليها إحداثيات الولائم والعزائم ونشرناها بين إخواننا، من اجل عموم الفائدة، مما يدل على تقدمنا العلمي. والينا ينسب علم المساحة. هدفنا الوحيد أكلة لذيذة أو كسوة بسيطة أو دوانق معدودة لنذهب بعدها إلى بيوتنا قريري العيون. إما ما حدث من اجتهاد الكثير من أصحابنا في التصدي للشأن العام وهو انحراف غير مقبول حيث أن الطمع في نفوسنا غريزة مركوزة والأخذ بدون بذل أي جهد أو عطاء طبيعة مشهودة. وإذا ما وصلنا إلى مراكز القرار تخرب البلاد ونثير علينا العباد. لذلك فأننا نعلن براءتنا من أفعالهم وعليهم وحدهم تحمل وزر أعمالهم.
احتسيت الشاي الذي قدمه هلكان وانتظرت تمام المقال وما آلت إليه في الماضي الأحوال. فنظر إلي نظرة مفادها أن اللبيب من الإشارة يفهم ثم سكت عن الكلام المباح.

ما زال هلكوست غزة مستمرا


تأملات في المنطق السائد
قد يبدو ، منطقيا ، إن التأمل يوحي للمتلقي بالهدوء والدعة والبطرنة ... ولكن إن تكون تأملاتك في وسط المجازر المستمرة ورائحة الشواء البشري وتأتي هادئة، قد يكون ذلك ضربا من المستحيل،ولكن لجوئك إلى اللا منطق في مواجهة المنطق العربي السائد الذي تعفن كثيرا وفقد كل شيء ماعدا ورقة التوت التي يراد لها إن تستر عورته بعد أن تضخمت وتغو لت وانكشفت لكل ناظر ، وذلك بتفكرك على ألمك ، عسى أن تحقق شيء من الهدوء وان كان خادعا .
عقود طويلة مريرة من المجازر والهزائم والتخلف وتدمير الذات الفردية والجمعية لم تستطع أبدا هز المنطق السائد في أفكارنا وسياساتنا ومجتمعنا . بيد إننا نجتر هذا المنطق ونلوكه مع كل أزمة ومع كل مجزرة ، ونلوك معه الأشلاء المبعثرة المغموسة بشلالات الدم لنغط بعد ذلك في سبات عميق .
مقدماتنا هي ذاتها ، وبراهيننا كذلك ، فما زال الخط المستقيم هو الأقرب بين نقطتين ، ومازال أفلاطون اقرب لينا من السفسطائيين . نحارب عدونا ونتبنى منطق ، ولا نحصد إلا الأشلاء والدمار والتخلف .
لقد بينت الأحداث والتجارب خطل المنطق الأفلاطوني وخطره على حياتنا ومجتمعنا بل وعقمه . ويمكننا إن نطلق عليه منطق معدة البعير المعروفة بقدرتها على اجترار ما في جوفها ولوكه ثم إعادته إلى جوفها مرة أخرى .
ومن اجل الإنصاف ، علينا الاعتراف بان هذا المنطق يسود العالم كله ، ولكن أن تستخدمه قوى الامبريالية والهيمنة والاستبداد والتخلف ، فهو شيء مفهوم، لأنه المنطق الذي يخدم مصالحها ، ولكن الاستنكار والاستهجان والرفض لهذا المنطق إذا استخدمه الضحايا سيكون مشروعا حتما لأنهم ضحاياه .
الإشكال الأهم إننا جميعا ضحايا هذا المنطق ، سواء كنا معتدلين او ممانعين ، منبطحين أم مقاومين ، فقد خذلنا شعب غزة ، لأننا في الأساس قد خذلنا أنفسنا ، رغم تقديرنا وإكبارنا لكل من انتصر لغزة في جميع أنحاء المعمورة .
المنطق الذي قامت عليه إسرائيل بان هلوكوست اليهود في معسكرات ألمانيا النازية يبيح لها إن تقيم دولة عن طريق سلسلة من الهولوكستات ابتداء من دير ياسين مرورا بصبرا وشاتيلا وقانا وغزة والعشرات من أمثالها ، والتي لن تتوقف إلا إذا خرجنا من هذا المنطق وعرفنا إن هذا التواجد ، لا يرتبط لا من قريب ولا من بعيد ، بهلكوست المعسكرات النازية ، ولا بوعود الرب لشعبه المختار ، وان اتخذ ايدولوجيا وتعبويا هذه المنطلقات كذلك ، علينا أن نفهم إن التعاطف والدعم اللا محدود ، الأوربي والأمريكي ، لا علاقة له بتاتا بعقدة اوديب لدى الألمان والاوربيين بسبب هولوكوست النازية ، ولا بسبب إيمان المحافظين الجدد الأمريكيين بالحفاظ على دولة إسرائيل من اجل ظهور المخلص،فراس المال ومؤسساته ، لا يعبد سوى إلها واحدا إلا وهو المال وإفرازاته كالربح والتمركز والهيمنة فلا وجود لحقائق عارية في السياسة والحرب .
علينا إن نفهم ، كذلك ، لماذا تكون أعظم انتصاراتنا هي منع العدو من تحقيق أهدافه مقابل شلالات الدم الزكي المبذول في سبيل ذلك ؟ ولماذا صمت الكثير منا ، حكاما ومحكومين ، الا ان توقفت المجزرة لنقول بعد ذلك انم احدث جريمة !!!
لماذا لا نصاب ، نحن أيضا ، بعقدة اوديب تجاه المجازر التي تعرض لها الفلسطينيون أكثر من ستة عقود ؟؟
لماذا نكون دائما رد فعل لفعل لا يساويه في المقدار ولا يعاكسه في الاتجاه ؟؟
لماذا يتلاشى صراخنا مع انتهاء الفعل من دون أن يترك تأثيرا ؟؟
سنجد الجواب حتما ، عندما نفهم ، إن السبب هو المنطق الأفلاطوني السائد ومؤسساته المختلفة ، معتدلة وممانعة ، وما تسببه من هولوكستات نعاني منها يوميا وفي كافة المجالات ، فلا يمكن لمن جعل حياتنا جحيما مستداما إن يهزم هلوكوستا خارجيا لان الأمر ، ببساطة ، إن كلاهما من صنف واحد .

الأدوات السياسية والنقابية العمالية



لقد نشأت التنظيمات السياسية والنقابية العاملة كرد فعل طبيعي اتجاه الاستغلال الرأسمالي البشع الذي تعرضت له . إن فضيلة البرولتاريا ليست نابعة من تمجيد الفقر كما يحلو لبعض التيارات اليسارية التي تتغنى بالمفاليس ترديده ولا من جهة نضريه الإحسان والعطف التي تطرحها الجهات الدينية , إنما تنبع من موقعها في الإنتاج كطبقة غير مستغلة ونافية للمجتمع الطبقي وتفاضل البشر على أساس التقسيم الطبقي . إن فضيلتها الأساسية هي أنها النقيض لعبودية الإنسان للضرورة الاقتصادية وأي ضرورة أخرى تحد من حريته, وما يترتب على ذلك من انقسام الناس. أي نقض سيطرة السياسي على الاجتماعي. لقد نظر إلى الطبقة نظرة صنمية ككائن خرافي سيضرب ضربته على حين غره بحتمية لا تبدو قريبة , وحين لا يتم ذلك , انحاز قسم من هذه القوى لتندرج في حركة البرجوازية الإصلاحية , بينما حاول اتجاه أخر إن ينوب عن الطبقة أو يستخدم طبقات بديلة حيث تنقلب الحتمية إلى ارادوية منفصلة ملقية آثام فشلها في تحقيق الأهداف على أشباح كثيرة حيث تعتبر التجربة الروسية التجربة الرائدة للحركة البرولتارية العالمية . لقد ساد هنالك تياران في الاشتراكية الديمقراطية الروسية : التيار الأول هو تيار المناشفة , وهو تيار يمثل ضيق الأفق الطبقي وانتظار غير ثوري ميكانيكي للحتمية التاريخية . انه نشاط البرولتاريا كطبقة غير متجاوزه للحدود الطبقية باتجاه المجتمع اللاطبقي . إما التيار الثاني فهو البلشفي ونظرته إلى الحزب. لقد كان لينين يريد إن يجعل من الحزب أداة ثورية قوية مؤهلة للتحرك في كافة الظروف انه حزب مؤلف من (( ثوريين محترفين )) متمرسين بكل أساليب العمل , ويحب إن يكون شديد المركزية ومنضبط متهماَ اليساريين الذين انتقدوا هذا الانضباط الصارم وهذا الدور النخبوي للحزب , بأنهم يلتقون مع ألمنشفيك لتجريد الثورة من سلاحها , وان الثوري هو رجل تجرد من أصله لان احترافه الثوري قد استولى عليه تماما . إما المنظمات النقابية فعلى الحزب إن يستخدمها أو ينظمها عند الضرورة , لقد أدى الشكل ألمنشفي للتنظيم الإصلاحي إلى طرح صيغة الحزب البلشفي ذو الطبيعة المنفصلة شبة التآمرية . لقد كان هذا الحزب نتاجا للوضع المعين في روسيا , القمع القيصري الذي لا حدود له ودور أجهزة الأمن الرهيبة في ملاحقة المعارضين , كذلك التخلف الهائل في روسيا اقتصاديا وتقنيا بالنسبة إلى مثيلاتها الأوربيات وبالتالي تخلف الطبقة العاملة وقلة عددها نسبة إلى عدد السكان وشيوع الوعي المشوه لديها . لقد كان الحزب البلشفي الرد الموضوعي على هذه الظروف . بعد نجاح ثورة أكتوبر العظمى وفي ظل الدمار الكبير الذي أصاب روسيا نتيجة للحرب العالمية الأولى والتدخلات الأجنبية والحرب الأهلية ( تعسكر ) الحزب تدريجيا حيث صار ينوب عن الطبقة ويقوم مقامها ويقرر عنها . ( شكلية دور السوفيتيات لصالح الحزب والدولة ) . كما أشيع الإرهاب الفكري والسياسي والتصفيات الجسدية داخل الحزب والمجتمع وتحول الحزب إلى جهاز بيروقراطي يمثل مصالح الطبقة البيروقراطية السائدة وهو ما عبرت عنه المرحلة الستالينية . لقد جرت انتقادات ترقيعية لهذه الظاهرة باعتبارها انحرافا عن اللينينية وأسس التنظيم البلشفي . إن مجمل الظواهر تلك والتي وصلت أوجها في سقوط ما يسمى بالمعسكر الاشتراكي تدل على عقم وقصور هذا التحليل وعدم جذريته بل وطابعه المهلك لحركة الطبقة العاملة ومستقبل الحركة الاشتراكية . إن هذا الانحراف ينبع في جزء منه من المفهوم البلشفي للحزب . لقد وقع هذا الاتجاه في المحصلة النهائية بإعطاء الحزب دورا نخبويا , نيابيا , ارادويا , كنقيض للحتمية الإلية , الانتظارية , للحزب المنشفي . إن تاريخ الحزب البلشفي لا ينفصل عن تأثير الشخصية القوية للينين والتي كانت تمثل - في ظل الظروف الذاتية والموضوعية - أكثر السياسات تمثيلا لمصالح جماهير العمال والمحرومين , لكن الطبيعة الاحترافية النخبوية والمركزية الصارمة قد أنتجت الطاغية ستالين , رغم تحذير لينين للحزب منه , لقد جمع في يده سلطة هائلة بصفته سكرتيرا تنظيميا للحزب وصارت المركزية الديمقراطية وسيلة قيادات الأحزاب الشيوعية لفرض خطها على الكوادر والقاعدة وقمع كل مبادرة لها . إن مسألة تحريك الناس كأنهم دمى وقيادتهم كأنهم قطيع هي في الحقيقة من أساليب الطبقات المستغلة وتياراتها الرجعية التي ترجع حركة التاريخ إلى الإفراد والإبطال والى الخطط الذكية لمجاميع من الناس والى افتراض غباء الجماهير واحتقار دورها في صناعة التاريخ . ومن خلال التجربة الثرية للأحزاب العمالية والحركة الاشتراكية فإنها اتجهت اتجاهين أديا إلى انفصالهما عن الطبقة العاملة والجماهير. اتجاه جعل الحزب ( سوبرمان ) الطبقة , غاية بدلا من كونه وسيلة وأداة ينظر إلى الأشياء من خلال منظاره , ويتنفس كل الإحداث من خلال رئتيه , والاتجاه الذي سار في ذيل الإحداث ممثلا المطالب الدنيا ( المطلبية ) للعمال واستمرأ اللعبة البرجوازية . إن كل مؤسسة سياسية هي تعبير عن نظرة معينة إلى العالم وتجسيد لحقيقتها الاجتماعية , وهذا ما ينطبق على الطبقة العاملة بالذات لاختلاف دورها عن كل الطبقات الاجتماعية السابقة لها. لقد أقامت تلك الطبقات المستغلة أنظمتها محافظة على انقسام ألإنسان واستلاب حريته , منتجة شكل أخر يحافظ على تملك طبقة معينة لوسائل الإنتاج مع حرمان الفئات الأوسع من الجماهير وبذلك كانت في جوهرها ثورات سياسية رغم الإبعاد الاجتماعية لها0 إما بالنسبة إلى ثورة الطبقة البرولتارية فإنها ثورة اجتماعية 0 إن الميل الاشتراكي باعتباره الميل الأكثر تقدما ووعيا للطبقة العاملة وليس منفصلا عنها (( يحقن إليها من الخارج بعد أن يصنع في مختبر الحزب)) أو الطليعة أو النخبة بل هو جزء من الحراك الاجتماعي لهذه الطبقة0 انه التعبير النظري الذي (يكتشف) دينامكية الصراع الاجتماعي باتجاه الارتقاء بالكفاح العمالي إلى المستوى الذي يجعل الطبقة العاملة تدرك دورها ورسالتها التحررية 0 إن ذلك يعني إعادة النظر بكثير من المفاهيم النظرية والتنظيمية والعملية التي أفرزتها المفاهيم المعروفة فبدلا من مفهوم الحزب اللينيني ونسخه المختلفة الذي يقطر الطبقة العاملة وجماهير الكادحين والتحرريين باتجاه الهدف أو الحزب الإصلاحي بنسخه المتعددة الذي يتلاشى في الصراع الاجتماعي على حساب الهدف(الحركة كل شيء والهدف النهائي لاشيء)0 فان التنظيم الاشتراكي وأسلوب قيادته للنضال تختلف عن الأساليب المنفصلة0 انه كالمشعل المغروس في عمق الظلام كلما ازداد توهجه ازداد تبديده للظلام. انه يكتسب توهجه النظري من أتون الصراع الاجتماعي الذي يبلوره بنقلة أرقى ( للوعي ) متجاوزا المستوى الراهن. انه لا يسعى إلى جر الطبقة العاملة وراء سياسته وتحديداته وإنما يسعى إلى الارتقاء بها ومن خلال صراعها إلى مستوى مهامها التاريخية. انه لا يعتبر المنظمات المتعددة للعمال والجماهير واجهات شكلية من واجهاته يقودها ويستخدمها بل على العكس انه يسعى إلى جعلها منظمات حقيقية , مستقلة , تعبر عن جزء من الحركة العامة للبرولتاريا والفئات الواسعة التي تقترب منها من نقابات واتحادات وأي منظمة أخرى من منظمات المجتمع المدني للنساء والفلاحين والشباب والطلبة وغيرها. إن أي حركة تسعى إلى نقض الرأسمالية والتفاضل الطبقي وإقامة مجتمع الحرية والمساواة لا بد إن تجسد في ممارساتها ونظريتها البديل المطلوب. إن إقامة البديل يجب إن تتحقق في النظام الداخلي للحزب الاشتراكي وفي علاقاته بالمجتمع, إن ذلك ليس ضرورة فنية فقط بل هو تدريب وخبرة ضرورية لإقامة السلطة الاشتراكية. ومن جهة أخرى فان البديل الذي تنشاه من خلال ممارساته يقرب الفئات الشعبية التي لها مصلحة في الاشتراكية إلى الاطمئنان والاندماج في مسيرة النضال التحرري بعد إن أشاعت التطبيقات المزورة الرعب في صفوف الفئات المثقفة وشرائح شعبية أخرى أدت إلى العزلة عن جماهير واسعة . إن التناقض بين الإلية الذاتية للتنظيم العمالي وطبيعته كمؤسسة وبين الحركة العامة للعمال والجماهير هو تناقض حقيقي. انه المحور الأساسي الذي يجب النظر إليه باستمرار حيث انه احد المحاور المهمة التي تكرس له البرجوازية الجهد لتخريب حركة الطبقة العاملة . أنها تحاول جعله مؤسسة منفصلة عن الحركة العامة للطبقة العاملة وبالتالي يكون تنظيم لا يمثل العمال في الثورة الاجتماعية . إن من الوسائل المهمة لمنع ذلك هو إدراك التنظيم إن الصراعات الاجتماعية هي صراعات موضوعية ناتجة عن الطبيعة الاستغلالية للاقتصاد الرأسمالي . أي إن الحركة الاحتجاجية هي حركة متنوعة تتخذ إشكال عديدة واعية وغير واعية. إن على التنظيم رصدها بدقه والاشتراك فيها بنشاط ومن خلال ذلك يحاول الميل الاشتراكي قيادة هذه الحركة ليس من خلال إلقاء التعليمات عليها بل من خلال استثمارها وما ينتج عنها من قصور مبين موقف هذا الميل واقتراحاته لمعالجته والتحاور مع العمال المحتجين حول مدى هذه النضالات وبيان المديات الأفضل مع إدراكه انه من غير الممكن إن تكون الطبقة العاملة والجماهير متطابقة مع فكره وإستراتيجيته مادامت السلطة العامة سياسيه. انه لا يطلب من كل عامل محتج إن يكون ماركسيا أو اشتراكيا بل إن كل عامل محتج بهذا الشكل أو ذاك يعتبر ضمن الحركة العامة للطبقة العاملة . إن على الميل الاشتراكي إن يتواجد في أي تجمع مهم للحركة العمالية يحقق جزأ من المصالح الآنية أو الإستراتيجية طارحا بدليه ومتحاورا مع الجماهير وبذلك يمنع من انعزاله وانفصاله عن عموم الحركة الجماهيرية . إن ذلك التماس يجعل تأثير الميل العمالي التحرري اقرب إلى الارتقاء بالحركة وبالتالي عدم ترك الساحة للميول المعادية التي تحاول عزل الميل العمالي وتصويره كشيطان لا يجوز الاقتراب منه . إن الميل العمالي الاشتراكي يناضل من اجل إن تكون التجمعات والمنظمات الجماهيرية منظمات حقيقية مستقلة فاعلة وهو ما ينسجم مع نظريته في إن الثورة الاجتماعية هي حركة اجتماعية وليست ( ثورة ) أحزاب أو نخب معينة. هذه أمور أساسية في حل إشكالية الشكل المؤسساتي للتنظيم وانفصاله عن الحركة العامة للجماهير وفي نفس الوقت يحقق له قيادة هذه الحركة بالشكل الذي يرتقي بها إلى أهدافها . انه يجسد الاختيار الحر والواعي للإنسانية ويؤسس الخبرة اللازمة للحل الاشتراكي , مما يحد من فرص البرجوازية لاحتواء وإسقاط النظام الاشتراكي كما حدث لثورة أكتوبر في الاتحاد السوفيتي . قبل موته بقليل طلب من ماركس إن يجيب عن السؤال التالي : ( ما هي القوانين التي يجب إتباعها والقوانين الواجبة الإلغاء بسرعة سواء على الصعيد السياسي أو في المجال الاقتصادي من اجل تحقيق الاشتراكية إذا توصل الاشتراكيين بوسيلة من الوسائل إلى الحكم ) ؟ أجاب ماركس ( إن السؤال يقع بين الغيوم والجواب الوحيد لا يمكن إن يكون إلا بانتقاد السؤال بالذات وأضاف إن التنسيق العقائدي والمذهل حتما لبرنامج العمل لثورة مقبلة ليس من شانه إلا الانحراف عن المعركة العامة) كما احتج أنجلس ضد ولع الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان في وضع مسائل سياسية عامة وتجريديه في المرتبة الأولى الذي هو إخفاء لمسائل محدده وهي الأكثر إلحاحا تفرض نفسها على جدول الإعمال عن حدوث أول إحداث مهمة وعند أول أزمة سياسية . إن الوسائط السياسية لا يمكن إلغائها في ضل مجتمع سياسي لذا فان الحزب العمالي سيكون ضروريا باعتبارها الميل الأكثر وعيا وتقدما ولكن عمله يختلف عن الصيغة التي كانت سائدة حيث يلقي الحزب سياسته بل بصفته ميل مناضل وليس ميلا يخضع الجماهير لرؤيته الخاصة .

واقع الطبقة العاملة العراقية



التحديات والمهام
في مثل هذه الأيام ، تمر علينا ذكرى عزيزة على قلوب عمال العالم . ذكرى تحمل في ثناياها رائحة البطولة والتحدي والشجاعة والمطالبة بالحقوق من قبل عمال شيكاغو . في الوقت ذاته بينت مدى وحشية وتخادم أصحاب رؤوس الأموال والسلطات الحاكمة في قمع المضربين . ورغم القمع الوحشي للعمال فأن تضحياتهم لم تذهب سدى ، فقد شقوا طريق الحرية وخلدهم إخوانهم جاعلين الأول من أيار عيدا يلهم عمال العالم كل عام ، ويشد من أزرهم مستلهمين منها العبر والدروس .
ومن وحي هذا اليوم الخالد فإن طبقتنا العاملة تستذكر هذه الذكرى في ظل ظروف ومتغيرات معقدة ، واحتدام الصراع في المجتمع لحسم شكل النظام الاقتصادي – الاجتماعي والسياسي وإعادة تشكيل الطبقات الاجتماعية والطبقة السياسية . يجري ذلك في ظل هيمنة خارجية وعلى خلفية نظام دكتاتوري ترك البلد مخربا ومدمرا في بناه المختلفة ، وفريسة للاحتلال أجنبي وتدخلات إقليمية وصراعات دموية ، وفساد مالي وأداري مستشر ، وبكل ما تحمله الفترة الانتقالية من ماس واضطراب ووهن استراتيجي .
لقد دفعت الطبقة العاملة وكافة الكادحين وما تزال الثمن الباهظ لهذه الأوضاع من بين الشرائح الأخرى للمجتمع ، باعتبارها الشريحة الأقل دخلا والأكثر هشاشة اقتصاديا ، إضافة إلى البطالة الواسعة للكثير من أبنائها . لقد أدى ذلك إلى تهميش تمثيلها السياسي في مؤسسات الدولة التمثيلية والتنفيذية ، مستبعدة عن المشاركة في صناعة القرارات على الرغم من كونها الطبقة الأكثر عددا حيث تشكل نسبة كبيرة من السكان . إن ذلك يشكل تفريغا للديمقراطية من محتواها إن لم ينسفها من الأساس .
تأتي هذه الظروف مترافقة مع الأزمة الاقتصادية التي ضربت النظام العالمي الجديد وأقتصاداته ، ومن دون شك فإن الاقتصادات الهشة التابعة ـ والاقتصاد العراقي منها ـ سيكون تأثرها بالغا على المدى القريب والبعيد . بالتأكيد سيكون العمال هم المتأثر الأكبر من هذه الأزمة التي يبدو إنها ستسمر وتتعمق .
إن هذه التحديات تفرض على العمال مهاما كبيرة حيث يجب رص الصفوف والاستعداد لمجابه هذه التحديات الداخلية والخارجية للدفاع عن مصالحهم واقتصاد بلدهم واستقلاله . لا يمكن لهذا الأمر أن يتم إلا بانتظام العمال في نقابات قوية وفاعلة ومستقلة .
أسباب نشوء النقابات العمالية
بينت وتبين لنا التجربة التاريخية لكفاح الطبقة العاملة ، عالميا وعراقيا ، تعرضها المستمر إلى الاستغلال وقمع مطالبها المشروعة بكل الوسائل ، فكانت ردة فعلها لجوئها إلى تنظيم نفسها في نقابات عمالية قادت نضالها محققة مطالب مهنية ومكتسبات إستراتيجية كحق وحرية عمل التنظيم النقابي وأساليب عمله المختلفة ، كالإضراب والمساومة الجماعية والاعتصام والتظاهر ، وبذلك استطاعت أن تقيم التوازن بين الطبقة العاملة ورأس المال والدولة ، وتشريع العديد من القوانين لمصلحتها ، على المستوى الوطني والاممي.
لا يختلف وضع العمال في العراق عن أوضاع بقية عمال العالم ، فقد استطاعوا بكفاحهم الطويل والمرير وتضحياتهم تكوين نقابات عمالية أجبرت السلطة آنذاك على الاعتراف الرسمي بها ، وإن تعرضت علاقاتها بالأنظمة التي حكمت العراق إلى مد وجزر ، وتحكمت بها الظروف السياسية المختلفة ، حيث لم تكف السلطات عن قمعها وتهميشها واختراقها ومحاولة تطويعها سواء باستخدام القوانين أو بفرض قيادات انتهازية ومنتفعة تمثل هذه السلطات أكثر من تمثيلها لعمالها .
بدءا أود الإشارة إلى مسألة جوهرية يجري طمسها بأشكال وأساليب متنوعة إلا وهي تباين واختلاف المصالح الطبقية بل وتصارعها في البلد الواحد . لقد جرى ويجري ذلك تحت عناوين مضللة ، أيدلوجية وسياسية ، سواء في العهود السابقة أو الحالية . إن رفض ذلك يمت بصلة إلى النضرات الشمولية التي تحاول صهر المجتمع في حمم زائفة .
إن المجتمعات الحديثة أو المجتمعات التي تتلمس خطواتها الأولى إلى الحداثة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ، تعترف أو عليها أن تعترف بذلك على جميع المستويات قانونيا وتنظيميا وسياسيا . ولكن لن يتم تحقيق ذلك بدون حركة نقابية واعية ومتينة لجعل ذلك الأمر واقعا معاشا .
كما أسلفنا ، فإن التجربة التاريخية ، عالميا ومحليا ، قد أثبتت إن النقابات العمالية هي التنظيم الأكثر ملائمة لزج أوسع عدد ممكن من العمال للانتظام في جهد موحد لانجاز المهام وإنشاء قوة حقيقية لها وزنها الضاغط لانجاز مصالح جمهرة العمال .
يتطلب انجاز هذا الأمر بتبلور الوعي وبتمحوره حول الموضوعة القائلة بأن الكفاح من أجل المصالح والحقوق لا يأتي هبة أو مكرمة من أحد بقدر تحققه كنتيجة لموازين القوى ، وهذا تنطق به الإحداث في كل زمان ومكان .
في ظل الأوضاع الحالية للطبقة العاملة العراقية نرى الظرف الذاتي لحركتها النقابية يشهد أوضاعا من التشتت والصراعات والوهن ، ويتخلف كثيرا عن مستوى التحديات المختلفة التي يواجهها البلد عموما والعمال والكادحين على الأخص ، على الرغم من الظروف المؤاتية لنشاطها وخصوصا المناخ السياسي الحالي الذي يعترف بالديمقراطية وحرية التنظيم ، مما يحتم علينا طرحه على بساط البحث ومحاولة مقاربة ومعرفة سبل تجاوز هذه المعوقات لبناء نقابات عمالية حقيقية وليست تجمعات هلامية لا تحمل من العمل النقابي إلا أسمه ، وتجعل منه مجرد جباية اشتراكات وإيفادات مجزية .
نظرة في تاريخ العمل النقابي العمالي
لقد تميز عمال العراق بوعي مبكر بأهمية العمل النقابي . فما أن مرت سنوات قليلة على قيام الدولة الحديثة في العراق ، حتى شهد العراق ظهور النقابات منذ سنة 1929م باسم ( جمعية أصحاب الصنائع العراقية ) وفي عام 1936م أجازة الحكومة عددا من النقابات العمالية ولكنها لم تترك لها حرية العمل بل كان نشاطها يجابه بالقمع والقسوة . وقد أستمر العمل النقابي بين مد وجزر فرضته شروط الصراع المختلفة لينتهي به الأمر إلى احتواءه من قبل نظام الحكم السابق بتشديد قبضته على العمل النقابي وهيمنة الحزب الواحد على الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق وتحويله إلى فرع من فروع الحزب .
وفي كل هذه الظروف لم يعدم العمال والنقابيون الوسيلة المناسبة للعمل النقابي مقدمين التضحيات الكبيرة من أجل قضيتهم ، إلا إننا نشهد في ظل الانفتاح السياسي العكس مما هو مطلوب حيث تتغلب الصراعات الغير منطقية على واقع الحركة النقابية لأسباب ذاتية وموضوعية .
طبيعة العمل النقابي
تتبلور طبيعة العمل النقابي ، وبالذات النقابات العمالية ، كونها التعبير التنظيمي عن طبقة أو شريحة معينة بأكملها ، بغض النظر عن انخراطها وانتسابها تنظيميا إلى هذه النقابات ، وبالتالي تعبر عن همومها وإشكالاتها المشتركة . وانطلاقا من هذه الطبيعة فإنها تختلف عن الأحزاب السياسية وأساليب تنظيمها وعملها، ولا يجوز الخلط بين هذا وذاك فأنه يفسد العمل النقابي لذا فأن التعبيرات التنظيمية والثقافية والسياسية والكفاحية لعمل هذه المنظمات يستند إلى مصالح الطبقة العاملة بمجملها .
وكما أسلفنا فأن هناك التباسات كثيرة تعمل على إخفاء الطبيعة الحقيقية للعمل النقابي نتيجة لموقف طبقي يتبناه أرباب العمل وتعبيراتهم السياسية والإيديولوجية والقانونية لسبب تضاد المصالح بينهم وبين الطبقة العاملة حيث يجري باستمرار وبإشكال مختلفة , تغييب حقيقة أن طرفي الإنتاج , العمال وأرباب العمل , على تضاد مستمر حيث يحاول أرباب العمل دائما ألأكل من جرف العمال فيما يتعلق بالأجور وتحسين شروط العمل و المكتسبات العمالية المختلفة التي تقع على عاتق أرباب العمل فيما يقاوم العمال ذلك .
لقد بينا أعلاه الطبيعة المهنية للعمل النقابي ولكن يجب التحذير أيضا من خطر كبير, لا يقل خطورة عن الأول , إلا وهو محاولة إعطاء النقابات طبيعة مهنية صرفة بعزلها عن الميدان السياسي , وهو سلاح آخر معادي لطبيعة العمل النقابي ومحاولة لاحتوائه من الداخل , وهو أمر مجاف للحقيقة وللواقع .
إن هناك الكثير من التضليل في هذه الرؤية , فكما أن ألاقتصاد هو البنية التحتية للسياسة , فإن السياسة هي التي تقرر وتحسم وتنفذ المصالح ألاجتماعية المختلفة , أي أن العمل النقابي والمطالب العمالية ستصطدم حتما بالتشريعات والقوانين النافذة , و ستكون لها بذلك مواقف سياسية وتشريعية وقانونية بما يخص شؤون وشجون العمل , كذلك ستكون لها مواقف سياسية عامة فيما يخص شكل الدولة وسياساتها المختلفة , لتشابك الأشياء وتداخل تأثيراتها على مصالح الطبقة العاملة . الشرط الأساس لنجاح العمل النقابي هو وحدة الطبقة العاملة تنظيميا , أي إن النقابات يجب أن تشمل عمال العراق بغض النظر عن قومياتهم وأديانهم وطوائفهم .

الانتخابات العمالية



كيف ... ولماذا ؟!
قبل أيام قلائل ، وبطريقة الهمس والتكتم أو طريقة ( أقول لك ولا تقول ) ، شاءت الصدف أن أعلم بوجود انتخابات نقابية عمالية لا يعلم بها إلا القلة من السادة المسئولين النقابيين وهم يرتبون أمورهم للفوز المباغت بترتيب البيت من الداخل وتقريب هذا وإبعاد ذلك والاتفاقات الجانبية ليس من اجل تصور معين أو إستراتيجية عمل وإنما لصالح المنافع الشخصية أو الفئوية الضيقة . وكان لزاما علي أن احتفظ بالسر لأن ذلك من لوازم عمل الشلل "الديمقراطية " التي لا تعتاش إلا على المؤامرات وإن كانت بشكل ديمقراطي !
منذ سقوط النظام والحركة النقابية العمالية تعاني من صراعات الشلل ومؤامراتها ، حالها حال مناحي الحياة السياسية والنقابية والمهنية الأخرى ، بإمراضها والمعروفة وهي المصالح والمنافع الشخصية والفئوية الضيقة ، رغم الماسي والخراب والبطالة التي مرت بها الطبقة العاملة بعد احتلال العراق لتثقل كاهلها المثقل أصلا بالدكتاتورية وحروبها والحصار الظالم على الشعب العراقي غير إن هذه الشلل اختلفت وتصارعت على كل شيء فيما اتفقت على كل ما من شأنه الحفاظ على الشللية المقيتة كخط أحمر لا يتجاوزه الجميع .
شاءت الصدف أن اعثر على كنز علي بابا أو آلية الانتخابات العمالية الموجه بكتاب من اللجنة التحضيرية للاتحاد العام لنقابات العمال في العراق ،العدد 66 بتاريخ 16/2/2009 إلى الاتحاد . وهنا التبست علي النقاط التالية :
1 – وجه الكتاب إلى / الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق من قبل اللجنة التحضيرية ولم يذكر فيه الجهة التي أوعزت بتشكيل اللجنة التحضيرية وكيفية تشكيلها وصلاحياتها .
2 – المسمى الذي وجهت اللجنة التحضيرية كتابها إليه لا ينطبق على المسميات النقابية المعروفة حاليا مثل ( الاتحاد العام لعمال العراق ) و ( اتحاد نقابات العمال في العراق ) والعديد من العناوين الأخرى . وقد أوكلت إليه وإلى لجانه ما يلي :
أ – التثقيف من قبل اللجان النقابية حول الانتخابات العمالية / الفقرة 5 .
ب – اعتماد الهوية الصادرة من الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق وهياكله النقابية / الفقرة 2 .
ج – نصت الفقرة العاشرة على احتفاظ أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد العام لنقابات العمال في العراق ... الخ بعضويتهم في مؤتمراتهم النقابية .
إن هناك العديد من الاتحادات النقابية في الساحة العمالية . فأن كان المقصود إن الاتحاد الذي سيتكون بعد إجراء الانتخابات هو المقصود بهذا المسمى فكيف تناط به المهام المذكورة أعلاه قبل الانتخابات التي سيولد من خلالها وإن كان يقصد به مسمى واحد من المسميات النقابية الموجودة حاليا فمن يمتلك الحق في حرمان المسميات الأخرى من حقها الديمقراطي في خوض الانتخابات ؟
تعتمد الآلية في التعريف بالعامل الذي يحق له الانتخاب والترشح على :
1 – الهوية الصادرة عن اللجنة التحضيرية واللجنة المشرفة على الانتخابات وهي مهمة ليست بالسهلة ولم تحدد آلية لذلك وهنا نتساءل هل إن الفترة من 16/2 إلى 1/3 كافية لإجراء الجرد لمواقع العمل علما بأن معظم العمال لا يعلمون بالانتخابات واليتها أصلا ؟
2 – الاعتماد على الهويات الصادرة من مسمى واحد ، إضافة إلى اعتراضنا عليه المذكور أعلاه ، سيعني الإلغاء التعسفي للمسميات الأخرى.
هنالك خرق كبير للديمقراطية في الفقرة عاشرا حيث يمنع كافة أعضاء المكتب التنفيذي وأعضاء الاتحادات العمالية في المحافظات وأعضاء الهيئات الإدارية للنقابات العامة بعضويتهم في المؤتمرات النقابية من دون ممارسة الانتخابات في مراحلها حيث يمثل ذلك فرضا لمن انتهت شرعيتهم على الأعضاء المنتخبين للفترة القادمة . ولماذا يخيرون بين الاحتفاظ بعضويتهم أو الدخول إلى الانتخابات من المرحلة الأولى ، وما هي الحكمة في هذه الازدواجية ؟
لم يوضح الكتاب الموقف من عمال القطاع العام وحقهم في دخول الانتخابات حيث أغفلت اللجنة التحضيرية والاتحاد العمالي المبجلان هذه المسالة وارتضوا بإجراء الانتخابات برجل واحدة حيث لا يهمهم بقاء الواقع العمالي كسيحا بفقدانه الرجل الأخرى للطبقة العاملة ( عمال القطاع العام ) واكتفوا بجعلها عرجاء ما دامت الرجل الواحدة هي التي تحافظ على امتيازات هؤلاء .
إن إجراء الانتخابات بهذا الغموض وبهذه الآليات لا يعني سوى الحفاظ على مصالح الشلل البيروقراطية النقابية على حساب مصالح جماهير العمال وكذلك فأنه يخدم مصالح الطبقات الجديدة المرتبطة باقتصاد العولمة والتي يهمها كثيرا عرقلة وجود أداة نقابية عمالية فاعلة بوجه تحديات الاستغلال المحلي والاستغلال الخارجي الذي سيتكثف بالدخول الواسع للشركات الأجنبية على الاقتصاد العراقي وهو سر احتفاظ السلطة بالقرار (150) وإصرارها على نفاذه .

الطبقة العاملة بين الواقع المر والطموح



تمر علينا هذه الأيام , ذكرى عزيزة على قلوب العمال والكادحين , بل على قلوب كل من أنتما إلى قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والكرامة الإنسانية , في عالمنا واضعا إياها هدفا نبيلا نصب عينيه وبالضد من قوى الوحشية والاستغلال والهيمنة .
في عالمنا اليوم, الرأسمالية المتوحشة , كما هي بالأمس تنثر الدمار وتدمر الشعوب وتشوه البيئة ولكن بوتائر أسرع وبوسائل اشد فتكا موظفة التطور الهائل والمتسارع في العلوم والتكنولوجيا لصالح تعظيم إرباحها وفرض هيمنتها , سواء بشكل مباشر أو غير مباشر . وكل ما تعمقت أزماتها ازدادت وحشية .
يبدو على السطح إنها في أوج هيمنتها وسيطرتها على العالم . إنها تجتاحه كتسونامي مدمر لا يقف بوجهه شيء , خصوصا بعد التراجع الذي تشهده مراكز المقاومة واندراج العديد منها في أمواجه وانخراطها , بشكل أو بأخر , في مشاريعها المختلفة .
هذه الرؤية لا ترى سوى الجزء العائم من جبل الجليد وان الغوص في أعماقه يرينا كم هي البراكين التي تغلي فيها. يجري الحديث كثيرا عن ثورة الجياع المقبلة وعن التمردات الكثيرة التي تتشكل تحت لافتات شتى , كردود فعل غاضبة وعنيفة , قد تكون غير واعية لأسباب بؤسها, وتذكرنا بالردود الأولى الغاضبة للعمال في بواكير الفجر الدامي للرأسمالية , قبل أن يكتسبوا الوعي لينتظموا فيما بعد بحركات نقابية قوية وسياسية مناوئه للرأسمالية .
الحركات المناهضة للعولمة تنشط في قلب العالم الرأسمالي المتطور وكثيرا ما حاصرت الرموز السياسية لقادته وهم يعقدون مؤتمراتهم تحت الحراسة المشددة كأنهم في حالة حرب . حركات السلام التي استطاعت حشد الملايين من البشر في تظاهرات ضخمة مناوئة للحروب . كفاح المدافعين عن البيئة . الإضرابات والفعاليات العمالية عبر العالم . النهوض المتواصل لليسار في أمريكا اللاتينية وأماكن أخرى من العالم وتحديه وتصديه الشجاع للمشاريع الأمريكية .
إن الظرف الموضوعي مهيأ – وان بشكل متفاوت هنا وهناك - لمناهضة الرأسمالية المعولمة , غير إن الخلل يكمن في الظرف الذاتي , الذي لم يتمثل هذه المتغيرات الجديدة تماما. كذلك الإخفاق الواضح للكثير من أساليب التنظير وأشكال التنظيم والنضال لليسار التقليدي , كذلك البطء النسبي لنشؤ وتبلور يسار جديد يستوعب نظريا وعمليا التطورات الجديدة .
على الصعيد المحلي أصيبت الطبقة العاملة بنيويا في الصميم , ففي عهد النظام الدكتاتوري السابق تعرضت الكثير من قياداتها النقابية والسياسية وكذلك نقاباتها إلى مخطط تصفية طويل الأمد . لقد تم تصفية العديد من قياداتها أو أجبرت على الانكفاء والنزول تحت الأرض بدون فاعلية مؤثرة نتيجة لعنف السلطة وفاشيتها اللذان قل نظيرهما, لتلحق هذه النقابات بالسلطة وتتحول إلى فرع من فروع الحزب الواحد . ومن ثم أقدمت السلطة الدكتاتورية على اقتطاع العمود الفقري للطبقة العاملة من الجسم العمالي وفق القرار 151 سيء الصيت بمنحهم صفة موظفين وبالتالي حرمانهم من حقهم في التنظيم النقابي وأفقدت الطبقة العاملة طبيعتها من العمال الصناعيين ( البروليتاريا ) وبذلك أجهزت على إمكانية بلورة المشروع العمالي وحجبت أدواته عن تفعيل الكفاح والنهوض بالحركة السياسية والاجتماعية في مشروع اجتماعي , وطني ديمقراطي , يؤسس لبديل شعبي للدكتاتورية يكفل الحرية والكرامة والعدالة .
لقد قامت الحروب العديدة التي خاضها النظام لتدلي بدلوها في تدمير الوضع الاقتصادي والاجتماعي والخسائر البشرية في الأرواح في عموم كادحي المدن والأرياف وباقي القوى الحية في المجتمع وبذلك ساهمت في إفقاد الشعب قدراته لتشفع الرأسمالية العالمية ذلك بالحصار الجائر على الشعب العراقي من اجل استكمال الإجهاز على ما تبقى لديه من إمكانيات .
لقد ساهمت السياسات المدمرة للدكتاتورية بالتكامل مع فرض الحصار واستخدام القوة المفرطة للتكنولوجية الحربية المتطورة لدول التحالف على تهيئة الأرضية المناسبة لاجتياح العراق بعد أن دمرت بنيته التحتية والفوقية تدميرا شاملا لتفقده المقومات اللازمة لمناهضة المشروع الرأسمالي المعولم .
جاء الاحتلال الأمريكي لحصد ما زرعه , انهيار شبه تام للمجتمع المدني العراقي , أشباح طبقات وبقايا اقتصاد ودولة , ليتم الإجهاز عليهما وإفراغ البلد من كل مقومات الاجتماع وتحويله إلى تجمعات يسهل إعادة تشكيلها بما يخدم مصالح أمريكا وهذا هو جوهر ما أطلق عليه " الفوضى الخلاقة " وحقيقتها السياسية والاقتصادية .
تواجه الطبقة العاملة مخاطر جمة من تطبيقات " الاقتصاد الحر " وتجري إشاعة الأوهام في صفوفها باعتبار هذا النمط من الإنتاج منقذا للبلد وان الاستثمار الأجنبي سيكون بمثابة المن والسلوى الذي سينزل على الشعب العراقي من سماء الشركات الاحتكارية العالمية في واشنطون ولندن وغيرهما حيث يسيل لعاب هذه الشركات لليوم الموعود بهيمنتها على ثروات البلد واستنزافها وإفقار شعبه بعد إن هيئة لها الأرضية المناسبة أدواتها السياسية العالمية - الدول المحتلة وصندوق النقد والبنك الدوليين - وكذلك الشرائح والقوى المحلية المرتبطة بالاقتصاد التابع المندمج في الاقتصاد المعولم . إن المشكلة ليست في الاحتلال العسكري المباشر فقط وإنما في نمط الاقتصاد التابع الذي سيعقبه وهو التحدي الأكبر الحقيقي للطبقة العاملة والشعب العراقي .

• بعد سقوط الدكتاتورية وانهيار مؤسسات الدولة وأجهزتها القمعية وما أحدثه من فراغ في السلطة حدث انفتاح ذو حدين في البلد . رفعت القيود عن كل شيء حرية الرأي وحرية اضطهاده, الديمقراطية وعكسها , حرية التنظيم وحرية المليشيات , استمرار الاحتلال ونقل السيادة ... الخ حرية المتناقضات أنتجت توازن الرعب والفوضى ومن بين ذلك أفرزت بعض الآليات الديمقراطية . وبغض النظر عن اختلاف المواقف والنظرة إلى هذه الديمقراطية فان من مصلحة الطبقة العاملة تجذيرها والكفاح من اجل تحويلها إلى ديمقراطية حقيقة بدمقرطة الحياة في المجتمع والدولة وكشف بطلان وزيف النظرة التي تشيعها القوى الشمولية التي تقف الديمقراطية فيها عند حدود الإلية الانتخابية وسيادة ‘‘الأغلبية’’ , حيث يستبدل التفويض الإلهي بالتفويض الانتخابي مع ضبابية التداخل بينهما , منتجة نظاما دكتاتوريا مبطنا. الديمقراطية غير قابلة للتجزئة ومن يقبل بها عليه أن يقبل بجملتها وكذلك ببعدها الاجتماعي باعتبارها تستند على قيم المواطنة والمساواة . لذا يجب الحذر من أية مبررات توظف للحد من الديمقراطية والحقوق الأساسية للإنسان, فقضية الديمقراطية لم تحسم بعد وخطر نشؤ دكتاتورية سافرة مازال قائما .
• منذ سقوط النظام ودوامة العنف لا تنقطع وتطال المجتمع بشكل وحشي وبطرق وأدوات تستهدف وتؤدي إلى ما يشبه الإبادة الجماعية . ولا يقتصر ذلك على العنف العسكري والمسلح وإنما يشمل مجالات أخرى كالعنف الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والجنسي ... كما انه كثيرا ما يطال البنى التحتية . حيثيات هذا العنف المتنوع تثير الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام المشروعة حول أسبابه وأهدافه ومغزاه ومن يقف وراء الستار لتأجيجه واستثمار نتائجه . ليس المرء بحاجة إلى الكثير من الفطنة لمعرفة من يستفيد منه لكن الواضح والذي لا يقبل الجدل إن المتضرر الأكبر هو الشعب العراقي والبنى التحتية في البلد .
• تعاني الصناعة والزراعة في العراق من الإهمال والشلل ويجري فتح السوق إمام المنتجات والسلع المستوردة الرديئة مما اضعف هذه القطاعات التي تعاني من الضعف أصلا حتى صرنا نستورد كل شيء من المسمار إلى الخيار . إن ذلك يهدد اقتصاد البلد واستقلاله مع ازدهار النشاطات التجارية التي تخلق شرائح من السماسرة والوكلاء ونمط الاقتصاد غير المنتج لتكون قاعدة اجتماعية - سياسية للمشروع الرأسمالي المعولم .
هذا جزء من الواقع المر الذي يعيشه العمال إضافة إلى البطالة الواسعة والإفقار والأمراض والتهميش , فما الذي نطمح إليه ؟ الإجابة على ذلك هو حركات نقابية وسياسية تعي خطورة هذه الإشكالات لتؤسس رؤية وبرامج ووسائل واقعية توحد اليسار والحركة الوطنية الديمقراطية من اجل بناء مجتمع ودولة مدنية حديثة يسودها العدل والمساواة والحرية وتعتمد معيار المواطنة وانجاز الاستقلال الحقيقي . أن تحقيق ذلك يعود في جزء كبير منه إلى نقد العامل الذاتي لذاته فهل يتحقق هذا الطموح ؟



29\نيسان\2008

ديمقراطية القطط السمان



عندما كنت شابا لم يكن هناك شيء أحب ألي من حارة ( حوش قدم ) التي تقع في حي (الغورية ) القديم رغم إنني لم أرها و لكن لما تحمله من معاني . كذلك لأنها احتضنت رموزا انتميت إليها وجدانيا وفكريا. وكان من بين هذه الرموز الشيخ إمام عيسى والشاعر احمد فؤاد نجم .
هناك حبل سري واحد يربط مابين الفقراء والإنسانية المعذبة عبر العالم وان اختلفت ثقافاتهم وأجناسهم وأديانهم . ليس غريبا أو مصادفة أن تحتوي غرفة بسيطة الشيخ إمام حيث يسهر معه الشاعر نجم , والرسام التلقائي محمد علي , والمثال محمود اللبان , مع أعداد من العمال والطلاب والمثقفين كل يوم , تحت صورتين كبيرتين لجيفارا , الثائر الأممي , وأبو علي أياد . كانت سهراتهم ورشة عمل تناقش الهموم المختلفة للناس والوطن والسبل الكفيلة للخلاص .
ثقافة ( حوش قدم ) كانت الثقافة المضادة لثقافة الصالونات والأبراج العاجية ولثقافة القمع والأنقماع بكل أنوعها وألوانها. كما هي أيضا مضادة للثقافة المزيفة للقوى المتعارضة مع النظام. لقد أدركت هذه الثقافة بشكل مبكر جدل الوحدة والتعارض بين هذه القوى كما أدركت بعفويتها وحدة الايدولوجيا السائدة مهما تخالفت وتصارعت عناوينها, لذا شملت بنقدها الجميع : أيدلوجية النظام القوموي وأجهزته وسياساته كما انتقدت البدائل الأخرى بأيدلوجياتها المختلفة التي تحرف المسار الحقيقي للصراع لتعيد إنتاج أنظمة القمع والاستغلال والظلام تحت مسميات ولافتات أخرى . لقد فضحت بجرأة فائقة فشل هذه القوى في كسر حلقة التخلف بل وفضحت تبعيتها واندراجها في المشروع الامبريالي .
لست في صدد كتابة دراسة عن ظاهرة إمام - نجم, إنما أردت أن الجأ إلى الخلفية التاريخية للأحداث التي تشهدها مصر الآن لاستخلاص الخطوط الرئيسية لهذا التحرك ومحاولة استشراف آفاقه , حيث يعاني من حصار شرس وعلى كل المستويات , كما عانت ظاهرة إمام – نجم , حيث تحالفت ضدهما بشكل أو بآخر كل الأطراف المتصارعة لأنها تطال مجمل نظام الاستغلال والقهر والتبعية وهذا ما يحدث الآن بتحرك عمال المحلة الكبرى .
إذا صح إن التاريخ يعيد نفسه فان القوى المتعارضة مع النظام قد تنصلت بحجج متعددة ومضللة منها إن أهداف هذا التحرك غير معروفة أو عدم معرفة القوى التي تقف وراءه وما إلى ذلك, رغم تعارضها وصراعها مع الشريحة الحاكمة من طبقة القطط السمان . إن تحرك عمال جماهير المحلة الكبرى هو الابن الشرعي والامتداد العظيم للتجربة الثرية للكفاح الذي عبرت عنها الظاهرة التي مثلها الشاعر والمغني , وهو مثلها يطال الايدولوجيا السائدة بمجملها من دون استبدالها بايدولوجيا جديدة تعيد قولبة وتسخير التحرك الشعبي الواسع لصالح إعادة إنتاج نظام قمعي جديد له رموزه وزعمائه ومكافحيه الذين سيطالبون بثمن باهض مقابل خدماتهم ‘‘وتضحياتهم ’’ لكي يحولوا الناس إلى عبيد مصفقين لأصنام جديدة .
الشيء الأكثر أهمية إن هذه الأحداث قد وضعت الايدولوجيا النيوليبرالية ومسوخها المحلية - على اختلافها وتضاداتها - على المحك وأبرزت طبيعتها الدكتاتورية والوحشية فكانت هراوات ورصاص نظام القطط السمان الموجهة إلى صدور المضربين والمحتجين لا تختلف عن هراوات التبريرات التي قدمتها القوى المتعارضة مع النظام حيث اختفى جدل التعارض لصالح جدل الوحدة في مواجهة المشروع الكفاحي لعمال المحلة الكبرى حيث قرأت جيدا انه سيطال النظام القمعي برمته .
هذه الكلمات ليست تضامنا مع عمال وشعب مصر فقط ولكنها تضامن مع أنفسنا نحن ضحايا " الفوضى الخلاقة " في العراق كما انه تضامن مع كل ضحايا هذه الفوضى المجرمة في كل مكان .
ما يمكن استشرافه واستخلاصه من هذه الأحداث إن عمال المحلة الكبرى وعمال مصر قد يكون لهم شرف الريادة في صنع التاريخ .

الإشكال اللبناني



لا يذكر لبنان دون أن تتبادر إلى الذهن مفردات عديدة منها الحضارة والجمال والفينيقيون وفيروز وماجدة الرومي وطير الوروار ورئة الوطن العربي . تلك الرئة التي يتنفس منها الهاربون من جحيم دول القمع العربي فيقولون ما يشاؤون دون خوف من ‘‘زوار الليل’’ أو التعرض لحادث سيارة غير بريء أو أية وسيلة مبتكرة للموت لا تخفى على سكان السجن العربي الكبير . باختصار كان لبنان في وجه من الوجوه يعني الحرية .
من ناحية أخرى لبنان بلد ديمقراطية الطوائف المتحاصصة وإقطاع العوائل المتنفذة والتمييز وما أفرزته هذه التركيبة من أمراض داخلية وحرب أهلية ضروس طاحنة تركت الكثير من الضحايا والجراح التي ما أن تكاد أن تندمل حتى يراد لها أن تنكأ من جديد .
المشكل إن النظام العربي قد نقل صراعه وأدواته المتنوعة وخاض صراعاته المسلحة وغير ذلك على ارض لبنان , ناهيك عن التدخل الإقليمي والدولي ليوقعنا في حيص بيص حتى صار من الصعوبة بمكان الفرز والتصنيف .
الإشكال اللبناني معقد حيث أن معظم القوى المتصارعة تمتلك منطقا مقنعا , في بعض ما هو معلن على الأقل , وربما كان هذا سببا للاستقطاب الحاد بين معسكرين وانقسام الشعب اللبناني بينهما .
تطرح الموالاة بسط سلطة الدولة على الجميع والاستقلال وتصفية ما أسمته النظام الأمني السوري . بسط سلطة الدولة والاستقلال شيئان لا جدال فيهما وهما مقومان أساسيان لعنوان الدولة . وتطرح المعارضة رفضها لنظام أفقر وجوع الشعب متهمة الموالاة بالاندراج في مشروع أمريكي إسرائيلي يخطط لضرب المقاومة التي حررت الجنوب وهزمت إسرائيل للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي . ورفض تحكم ما سمي بالأغلبية التي همشت أغلبية الشعب اللبناني وهذا منطق مقنع أيضا .
كما إن في منطق كلا طرفي الصراع شيء خاطئ . لا يمكن لدولة لا تمتلك إمكانية حقيقية للدفاع عن نفسها أن تضعف عنصر قوتها الاستراتيجي وهو المقاومة , وتصر على الاحتفاظ بنظام امتيازات يحفظ مصالح الإقطاع السياسي اللبناني وانفراد وليغارشية بالثروة والسلطة مع إفقار الملايين . كما انه لا يمكن للمعارضة أن تصادر حقوق الآخرين والتصرف بالنيابة عنهم حيث لا يمكن أن تقاد الناس إلى جنة المقاومة رغم انفهم . ادلجة المقاومة وإقامة دولة لها داخل الدولة سيخلق حتما الصراع بين الدولتين . قد تكون دولة المقاومة مبررة لأسباب أمنية ولكنها قد تكون خطرة من الناحية السياسية فتحرث الأرض للقوى الطائفية في الجانب الآخر لتنمو وتزدهر فتعرقن لبنان وبذلك تقضي على كل مقومات الدولة والمجتمع اللبناني فاتحة الباب على مصراعيه أمام التدخل الأجنبي .
الحل من وجهة نظري هو إيجاد التصالح بين منطق الدولة ومنطق المقاومة بإصلاح النظام السياسي الطائفي تمهيدا لالغاءه وبناء دولة مدنية تعتمد معيار المواطنة حيث تتوفر لها في لبنان العديد من المقومات والركائز وبذلك تتحول نقاط الضعف إلى نقاط قوة . ولان هذه الإشكالية هي إشكاليتنا في الوطن العربي أيضا , فأنه قد يعطينا الحق في التعاطي مع الشأن اللبناني ليس من باب الوصاية أو التدخل بل من باب فتح كوة من الضوء في الظلام الدامس الذي يلفنا جميعا.

رحيل المختار



هل نحن مجتمع طارد للثقافة والحضارة ؟

رحل عنا عبد الخالق المختار رحيلا مأساويا . كان واحدا من الكثرة الكاثرة من المبدعين العراقيين على اختلافهم الذين لم تستطع كل منافي العالم ، على سعتها ، احتوائهم . فهم بين منفي في وطنه وهو خائف يترقب ، أو جائع يموت على أرصفة الشوارع ، وبين منفي خارجه ، لا فرق ، حيث يتشظى في منفاه حنينا . وفي الحالتين ، لم يمنعهم شظف العيش والتهميش ، ولا القتل والحصارات المتعددة من الإبداع والعطاء لوطنهم وناسهم .
لا أريد شخصنة الموضوع في المختار ، بل مناقشة الظاهرة رغم إن المختار كان علما في فنه ومحبا لوطنه . لقد كان له من الحضور في أعماله الفنية ما أوحى إلي إنه الأصل ، وإن الشخصية التي يؤديها هي الممثل واترك الحديث عنه أكثر لمن عاشره وعرفه عن قرب .
نفي المختار أو إجباره على نفي نفسه ليس نفيا فرديا وإلا هان الأمر قليلا ، ولطالبنا بمحاسبة المقصرين أشد الحساب . لكنه ظاهرة تمتد إلى أزمنة عميقة في تاريخنا ، وتحتاج إلى رؤية نقدية معمقة وتأسييسه للإجابة على السؤال الخطير : هل نحن مجتمع طارد للثقافة والحضارة ؟
حتى يكون نقدنا جذريا ومؤسسا لحل حقيقي ، علينا أن نخرج من نطاق المماحكات السياسية الضيقة وثقافتها المتحزبة تماما – وهي أحد الأسباب المهمة لعرقلة الوعي بالإشكالية حسب رأيي المتواضع – والمتمثلة بنقد حقبة سياسية معينة لا لشيء سوى إننا من خصومها ، على اعتبار إنما عندنا أفضل ، علينا الخروج إلى أفق أرحب بنقد يأخذ الظاهرة بأبعادها وأزمنتها المختلفة .
هنا نطرح الأسئلة : كم من مبدعينا ومفكرينا وعلمائنا كانت لهم أرصفة الشوارع ملاذا أو الغرف الضيقة البائسة سكنا ؟ كم منهم تألم أو مات لأنه لا يمتلك ما يعالج به نفسه ؟ كم منهم اضطهدوا أو اغتيلوا أو اسكتوا لأنهم جعلوا حرية الإنسان وإنسانيته وكرامته راية لهم ؟ كم منهم طوردوا من منفى إلى منفى ؟ أسئلة لا يحتويها الكم الكبير من المبدعين .
لم يضطهد المعتزلة في زمن الدكتاتورية الذاهبة ولم يتحول أخوان الصفا أو القرامطة إلى جمعية سرية في زمن الاحتلال والديمقراطية . لم ينف ألجواهري ومظفر النواب على يد كافور الإخشيدي ولم يحاول الخليفة العباسي نفي عبد الخالق المختار . ولم يغتال المتنبي بعد أن مل منافيه الكثيرة في عهد عروس الثورات . فالحلاج كان وما زال وسيضل يختفي ويصلب ، والمعري كان ولا يزال رهين المحبسين إنها أزمة الإبداع والمبدعين منذ قرون وما زالت وستستمر إن لم نقم بنقض حقيقي لذلك .
نفي الثقافة والإبداع والاختلاف ومحاصرتهم ما زالت عرف سائد و "ثقافة" عابرة قاهرة لأزمنتنا المختلفة المتعاقبة وذات جذر تاريخي بعيد موغل بالقدم . إن لعن بعضنا لبعض ، نحن مؤيدي حقبة معينة ومبجليها ضد الأخرى المخالفة ، وإلقاء اللوم على بعضنا البعض لا يعني سوى الهرب من جوهر المشكلة والقفز إلى مظاهرها الكاذبة والمسطحة .
صراع الأضداد المتشابهة هذا ليس حلا ومن دون نقد جذري لذواتنا جميعا ولموروثنا التاريخي ولحاضرنا البائس مع اكتشاف علله وأسبابه ومسبباته فسوف نظل ندور في قلب الدوامة، نلوك مصائبنا ونجترها ، دون أن يمنع ذلك من موت المختار مرة أخرى منفيا وهو يصارع المرض . حتما سنكتفي بتشييع مهيب إن تمكنا من ذلك أو سمحت به توازنات أنظمة القهر ، ليس من أجل الفقيد فقط ، بل لأجل أنفسنا وثقافتنا المحاصرة أيضا .

قانون النفط و الغاز وطبيعة الصراع



يتم طرح مسودة قانون النفط والغاز بصيغة توحي بأنه قانون عادي من جملة العديد من مشاريع القوانين التي سيتولى مجلس النواب مناقشتها و أقرارها وكأن دولة القانون والمؤسسات تسود في ظل مجتمع مدني على درجة عالية من الوعي والتطور , وكأن البلد يمر بظروف طبيعية ومستقرة . وأن الاختلاف حول هذا القانون مجرد خلافات حول صياغات قانونية أو توزيع الصلاحيات بين المركز والأقاليم والمحافظات وأموراَ أخرى مشابه .
أن هذا التبسيط المريب , في ظل الظروف المعقدة التي يمر بها الشعب والوطن , الذي يحاول استبعاد الأمور الجوهرية عن دائرة الضوء , ومن ثم اختزال المسألة وحصرها ضمن منطق التسطيح والتبسيط . إن هذا التبسيط ليس سذاجة أو نوايا طيبة من قبل المروجين له بقدر ما هو قنابل دخان لتشويش الرؤية وإخفاء حقيقة وطبيعة هذا الصراع .
بعيداَ عن " السذاجة السياسية " التي ابتدأت من اعتبار الولايات المتحدة في احتلالها للعراق تهدف إلى " تحريره " من الدكتاتورية , وبعيداَ أيضا عن نظرية المؤامرة التي تدعي أن هناك عداوة ما بين أمريكا والأمة العربية أو العداوة بين الغرب "الكافر" والشرق " المؤمن " وما إلى ذلك من الأشياء الغامضة , سنلجأ إلى التحليل السياسي المستند إلى الأمور الحقيقة والواقعية التي تقف وراء التحركات والمواقف السياسية للدول والجماعات حتى لا ندخل في متاهات لا أول لها ولا آخر , وبالتالي نقاتل طواحين الهواء .
أولاً :- أن العراق بلد محتل من الناحية الواقعية , بغض النظر عن التوصيفات السياسية , كانتقال السيادة وما إلى ذلك , أذا تفتقد كل هذه التوصيفات والقرارات لمعناها وتعطينا رضاً سياسياً , بأننا أصحاب سيادة وقرار , في حين أن العناصر الواقعية غير المتوفرة لهذه السيادة تجعل القرار الحقيقي في يد القوى المحتلة التي تمتلك الأدوات المادية للتأثير من وجود عسكري ضخم ونفوذ سياسي واقتصادي هائل .
ثانياً :- أن الولايات المتحدة الأمريكية , التي تقود الاحتلال , هي دولة تحاول الهيمنة على العالم بأسره وفق إستراتيجية كونية , لا يمثل فيها العراق سوى هدف مهم من بين الكثير من الأهداف في هذه الإستراتيجية الشاملة , لذا فأن أمريكا ستعيد تشكيل الأوضاع في العراق بما يخدم إستراتيجيتها مما يجعل من أي تعارض بين المصلحة الوطنية العراقية والإستراتيجية الأمريكية في موقع الضعف لنا ولخططنا وبالتالي التفريط بالمصلحة الوطنية لصالح دولة الاحتلال المهيمنة مهما كانت النوايا لدى الحكومة العراقية .
ثالثاً:- أذا نظرنا إلى القوى المهيمنة والفاعلة في الإدارة الأمريكية فسنجد أن لممثلي الشركات الاحتكارية النفطية النفوذ الأكبر على أعلى المستويات في مركز صنع القرار الأمريكي , وقد يوضح لنا هذا الأمر سبب الإصرار والضغط القوي من أجل تمرير قانون النفط والغاز في البرلمان العراقي , وبالتالي فأن هذا القانون يمثل مصالح الاحتكارات النفطية الأمريكية ولا يمثل حاجة مستعجلة أو مصلحة وطنية عراقية .
لكل ما تقدم نرى أن جوهر الصراع بين معارضي ومؤيدي هذا القانون هو صراع سياسي ذو بعد وطني و اجتماعي. بين رؤية تريد أن تفتح الباب على مصراعيه أمام الاستثمار الأجنبي المفتوح لصالح طبقة أو شرائح اجتماعية محلية تحت بند مشاركة الرأسمال المحلي " القطاع الخاص العراقي " وبيروقراطية تحدد ملامحها الرواتب الضخمة " للمستشارين " وتعدد الهيئات النفطية كالمجلس الاتحادي ومجالس الأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط والغاز , ويمكننا تصور حجم هذه الطبقة وخطورتها سياسياً واقتصاديا في ظل الفساد السياسي والمالي والإداري المستشريين في البلد , وبذا ترتبط مصالح هذه الطبقة أو الشرائح الطفيلية بمصالح الشركات الاحتكارية . وبين رؤية تريد أن تكون الدولة العراقية هي المهيمنة على الثروة النفطية استخراجا وإنتاجا وتسويقا وتصنيعا مع الاستفادة عند الضرورة من الرأسمال والخبرة الأجنبية ضمن سياق هذه الهيمنة. يجد هذا الصراع تعبيره القانوني في الصراع بين صيغة عقود المشاركة , التي تطرحها الرؤية الأولى , التي هي أعادة أنتاج لعقود منح الامتياز وبين صيغة عقود الخدمة الفنية كعقود الخدمة مع المجازفة وعقود شراء المباع وما يشابه ذلك , وهي الرؤية التي تنسجم مع المصالح العامة لأوسع شرائح وطبقات المجتمع العراقي .
وحتى نأخذ تطورات عصرنا علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار أن السيطرة على ثروتنا النفطية في ظل نظام حكم دكتاتوري استبدادي , لا تقل خطورة عن بيع ثروتنا إلى الاحتكارات الأجنبية, وهذا ما أفرزه وبينه لنا واقع الحال للنظام الدكتاتوري السابق الذي يتحمل مسؤولية كبيرة في إيصال البلد إلى الحالة الراهنة , وأيضا لا تستطيع السلطة الحالية ببنيتها ذات الصيغة الطوائفية و المتحاصصة والتي ستخضع , بغض النظر عن النوايا , إلى الخضوع أو الإخضاع لاشتراطات القوى المحتلة بحكم الخلل الهائل في ميزان القوى بين الطرفين . الحل يستلزم وجود دولة ديمقراطية حقيقية ذات بعد اجتماعي وقوى حية تعبر عن واقع هذه الدولة واضعة هذه الثروات في خدمة الشعب وتطوره ونمائه .
أما الجنة الموعودة التي يعدوننا بها في ظل هيمنة الاحتكارات الأجنبية فهي سراب قد جربه الشعب العراقي في العهد الملكي , كما جربته الشعوب التي مرت بحالات مشابه..... أنها جنة وهمية بحكم الوقائع والتجربة التاريخية .

المختصر المفيد في شرح قانون )النفط و الغاز الجديد(



من: حكايات المواطن هلكان العراقي

حدثنا المواطن هلكان بن تعبان العريان العراقي , عن أبائه عن أجداده , بعد أن زكاهم علماء الجرح والتعديل في علم الرجال قائلا : قد أن ألأوان لكشف أسرار ماسلف من الزمان , فرفع الغطاء قدحان, بعد ولوحنا (( عصر الشفافية والديمقراطية )) مما أدى إلى ارتفاع أسعار ( الجام ) أي الزجاج , ودخولنا في متاهات القرية الكونية , التي أنهت عصر الأسرار لتدخلنا في عصر الفضائح المعولمة فضائيا , وتيمنا بالديمقراطية البريطانية العريقة بكشفها الأسرار بعد مرور خمسين عاما عليها بعد أن تكون قد ( باخت ) وصارت عديمة الضرر أو الفائدة .
السر الأول: أن معنى أرض السواد الذي أطلق على بلاد الرافدين والذي نسب إلى كثرة وكثافة اللون الأخضر على هذه الأرض, هو في الحقيقة خدعة وتكتيك أبتكرها أجدادنا لإبقاء الحقيقة سرا على الطامعين , وتحويل أنظارهم إلى شيء أخر , وأن الحقيقة تكمن في كون العراق عبارة عن سفينة تطفو على بحيرة كبيرة من النفط ولكون لون النفط شديد السواد لذا سميت بأرض السواد . أن أسلافنا البعيدين من سكان الكهوف والغابات والبطائح , قد تركوا النفط في باطن ألأرض ولم يستخرجوه ويوزعوه على الشعب لافتقارهم إلى الصفائح ( التنكات ) اللازمة والكافية , وكذلك لانعدام أو عدم صلاحية ماهو موجود من البنية التحتية من الطرق والجسور التي تحتاج إلى القار أو القير , والقار من النفط والنفط في باطن ألأرض ولا نستطيع استخراجه وهذه مشكلة كالدائرة المغلقة ليس لها أول ولا آخر وليس منها مخرج ( أن إشكالية البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة , هي براءة اختراع عراقية خالصة وليست أوربية كما يدعون . لنأخذ مثالا على ذلك . سؤال إلى وزارة الكهرباء : لماذا توجد شحة في الكهرباء برأيكم ؟ الجواب السبب وزارة النفط لأنها لا تمدنا بالغاز أللازم لتشغيل محطات الكهرباء سؤال إلى وزارة النفط : لماذا لا يوجد غاز ؟ الجواب السبب وزارة الكهرباء حيث لا توجد كهرباء كافية لإنتاج الغاز . ملاحظة أضافية يعتبر العراق الدولة الأولى في العالم التي تكثر من استعمال كلمة سوف ومشتقاتها وبذلك حاز مسئوليه على تشرفهم بدخول موسوعة جينز للأرقام القياسية لإدخالهم الطرق التسويفية في علم السياسة التكتيكية . ) نعود إلى حكاية المواطن هلكان وأسراره يقول: لقد اقترحت شركات النفط الاحتكارية , الكائنة آنذاك في بلاد جزر الواق واق وبلاد ماوراء بحر الظلمات , على سكان أرض السواد استخراج وتسويق النفط بطريقة عقود المشاركة وتسمى أيضا بطريقة (أنهب و أضرب ) ولكن عقلاء أرض السواد أو ما بين النهرين استندوا إلى الحكمة القديمة ( ماحك جلدك غير ضفرك , وما حافظ على نفطك أحد غيرك ) والى التجربة الشعبية التي تتلخص في ( لاتسلط الغريب على مالك فيطمع فيك وينهبك ) المستندة إلى أغنية ( الباگ نفطك أمس حتما يبوگة اليوم , لاتنخدع يا شعب البومة نفس البوم ) للمطرب الشعبي سلمان المنهوب, لذلك فظلوا أن يبقى النفط في باطن الأرض ولا يستحوذ على خيراته الأجنبي . ومنذ ذلك الوقت والنفط السبب الرئيسي في مصائبنا, وكما قال الشاعر الشعبي صباح الهلالي ( كلب أبن كلب النفط ). وهو أصل الإجابة على سؤال : كيف حالك ؟ لتأتيك الإجابة ( حالي حال الزفت ) والزفت من النفط . وعندما نطلب من أحد أن يقوم بعمل فيه مخاطرة فسوف يجيب مستنكرا ( قابل أنه شارب نفط ) وعندما تسأل أحد عن استفادته من شيء ما فسيجيبك (ماحصلت لا قير ولا بسامير ) و أن استخدام اللون ألأسود في التعبير عن الحزن هو ابتكار عراقي فالقتل الذريع الذي تعرض ويتعرض له الشعب العراقي سببه النفط , مما جعلهم يربطون لون الملابس الأسود بلون النفط الأسود كرمز لارتباط أحزانهم به , وهناك العديد من الشواهد التي تدل على مدى ارتباط النفط بحياة العراقيين . وكما قال الأستاذ نبيل جعفر عبد الرضا (النفط كما الدم يجري في عروق العراقيين. والنفط مستقر دائما في عقل وضمير العراقيين . )
يستأنف المواطن هلكان حكايته : ومنذ ذلك الوقت والعراقيون يراقبون النفط ويحافظون عليه أكثر من حدقات عيونهم إلى أن جاء الجنرال البريطاني مود (( محرر )) العراق في الاحتلال الأول ليستخرج النفط من باطن الأرض , خوفاً عليه من التعفن والتحلل , لاعباً به ( شاطي باطي ) مالئاً من عائداته المنهوبة خزائن شركات النفط البريطانية وخزائن مستر 5% , ولكن للأمانة التاريخية فأنه رمى لنا ما فضل من هذه الأموال لأجل أعادة أعمار العراق , لوجه الله , ولكن المرحوم عبد الكريم قاسم لم يهن عليه النفط بعد أن سمع الفقراء ينشدون ( ومن هان النفط عليه هانت عليه نفسه ) فأصدر قانون رقم (80) رامياً بأبناء الجنرال مود إلى خارج النفط وحقوله . وأليك السر الثاني لقد عاقبوا الزعيم قاسم على تجرئه على الشركات لتقتله ((عروس الثورات )) وأن ما أسقط الزعيم ليس إصداره لقانون ألأحوال الشخصية , ولا رفضه للوحدة العربية الفورية , وإنما لضربه مصالح الشركات الاحتكارية النفطية .
قال المواطن هلكان : أن هذا العرض يشكل الخلفية التاريخية ,
كما يقول الباحثون الذين يبحثون عن أل .... ومن خلفه , لحقيقة ودوافع وأسباب مشروع قانون النفط والغاز الجديد و حتى تعرف أسرار الجديد , عليك بشبيهه من القديم الذي كشفت أسراره ففيه العبرة لمن أعتبر أن كان هناك من يعتبر . أخذ المواطن هلكان نفساَ عميقاَ من لفافته بعد أن أصلحها و قال : أليك السر الثالث أن الأناشيد الوطنية المختلفة في العصور الملكية والجمهو- ملكية حيث يورث رؤساء الجمهوريات والأحزاب المنصب لأولادهم وأقاربهم , هي أيضا خدعة وتكتيك وأن النشيد الوطني الحقيقي الذي نردده سراَ من جيل إلى جيل هو
ألا كل شيء ماعدا النفط باطلا
وكل ثمين في فداه رخيصا
قررت أن أستفز المواطن هلكان قائلا : ولكن دكتاتورية الثورة البيضاء سليلة عروس الثورات قد أممت النفط . سكت قليلاَ في لحظة تأمل ليجيب : لقد قيل عنا نحن العراقيون أننا (نقرأ الممحي ) و أني لأعجب منكم يا أبناء هذا الجيل أذا أنكم تقرؤون المكتوب بصعوبة ألان : قلت له كيف يا عم قال : التأميم مثل السكين قد تستخدمه للقتل أو تستخدمه فيما ينفع الناس , ولا ذنب للسكين . فإذا كانت قد أمنت لغاية في نفس يعقوب ولأغراض سياسية كثيرة الذنوب , وبهدف الأمجاد الشخصية وإشعال الحروب, فالذنب ليس ذنب التأميم . ولو لم يعالجوهم لأعادوا الأمور ماكانت عليه بعد الانتقال إلى الخصخصة وبيع ما في العراق إلى الأقارب والأزلام .
أذهلتني حكمة العم هلكان وأدركت أنه السهل الممتنع , وأنه كأبيات الدارمي و ألأبوذية قليلة الكلام عميقة المعاني . وعندما سألته عن القانون الجديد أجاب : أمر مريب دبر بليل والدليل أنهم جعلوه ( مغيطيطة ) ولغز من الألغاز أو مثل ما يقول أجدادنا (ظلمه ودليله الله) حتى كثر فيه القيل والقال و داخت فيه وفي ملاحقه المكتوبة أو غير المكتوبة والله أعلم , العجائز والأطفال وأن الأشياء بطبائعها وفاقد الشيء لا يعطيه حتى وأن كان في زمن العولمة و (الواوي) نفس (الواوي) وأن تعولم , أنه الثعلب القديم ذاته .
أخذ نفساَ طويلاَ من لفافته وتأوف قائلا
ﮔضيت العمر بس أجرح وداوي
وصار ألون ألي ســــلوه وداوي
ناس النفط ســـــــــــمنها وداوي
الفگر من صار أوله وأخريه
إلى هنا سكت المواطن هلكان عن الكلام المباح , إلى أن يبزغ على الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح .

هامش
المواطن هلكان هو النموذج للأغلبية الساحقة من العراقيين المهمشين والمحرومين منذ أن وجدوا .

2010/10/19

قصة قصيرة __ رسالة من المعتقل




( حبيبتي :
وحيد مع الذكريات ، أيام الفرح الأول ، لكن قلبي التعب ما يزال يرقد في حضنك الدافئ ، يا صلاتي اليومية . إن روحي تسافر عبر الطريق اللامتناهي إلى أعماقك الدافئة فأنا في اغترابي عنك كما طير يهاجر عبر المحيطات بأجنحة أثقلها الحزن السرمدي . )
تاه في بحر متلاطم من الذكريات ، بعد أن أكمل عبارته وامتدت ذاكرته إلى ذلك الزمن الجميل ، زمن الصبا . كانت صبية عندما التقاها في بيت قريبة له .
- من هذه الحورية ؟
ابتسمت قريبته وإجابته إجابة ماكرة
- إنها ابنة عمتي الصغيرة .. ألا تذكر جميلة ؟
دهش كثيرا ، فقد تركها ، لسنوات قلائل خلت طفلة تلعب مع تريباتها في الشارع لعبة البنات المفضلة ( التوكي ) أو ( المحلقوه ) كما تسمى في بعض الأماكن . تقفز على المربعات بقدم واحدة قائلة : ( كبي ) فتاتي الإجابة ( نو ) . نظر بشغف إلى وجهها المستدير وقد ارتسم تحت انفها الدقيق فم منفرج تخيله حبة تين قد انفرجت لفرط حلاوتها .. ياله من سحر يجمع ما بين براءة الطفولة وعبق الأنوثة في آن واحد همس لنفسه ، يبدوا أنها قد نضجت قبل أوانها . اكتسى وجهها بحمرة خجل اختبأت باستحياء تحت بشرة وجنتيها الحنطيتين غادر بيت قريبته وهو يغني
عيني يبو خد وخد شوكك أبكلبي ورد
ياعيني العشق لولاح ...
مرت سنة واحدة عندما التقاها مرة أخرى . لقد اختفت الصبية لتحل محلها أنثى طاغية الأنوثة وقد اختلط عطر أنوثتها مع عطر وردة ألجوري الحمراء المعلقة على الجانب الأيسر من صدرها الممتلئ . امسك بيديها بجرأة وبدون مقدمات .
- جملية ، احبك أيتها الفاتنة .
لم يفهم سر القسوة والهمجية التي يتعامل بها الجلادون مع المعتقلين . نظر إلى وجوههم الواحد تلو الآخر ولم يتعرف على احد منهم . لا شك إنهم لا يعرفوني أيضا ولكن لماذا يتصرفون معنا بشكل ثأري كأننا قتلنا أمهاتهم ؟
( في عينيك يكمن سر روحي ، لذا ازرعيني في حقلك شجيرة ورد احمر أو شجرة سيسبان وارفة لتظلك في صيف قائض ... )
توالت صفعات المحققين وركلاتهم فيما استخدم بعضهم عصى كهربائية فأجتاح جسده الم لا يطاق . شرع بحالة ماسة لاحتضانها لم يعرفها من قبل . تذكر عندما احتضنها لأؤل مرة حجم ألأحاسيس اللذيذة التي اكتنفته فسمت روحه على الآلام التي سببها التعذيب .
( عندما نسير في طريق ساطع كالنور ، في زمن رمادي ، قد نزرعه بأشلائنا المتناثرة ، فأنا من دونك كما رصيف قد هجرته السفن ، أو كعيون فقدت القها لذا لا تنئين . )
أمسك بشعره الغزير المنسدل على جبهته ، وقد تلطخ بالدماء ، ليبعده عن عينيه المتورمتين . صرخ بوجه مسئول المفرزة ، رأس العرفاء ( هتلر )
- لا يحق لكم ذلك . إنكم تقمعون حريتي .
رد عليه هتلر ، كما لقبه الشباب وصلعته الشوهاء تتصبب عرقا
- اتراددني ولك ... خذوه .
لم ينسى ثأره بعد سخرية الشباب منه أثناء محاصرتهم له مع أفراد مفرزته
- ماذا نفعل لنتخلص منه ؟
- فلندخل إلى محل الحلاقة هذا .
وقف هتلر شاهرا مقصه بوجوههم بعد أن سد عليهم باب المحل
- أين تذهبون الآن ؟ لماذا تطيلون شعركم وتعصون أوامر الدولة رد عليه ساخرا
- وهل نحن هنا لشراء المرطبات ؟ ما يفعل الناس في محل للحلاقة ؟
نظر إليه طويلا في حيرة من أمره .
- والله إذا ما حلقتم ... ثم اخذ يطقطق بمقصه في إشارة ذات مغزى .
- صار عريفي .
- ولك أنت أعمى .. ما أتشوف أربع خيوط ؟
أشار إلى رتبته بعد أن انتفخ كديك رومي .
اعتذروا من الحلاق ، بعد أن شرحوا له المأزق الذي اضطرهم لاقتحام محله ضحك ملئ شدقيه لحيلتهم الطريفة المبتكرة .
- ولا يهمكم شباب . ما أحسن ما فعلتم .
********
- إنهم يحاولون ترويضنا وإذا ما سمحنا لهم بالتدخل في خصوصيتنا فإنهم سينمطون عقولنا ويحولننا إلى قطيع . قال ذلك لمنتقديه الذين طلبوا منه الابتعاد عن نزوات الشباب .
- إذا ما أهدرت كرامتنا واستبيحت خصوصيتنا فيستبيحون كل شيء .
( أتذكرين عندما كنا عصفورين بريين كم كسرنا من الأقفاص . وطننا وطن الأقفاص ولكنه وطن العشاق أيضا . أتذكرين عندما امسكونا بالجرم المشهود ونحن نغني
عراقي هواي وميزة فينا الهوى خبل
فقلنا لهم أنه النشيد الاممي للعصافير البرية فتركناهم لنظراتهم البلهاء وانطلقنا ! )
كثيرا ما حاول ثنيها عن الارتباط به ، وإنها لن تجد معه الحياة المستقرة .
- أنا رجل اكره الصمت ، في بلد يكره الصوت الآخر ويخرسه بكل الوسائل .
- لهذا أحببتك ، فلا تتراجع عن شيء تؤمن به تحت أي ظرف .
ليس بمقدور إنسان تحمل هذا الكم الهائل من الوحشية والتعذيب ولكنهم لم يدركوا
سر ابتسامته فنال اكبر قسط من التعذيب .
( عانقيني كيما استرجع أنفاسي الملتهبة متندية برضابك . اذرفي دموعك الساخنة لاطهر بها جراحاتي فأولد من جديد بروح ملئوها الصفاء . )
لم يكن نومه مستقرا فقد اجتاحت جسده الآم لا تطاق . أفاق من نومه فلم يجد سوى الجدران المعتمة الملطخة بالدماء ورفاقه يئنون من فرط الألم وهم نيام . أخرج أوراقه المخبئة بعناية واسترسل في كتابة رسالته .
( حبيبتي
أتذكرين شجرة السيسبان المعمرة التي كنا نجلس تحت ظلها وزقزقة العصافير تشنف أسماعنا ؟ هنا في المعتقل الأمر يختلف تماما فقد ظللتنا جدران المعتقل العفنة ، وعوضا عن زقزقة العصافير لم نسمع سوى أصوات السياط والشتائم . إنهم يكرهون الأشجار والعصافير ... )
تناهى إلى سمعه وقع أقدام ثقليه في الرواق تقترب تدريجيا من الزنزانة . ختم رسالته بعجالة ( قد لا أتمكن من إرسال رسالتي إليك فنحن في بلد فيه الحب خيانة عظمى . وداعا ) سارع إلى إخفاء رسالته ، كما يخفي منشورا سريا ، فيما اقتاده السجان إلى جلسة تحقيق جديدة .

قصة قصيرة __ الرحيل



بين الفينة والأخرى نودع مبدعا . كثير ما يحرص صديقي الشاعر على حضور مراسم التشييع والدفن المهيبة للراحلين من مبدعينا الذين يسقطون غالبا إما على مشارح المنافي ، أو يموتون بحوادث غامضة تقيد دائما ضد مجهول ، أو جوعا على أرصفة شوارع الوطن . كنا في زمن قيل إنه انتهى نتناقل بهمس ، كأننا نتناقل منشورا سريا ، خبر رحيل أحدهم ومعاناته بعد ان تتناقلها أجهزة المذياع الذي تبتلع أغلب موجاته العاملة ، موجات أجهزة التشويش الموجه باستمرار عليها . أما الآن فإننا نطلع على التفاصيل الدقيقة لمعاناتهم حيث تعرض الفضائيات تلك المعاناة كما تعرض بضاعة كاسدة . فهي تعرض هذه القمم الشاهقة في لحظات ألمها وهي بائسة أو في النزع الأخير ... قال صديقي الشاعر باستهجان وغضب
- القمم لا تقبل الشفقة ( والأشجار لا تموت إلا واقفة ) وإن انحنت قليلا أمام الرياح العاتية ... إني أفضل رؤيتهم كشيخ همنغواي وليس كسمكته .
كعادتنا في الاهتمام بماسينا بعد حدوثها ، نحرص على دفن مبدعينا بشكل لائق ولا بأس بحضور عدد من كبار المسؤولين والمبدعين للسير خلف الجنازة بوقار رسمي وإلقاء كلمات التأبين المؤثرة ... وبعد إلقاء الكلمات الوداعية وإيداع الفقيد الثرى ، يذهب كل منا إلى شأنه بانتظار رحيل مبدع آخر .
حاورت الشاعر عن سر مواظبته على حضور تشييع كل من يرحل فاطرق مليا ، وكأنني فاجئته، ثم أجاب :
- لا أدري ... ربما كنت أشيع نفسي .
تأوه قليلا ثم إنسابت كلماته المحتقنة بقلقه
أي هدوء صاخب هذا القلق الأزلي في انتظار الذي لا يأتي
ها قد أعددت مركبي ... سأبحر في بحرك غير عابئ بشيء
الدفة المفقودة والشراع المتشظي قد لا يقوداني إلى مرسى
تائه أنا أيه الزمن التائه في الذرات اللامتناهية
ولكن مع ثقتي إنك مثلي لن تصل إلى ميناء ...
لكنني سأضع يدي بيدك لنبحر باتجاه المجهول
ما هي إلا أيام حتى رحل صديقي الشاعر مع حياة ولم يودعني لكنه ترك لي قصاصة ورق دون عليها ...
أتضامن معكم يا أصدقائي المتسكعين على أرصفة الزمن
إن عذاباتكم هي عذاباتي ... وإن جذور قلقكم هي جذور قلقي
ولكي لا ننسى سنذبح أفكارنا معا لتختلط مبهجة الأزهار البرية
اعتذرت له بأن مبدعينا كثيرا ما يرحلون فجأة بلا وداع . كانت حياة صبية جميلة فارعة ، جميلة المكورات ودقيقتهما ، كثيرا ما قال لي إن مشيتها وانثناءات جسدها موسيقى . طلب منها أن يختلسا لحظات من الزمن .
- تعالي لنطلق على هذا العالم البائس إطلاقة رحمة واحدة . لنخترق كل الحواجز ونبصق على كل الكلمات المنمقة ... النفاق المغلف بالفضيلة.
مرت فترة من الزمن لنسمع خبرا موجزا عن جثتين ألقت بهما مياه البحر إلى احد السواحل المنسية لشاعر وحبيبته ، لم يعرف وطنهما ، وقد دفنا في قبر واحد على الساحل .
تبرع الكثيرون بطائرة خاصة لنقل جثمانيهما الطاهرين ليشيعا ويدفنا في أرض الوطن وقد لبس الجميع الوجوه الرسمية الحزينة التي تليق بالحدث الجلل ، كما أعدت كلمات الرثاء والدموع اللازمة للبكاء على الفقيدين ... رفضت ذلك بصفتي صديقه ومنفذ وصيته محتجا ... لقد شيع الشاعر نفسه.

قصة قصيرة __ أكواخ وأفاع




كانت حركة المجداف تبقر بطن مياه الهور الرخوة برقة وتصميم . تندفع المياه إلى الخلف فيما ينطلق (المشحوف) إلى الإمام في حركة مموسقة زاد في جماليتها الامتداد الشاسع لسطح المياه الهادئة والسكون الجميل الذي تقطعه ، بين الفينة والأخرى ، الطيور البرية المهاجرة التي عادت إلى الهور مع عودة المياه تدريجيا إليه .
- أيتها الطيور الجميلة العائدة .. أأصوات فرح أم أصوات فزع ما تطلقينه ؟
أرعب (أبو كريمه) وأقلقه كثيرا عدم فهم لمغزى أصوات الطيور . لقد عاش منذ ولادته في أحضان الهور . كثيرا ما أكد لنا إن عائلته والهور تؤمان لذا فأنه يعرفه بكل ما فيه . قال ضاحكا : أنا خبير في شؤون الهور .
لم يخفي علينا سرا في إنه أقتبس هذا اللقب من الثقافة السائدة ألان حيث تكاثر عندنا الخبراء في كل شيء كما يتكاثر الفطر السام .. عقب على نظراتنا المتسائلة ضاحكا .. أنا خبير حقيقي (بلادي) ولست تقليدا .
كان من غير المألوف بالنسبة له ، بل كان أقرب إلى الكارثة ، أن لا يفقه مغزى أصوات الطيور .. قال بأسى :
- لقد تغيرت الأمور كثيرا منذ إعدام الهور .
لا يستطيع أحد أن يجادله عن فهمه لتجفيف الاهوار . بل ربما إنك ستغضبه كثيرا إن لم توافقه الرأي .
- أقول لكم إنهم قد أعدموه .. قال ذلك بغضب عندما مازحناه قليلا
- (أبو كريمه) .. ليس للهور روحا حتى يزهقها الجلاد .
أعترض على ثقافتنا المسطحة ، حسب تعبيره ، قائلا :
- ألم تروا السمك وهو يتلوى من الألم ، عندما غادرته المياه ، بعد أن قطعوا كل شرايين الهور ؟ ألم تشاهدوا الأرض وهي تحتضر بعد أن أمتلئت بالأخاديد العطشى ؟
استنتج بألم : يالها من رقصة غريبة رقصة الموت هذه .. تذكر القفزات المتألمة لثوار هور (الغموﮔـة) عندما انهمر الرصاص والقذائف عليهم من كل مكان بعد أن حوصروا .. تذكر وتذكر سيل الدماء الذي ما زال جاريا .. اختنقت صرخته من الألم فتلاشت في ثنايا صدره .. يالها من مجازر .. هل كتب علينا أن نكون بلد الموت الدامي المستديم ؟!
أفاقه اصطدام (المشحوف) بقصب البردي ؟ الذي اخذ ينمو هنا وهناك على استحياء في المياه القليلة الغور ، مدركا إنه قد وصل إلى حافات المياه حيث تتناثر الأكواخ البائسة هنا وهناك .
أثار انتباهه هروب السكان الذين ميزتهم أسمالهم البالية بعيدا عن الأكواخ وملامح الرعب تفترس وجوههم .
- لقد هاجمتنا المئات من الأفاعي القاتلة التي لم نرها من قبل .. قال ذلك اقرب الهاربين أليه وهو يحثه على الهرب .
نظر (أبو كريمه) شزرا إلى الهور ..
- أنت لست الهور الذي أعرفه . الهور لا يفترس أبنائه .
أمسك بمجداف القارب بكلتا يديه بعزم وبأس ضاربا الأفاعي بكل ما أوتي من قوة وفي كل الاتجاهات .

قصة قصيرة __ إسماعيل




مرت عقود عجاف على رحيله . لم أكن أتصور إنه سيكون مجرد ذكريات نظرا للحيوية الفائقة والحضور الذين تميز بهما . في الحقيقة ، لم يكن هذا رأيي فقط وإنما رأي أغلب معارفنا . كان يمتلك مرحا وخبثا طفوليا محببا ، في الوقت الذي أميل فيه إلى نوع من الجدية ، وقد أثار هذا التناقض في الطبائع بيني وبينه بعض الجفاء والزعل ، فقد كنت حديا مع من ينتهك بعض الحدود والثوابت التي جعلتها معاييري للتعامل مع الآخرين .
قال لي سياسي قديم مربتا على كتفي
- لا تكن حديا ومتزمتا هكذا فالاستبداد والخطأ ينشأ من التزمت ، أيها الشاب .
بمرور الزمن ، اكتشفت إن هنالك الكثير من التباين فيما بيننا ... رغم ذلك لم أكن أفقه سر انجذابنا بعضا لبعض ، ولم يفقه الكثير من أصدقائنا هذا السر . ألان يجدر بي أن أعترف إنه ، رغم شقاوته ، كان يمتلك القدرة على امتصاص غضبي ليعود صفائنا إلى ما كان عليه .
كنا نتفاخر كثيرا بأننا مجتمع سياسي ، وإننا نرضع السياسة مع حليب أمهاتنا ... لقد كتب لي حيدر ، وهو فنان تشكيلي أضطر إلى الهجرة بعد أن لاحقته الأجهزة الأمنية ، إن الفرنسيين – وفرنسا بلد الثقافة كما تعلم – كثير ما ينبهرون بعمق تحليلاتنا في حواراتنا معهم وينظرون إلينا باحترام . كما إننا كثير ما نسمع من كبار السن بأن العراقيين يقرؤون الممحي حيث كان ذلك شائعا عندنا نتناقله جيلا بعد جيل .
في ظل بيئة كهذه انتمينا أنا وإسماعيل إلى تنظيم سياسي واحد كأغلب شبابنا المتحمس . كنا نحلم كثيرا بوطن حر يسعد فيه الناس ويعيشون بحرية وكرامة وو... لقد كانت أحلاما كثير وكبيرة حقا .
كنت ثوريا رومانسيا متصلبا وكان إسماعيل شيئا آخر ... مرة ذكر لنا أحد المعتقلين بأنهم أجبروه على مضغ قاذوراته ولكنه لم يعترف . نظرنا إليه نظرات ملئها الانبهار والإعجاب . ضحك إسماعيل وعلق مازحا
- لو فعلوا ذلك معي لاعترفت حتى على رئيس الحزب ...
أثار تعليقه استيائنا وتناوشته الجمل الغضبة
- لا تكن جبانا ... أهذا ما يقال في مثل هذه المواقف ؟!
لم يرد علينا إسماعيل بشيء سوى ابتسامة ساخرة .
في الحقيقة ، توجد لإسماعيل هنات أخرى فقد كان يسخر من كل الشعارات بما في ذلك شعاراتنا بطريقة غريبة ... كان يضيف إلى الكلمات حروفا أو يغير من حروفها فيحولها إلى كلمات أو جمل هزلية مضحكة ، خصوصا عندما يلفظها بطريقته الساخرة ، لا أملك حيالها سوى القهقهة رغم تذمري من ذلك . وبخته بشدة
- إذا لم نرفع شعاراتنا فماذا نفعل للوصول إلى الجماهير ؟!
اشتعلت الحرب الضروس ، ولم يمر على زواجه سوى أشهر حتى أعيد لنا جثة فقدت نصفها السفلي . قال حيدر باكيا
- لم يفد إسماعيل بكبش – مع الأسف – بل صار كبش فداء فيما صمدت العروش ومن عليها ... في آخر أجازة له مازحته قليلا
- ها أنت تقاتل الآن من أجل الشعارات التي تسخر منها .
رد ساخرا بطريقته المعهودة
- نعم فقد هرولت إلى الحرب طوعا تحت طائلة الإعدام لمن لا يلتحق بالخدمة العسكرية .
ضحكنا كثيرا وكانت هذه آخر سخرية له .
مرت عقود ، في الوقت الذي أعد فيه خطواتي الأخيرة للرحيل عن هذه الدنيا ، والأمور تسير من سيء إلى أسوء ، فيما الموت والخراب ما زال ثابتا . تناقضت الشعارات وتغيرت وبقي البؤس ثابتا ... وكانت خلاصة عقود البؤس هذه ( نموت وتحيا الشعارات ) ... الآن وجدت من واجبي الاعتذار لصديقي إسماعيل عن اضطهادي له ومساهمتي في بناء المجتمع الشعاري الذي كان حقا (مجتمع الأشباح) كما عرفه الراحل .
اصطحبت الرسام التشكيلي حيدر بعد عودته إلى ارض الوطن لزيارة قبره للاعتذار منه ولكن صورته الملتصقة بشاهد قبره قد استقبلتنا بذات الابتسامة الساخرة . قلت لحيدر
- أتراه يسخر منا ؟!
توقفت كلمات الاعتذار في فمي خجلا فيما تجهم وجه حيدر بشكل مقلق وطلب مني مغادرة المقبرة وابتسامة إسماعيل اكبر وتزداد سخرية .
في الليلة التالية ، وكانت شديدة العتمة إلا من ضوء تصدره قنابر التنوير التي تطلقها القوات الأمريكية . في تلك الليلة تسلل حيدر إلى قبر إسماعيل ولم يعد ... وفي الصباح وجدنا حيدر جثة هامدة على قبر إسماعيل ، وقد أصيب بشظايا في رأسه وقلبه ويده تمسك بورقة تلطخت بدمه كتب عليها
كان فتى ساخرا يكره كل الكلمات المنمقة
كان يكره عهر الشعارات وأفاقين السياسة وكل الرموز الصغيرة .
لقد أدرك منذ البداية كل المهازل ...
وإن الوجوه المغلفة بالضوء كانت قناعا
وإن الشعارات لعبة لص كبيرة .
منذ ذلك اليوم وأنا أواظب على زيارة قبريهما فيما تلاحقني دوما ابتسامة إسماعيل التي تكبر وتزداد سخرية كل يوم وكأنه يسألني
- أي ممحي هذا الذي تقرؤونه ؟!

2010/10/13

إشكاليات بناء الدولة العراقية



الدولة العراقية الأولى

مقدمة من التاريخ
لا يختلف اثنان في كون العراق أو بلاد الرافدين واحدا من أهم وأقدم حضارات الاجتماع الإنساني ، وكذلك فهو من البلدان الأكثر ثراءا طيلة تاريخه ، سواء بثرواته وموارده الطبيعية أو بثرواته البشرية . لقد نشأت فيه ومنه انطلقت حضارات كبرى وثورات فكرية وحركات اجتماعية بارزة شكلت علامات هامة في سجل التاريخ . وبسبب ثرائه وخيراته وموقعه الاستراتيجي ، فقد كان دوما عرضة للتدخلات الأجنبية في شؤونه . كما حكم في عديد من الأدوار السياسية من سلالات من خارجه ، وإن كان العديد منها قد ذاب وأندمج في نسيجه الاجتماعي . وبسبب هذه الأمور ، من بين أمور أخرى ليس هنا محل بحثها ، طبعت الشخصية العراقية بطابع الشعور بالحيف والتمرد والشخصية الديناميكية القلقة والمتطرفة ، سواء في مراحل نهوضها أو في مراحل تراجعها ، وفي علاقاتها السياسية و الاجتماعية و الفكرية .
ومن خلال هذا الإرث الطويل من الصراعات والتدخلات الخارجية فقد كان للعوامل الخارجية وما زال دور مؤثر وفاعل في تشكيل بنى المجتمع العراقي السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحديد مساراتها .
لا أريد من هذا الطرح القول إن المجتمع العراقي ، وبالأخص في أدوار تراجعه ، كان عبارة عن بيادق شطرنج يناقلها العامل الخارجي ، فإن الشخصية الاجتماعية العراقية لم تستكن ولم تخضع لمحاولات كسر إرادتها وتهميشها ، يشهد على ذلك تاريخ الاضطراب السياسي المعروف في العراق ، وإن لم تصل هذه الحركات في الأغلب إلى غاياتها المنشودة .
استنادا إلى ذلك فقد شاعت نظريات وتفسيرات خاطئة بل ومغرضة وبنيت عليها استنتاجات قشروية حول عدم قدرة العراقيين على أكمال ما بدؤوه وعدم إمكانيتهم في أقامة دولة مستقرة ، كنتيجة طبيعية تتعلق بطبيعة الشخصية العراقية ، وإن العراق لا يمكن حكمه أو المحافظة على وحدته إلا بأساليب الإكراه والاستبداد وإلا تفكك إلى وحداته الأولية ووصل الأمر بالبعض إلى اعتبار العراق كيانا مصطنعا ؟! وفي الحقيقة إنها نظرات مسطحة ووحيدة الجانب ، لا ترى سوى قمة الجبل الجليدي الغاطس في عمق البحر .
يتناسى هؤلاء إن العراق هو الحضارة الأقدم في الكون ، ويتناسون الدول المهمة التي قامت على أرضه . وإن حدوده الحالية هي جزء من حدوده القديمة ، أي إنها دولة حافظت على كيانها آلاف السنين ، هذه الحقيقة التي تنقض جذريا كل هذه الطروحات . ولكي نقترب بمقاربة موضوعية لفهم الاضطراب السياسي في الاجتماع العراقي فأن هنالك إشكاليتين رئيسيتين قد تكمنان خلف ذلك .
الإشكالية الأولى هي التناقض بين الثروات الهائلة التي تمتع ويتمتع وسيتمتع بها البلد ، مقابل الفقر المدقع واللامساواة والتهميش التي تعاني منها أغلبية الشعب العراقي .
الإشكالية الأخرى هي تركز السلطة والنفوذ والجاه في أيدي أقليات (أوليغارشيات) اجتماعية ضيقة : اقتصادية ، قبلية ، دينية ، عسكرية ... وكثير منها من الجماعات الوافدة الذائبة في المجتمع العراقي وغير المتجذرة بعيدا في عمقه التاريخي مقابل حرمان أغلبية الشعب من سيادته على مصائره وتهميشه . ويبقى السؤال قائما : ما الذي يفعله شعب حيوي مثل الشعب العراقي كثير الاعتداد بذاته سوى التمرد والاحتجاج والثورة ؟ حتما سيبقى ذلك قائما ما دامت الإشكاليتين المذكورتين قائمتين وفاعلتين .. وبحل هذين التناقضين وتجاوزهما عن طريق بناء دولة مدنية علمانية حديثة تمهد لبناء الدولة ـ الأمة عندها سنرى أي نموذج مبدع الذي سيقيمه الشعب العراقي ويستعيد من خلاله دوره المبدع في رفد الحضارة الإنسانية بالانجازات المتميزة . في الوقت ذاته علينا أن نعترف بأننا لم نتجاوز هذين التناقضين لحد الآن ، وأن عناصر الدولة ـ الأمة لم تتبلور سياسيا وفكريا واقتصاديا واجتماعيا .
لقد تركت المرحلة المتخلفة للسيطرة العثمانية على العراق ، والصراعات العثمانية الفارسية على أرضه ، بلدا متخلفا يعيش حالة المجتمع الأهلي ، كعامل أساس ، حيث يعيش بعضه منعزلا عن البعض واقعيا على صعيد السياسة والاقتصاد والمجتمع ، كتجمعات محلية ، حيث يضعف المشترك الوطني لصالح ولاءات ضيقة على أساس العرق والطائفة والمنطقة والعشيرة والمحلة والزعامات المختلفة والعوائل وما إلى ذلك . ما الذي يمكن أن تنتجه بنية كهذه سوى إيديولوجية وقيم وعادات لبها التعصب لهذه الروابط وبذلك كان مجتمعا أيديولوجيا غير واقعي يمثل استلابا حادا للمجتمع المدني الحديث ومعوقا لنشوء دولة مدنية حديثة تمثل الأساس المادي لبناء الدولة ـ الأمة ، إذا فهمنا الإيديولوجية بمعنى الوعي الزائف للمجتمع الواقعي . من الظريف إن الأدب كان أكثر وعيا من الفكر السياسي حيث قرأت في رواية قديمة ما ذكر على لسان فلسطيني مقيم مخاطبا أحد العراقيين : عجيب أمركم أيها العراقيين تموتون في التظاهرات من أجل الوطن وتسجنون وتضحون ولكنكم تهدمون اقتصادكم بتهريب الأغنام إلى الدول المجاورة .
لقد عبرت هذه الرواية عن جوهر هذه القصة ... إن معظم قيمنا وأهدافنا تقع في المستوى الإيديولوجي ألشعاراتي المنفصل عن المستوى الحقيقي الواقعي ، بل المضاد لهذه القيم والأهداف في الكثير من السلوك الاجتماعي ، وفي مثل هكذا ظرف تنموا و"تزدهر" روابط المجتمع ما قبل المدني وممثليه الديماغوجيين الذين يلعبون دورا كبيرا في التأثير على شرائح اجتماعية واسعة تعاني من الاغتراب .
حتما لا يمكن اختزال التاريخ في مقدمة ، ولكننا أردنا من خلال ذلك الخلوص إلى ومضات قد تلقي الضوء على جوانب إشكالية فيها الكثير من العتمة ، من خلال قراءة الخلفية التاريخية لمجتمعنا وأزمته الحالية ، ولتفهمها بشكل أفضل ، ينبغي إلقاء نظرة على مرحلة التأسيس الأولى وهي قيام الدولة العراقية عام 1921م .
تأسيس الدولة العراقية الأولى
لقد أعتمد الاحتلال البريطاني الأول على استغلال وإذكاء تناقضات المجتمع العراقي وتوظيفها بإدارة الأزمات وليس حلها ، وذلك من خلال إستراتيجية المعروفة في إدارة المستعمرات (فرق تسد) لصالح أقامة وإدامة بنية كولونيالية تابعة وخاضعة للهيمنة ، ومن الطريف إن الحس الشعبي كان مدركا لذلك من خلال مقولة شائعة آنذاك مفادها (إذا رئيت سمكتين قد تعاركتا في البحر فأعلم إن بريطانيا وراء ذلك) . كما ساهم في إعادة تشكيل الطبقات الاجتماعية ـ الاقتصادية و أنتاج طبقة سياسية ، كقاعدة للنظام ، من كبار ملاك الأراضي والشرائح الكمبرادورية وكبار الضباط الذين خدموا من الدولة العثمانية وبعض الشرائح الهامشية التي تعتاش على الخدمات لهذه البنية وذلك من خلال العديد من القوانين التي حولت الملكية العامة للأراضي العشائرية إلى ملك لشيوخ العشائر وتجذير الطابع العشائري بقانون دعاوى العشائر والامتيازات التي حققها الضباط العثمانيون السابقون . والخطوة الأشد خطورة للتحكم بالاقتصاد العراقي هي تسليم النفط ـ الذي يمثل الثروة الأساسية في العراق كبلد يعتمد على الاقتصاد ألريعي ـ إلى الشركات الاحتكارية البريطانية في أغلبه ، وكذلك ربط الدينار العراقي بالجنيه الإسترليني وبذلك أحكمت سيطرتها على الاقتصاد العراقي ، فمن يمتلك الاقتصاد يمتلك السياسية ، وبالتالي أقامت نظاما كولونياليا تابعا ، حتى قيل (إذا عطست بريطانيا أصيب العراق بالزكام) . كما كان للقوى المسلحة نصيبها إذ صمم الجيش لحماية النظام أكثر من حمايته لسيادة البلد وحدوده من حيث العدة والعدد والتسليح ولكنها لم تفلح في إخماد روحه الوطنية إذ إن قاعدته العريضة تكونت من الطبقات الشعبية الفقيرة والمضطهدة التي لم تكن بعيدة عن هموم أبناء شعبها وقد ساهم ذلك في تسييس العسكر وشجع تدخلهم المسلح في الحياة السياسية . بذلك ، استطاعت بريطانيا أن تقيم نظاما اقتصاديا ـ اجتماعيا تابعا ذو بنية معقدة أمنت لها استدامة مصالحها لحين قيام ثورة 14/تموز/1958 م .
محاولة جادة لبناء مجتمع مدني
لقد كثر الحديث عن ثورة 14 تموز واختلفت التقييمات لها بين قدح ومدح. هل هي ثورة أم انقلاب أم ماذا ؟ لفهم ذلك الحدث علينا أن نبتعد عن المماحكات السياسية المجيرة للدفاع عن المواقف السياسية المختلفة للقوى التي خاضت الصراعات آنذاك ، ونحلل مواقف الثورة وإجراءاتها في مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية . الخطوة الأولى لهذه الثورة كانت إعلان النظام الجمهوري وهي خطوة راديكالية اتجاه النظام القديم . كذلك الانسحاب من حلف بغداد والصداقة مع الاتحاد السوفييتي مدركة جدلية البنية التابعة للنظام الملكي وبعدها الخارجي المهيمن ، وبذلك كانت ثورة من الناحية السياسية .
أما في الجانب الاقتصادي والاجتماعي فقد قامت حكومة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم بإجراءات مهمة لتفتيت البنية السابقة بإصدار قانون الإصلاح الزراعي الذي فتت الملكيات الكبيرة وإن لم يلغيها تماما . كما أصدر قانون رقم 80 الذي سحب امتيازات احتكارات النفط الأجنبية وتولى العراقيون العمل للاستخراج وتسويق النفط . كما حرر العملة العراقية من تبعيتها واعتمادها على الجنية الإسترليني . إن هذين العصبين الرئيسين للاقتصاد وهما الثروة النفطية والعملة العراقية قد وفرا بعد تحريرهما الشروط الأساسية لمقاومة الضغوط الخارجية واستقلال البلد الحقيقي .
من الإجراءات المهمة الأخرى ، إصدار قانون الأحوال الشخصية الذي أعطى الكثير من الحقوق ممهدا لضرب الأساس الإيديولوجي ، شبه الإقطاعي ، الذي نظر إلى المرأة نظرة دونية وهمشها عن الفعل الاجتماعي ، ممهدا الطريق لتحرير النساء وانخراطهن بشكل واسع بالحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية . كما قامت الثورة بانجازات كبرى فيما يتعلق بحياة الطبقات الشعبية في مجالات الإسكان والصحة والتعليم وغير ذلك .
يمكننا أيضا ملاحظة ظواهر مهمة تمهد لبناء مجتمع مدني واقعي ، حيث ازدهرت نشاطات الاتحادات والنقابات المهنية التي مثلت مصالح طبقات أساسية وشرائح مهنية مختلفة في المجتمع بفاعلية مؤثرة . كما إن الحراك السياسي للمنتظمات السياسية كان واسعا وعلى أشده بغض النظر عن طبيعة ونتائج ذلك الحراك .
يمكننا القول إن ما حدث في 14 تموز كان بداية لثورة سياسية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية غير مكتملة ، أنجزت الكثير في عمر قصير واعية إلى حد ما بإشكالات اقتصاد التبعية وجدل العلاقة بين مسبباته الداخلية والخارجية. لقد استنهضت مقومات بناء مجتمع واقعي مدني ، بيد إنها عجزت عن بناء شكله السياسي الديمقراطي المؤسساتي . يرجع ذلك لأسباب ذاتية وموضوعية ، وإن حاولت متأخرة الشروع في مشروع كتابة دستور دائم وديمقراطي ينظم الحياة السياسية في المجتمع العراقي . بيد أن قوى الردة استطاعت وئد التجربة بانقلاب 8/شباط/1963م تحت شعارات إيديولوجية مختلفة ، مثلت تحالفا غير مقدس بين قوى المجتمع الأهلي القديم وقوى من العسكر والبرجوازية الصغيرة لتعيد الهيمنة الأجنبية ولكن بشكل نيوكولونيالي : استقلال شكلي وتبعية حقيقة . بذلك انتكست مسألة بناء مجتمع مدني وإمكانية بناء الدولة ـ الأمة لصالح إنشاء الدولة ـ السلطة التي استمرت لحين احتلال العراق في 9/نيسان/2003م .

2010/10/09

قصة قصيرة ___ شجرة الصفصاف



كانت شجرة الصفصاف العتيقة تقف بمهابة بحيث تبدو خلفها البناية الحكومية المتواضعة أكثر تواضعا . ربما بدا ذلك لكثافة أوراقها ، وتفرع أغصانها ، المتشابكة والممتدة في كل اتجاه . وربما بسبب تواضع الدور البسيطة الجاثمة على امتداد الطريق ، عدا قصر الحاج سعدون ، المشيد وفقا للطراز المعماري للقصور البريطانية القديمة .
كل يوم يذهب خالد إلى مدرسته الابتدائية . تجهز له أمه حقيبته بعد أن تتأكد من عدم نسيانه أي شيء من لوازمه المدرسية . تقبله وهو يغادر البيت ، بعد أن تعيد على مسامعه النصيحة اليومية المعتادة بأن يسلك الأزقة التي تؤدي إلى مدرسته وأن لا يسلك طريق الشط ، بيد إنه يخالف هذه النصيحة دوما ، فقد كان يعشق النهر ، وكثيرا ما كان يسبح فيه مع أقرانه سرا ، لذا فأنه يسلك هذا الطريق كل يوم .
تغفوا مدنيته الصغيرة على ضفتي النهر بوداعة ، خصوصا في الصباحات الربيعية المشمسة ، مما استهواه كثيرا وأثار حسه المرهف وعشقه الصوفي للجمال ، لذا فأنه يفضل السير على هذا الطريق حيث يطلق العنان لخياله الخصب ، وهو يتطلع إلى النهر الهادئ بشغف .
لقد كانت أمه تخشى عليه من السير في هذا الشارع لأسباب عديدة . فشارع النهر هو الشارع الوحيد المكسو بالإسفلت من بين شوارع المدينة حيث ترتاده الكثير من المركبات المسرعة . كما إنها تخاف عليه من الغرق في النهر – ضحك في سره ، فوالدته لا تعلم إنه قد تعلم العوم ، وأنه قد صار سباحا ماهرا – غير إن الخطر الأكبر الذي يؤرقها هو الخوف عليه من ثور الحاج سعدون .
للحاج سعدون قطيع كبير من البقر ، يرسله صباح كل يوم إلى إحدى مزارعه الكبيرة التي تنتشر في أطراف المدينة لتنتهي في أعماق الريف ، ومن ثم العودة إلى المدينة عصرا ليقضي الليل في الزريبة التي تقع بالقرب من القصر . فترتان في اليوم يحتل قطيع الحاج شارع النهر ، حيث يقوده ثور أسود مخيف ، يسير مختالا بين إناثه ، في الوقت الذي ينظر فيه شزرا إلى كل من يتطفل على القطيع ليجبره على الحيدان عن الشارع ، ثم ينظر خلفه نظرة تفقد ، فيما كان المارة ينحدرون عن الشارع إلى أكتافه بحذر وتوجس ، وسط تحذيرات الراعي .
- إنه ثور عنيف وهائج ولا يمكن توقع سلوكه فاحذروه .
فوجئت الست زينب ، مديرة أول مدرسة ثانوية للبنات في المدينة ، بالحاج سعدون ومعه العديد من مرافقيه وهم يطلبون من العم أبو ناصر ، فراش المدرسة ، إخبار المديرة بحضور الحاج .
- أنت المديرة ؟
- نعم .
- أغلقي مدرستك وارجعي إلى بغداد . لا توجد عندنا بنات تذهب إلى المدارس .
غادر الحاج المدرسة فيما كان أبو ناصر يحاول إقناع الست زينب بالاستجابة لذلك الطلب .
- أنت لا تعرفين من هو الحاج .. أرجوك (تكفي شره) .. هنا ليس بغداد فالحاج هنا هو الحكومة .
- لقد عينتني الحكومة .. ولن ارحل إلا بأمرها .
أجابت الست زينب بتحد .
شجرة الصفصاف العملاقة ، إضافة إلى النهر ، واحدة من المعالم النادرة التي تستهويه وقد أضاف إليها (مشعل الحرية) وهو نصب انشأ حديثا بعد الثورة ، ينتصب بارزا على الضفة الأخرى للنهر ، مقابل الجسر الذي يربط بين الضفتين حيث يقع في موقع يتوسط المسافة بين قصر الحاج وشجرة الصفصاف العتيقة .
اختلفت الروايات في أصل هذه الشجرة لكن الرواية التي قالت بان احد أجداد الحاج سعدون هو من زرعها هي الرواية التي استقر عليها الناس .
- لقد جاء بها جد الحاج سعدون من تربة مبروكة .. لقد منحته وأبنائه البركة والبخت .
- الحاج سعدون بخيت ..
- نعم إنه ابن أجواد .. (أحنة داخلين عله بخته ) .
يزين جذع الشجرة الضخم خضاب الحناء ، وكثيرا ما تشاهد عدد من النسوة يخضبن جذع الشجرة وفاءا لنذورهن . لقد نسب لهذه الشجرة الكثير من المعجزات .
كثيرا ما يتوقف خالد قبالة الجسر ، ناقلا نظره بين المعالم الثلاث ، فيما ينتابه شعور لم يجد تفسيرا له إن هناك علاقة ما بين هذه المعالم لا يتمكن من فك رموزها . الوقوف أمام الشجرة العتيقة والتأمل فيها طقس يومي لخالد . بعد ذلك يرمي ببصره إلى مشعل الحرية ، عبر النهر ، لكنه يشعر برهبة ووجوم عندما تقع عيناه على القصر الكبير ، الذي يذكره بالثور الأسود المخيف فيلتصق ، لا شعوريا ، بجذع الشجرة الضخم .
أثار انتباهه ، هذا اليوم ، إن شجرته الحميمة تستقبل الكثير من الضيوف . لقد تحلق حولها العديد من التلاميذ الذين جلسوا القرفصاء ، وهم يحدقون برجل جلس متكأ على جذع الشجرة والإعياء باد عليه ولم تستطع كل مظاهر البؤس إخفاء محاسن عينيه الواسعتين حيث احتل سوادهما معظم العينين تاركا مساحة ضئيلة لبياضهما .
- لماذا لا تنظر ياعم إلى محدثك عندما تتكلم معه ؟
- عمي .. أنا أعمى .
ذهل خالد من إجابة الرجل ، فقد اعتاد أن يرى العميان بعيون مطمسة أو مشوهة .
- ولكن عينيك سليمتان ، فكيف تكون أعمى ؟
- إنه العمى الأسود .
قفز إلى ذهنه حديث جدته عن الماء الأسود الذي ينزل على العين فيمنعها عن الرؤية .
- إن هذا المرض ، نعوذ بالله .. الله يكفينا شره ، لا شفاء منه .
قالت جدته ذلك وهي تمسح على عينيه بكفها .. أسم الله جدة .. أسم الله على عيونك .. ثم رفعت يديها إلى السماء وهي تدعوا الله أن يحفظه من المرض ويكفيه شر بني ادم .
- سأكون طبيب عيون في المستقبل لأعالج هذا المسكين وأمثاله من الفقراء. قال ذلك في سره .
- لماذا غادرت البيت وأنت على هذه الدرجة من الإعياء والمرض ؟
- أنا رجل منقطع وليس لي أحد إلا الله - قال الأعمى - ولم أذق طعاما منذ الأمس لذا خرجت على باب الله .
شعر خالد بغصة .. أيعقل هذا ؟ وهل يعقل أن يترك الإنسان لمصيره دون أن يهتم به أحد ؟
- إن الله سبحانه وتعالى قد ادخل امرأة النار لحبسها قطة ، فلم تطعمها أو تتركها تبحث عن رزقها حتى ماتت .
قال ذلك العم كشكول وهو يتحدث إلى مجموعة من الرجال الذين تحلقوا حول منقلة الفحم التي تبعث الدفء في أوصالهم الخاوية .
علق بعضهم الناس للناس .. وقال الآخر :
- إن الله سيحاسب الجميع إذا جاع فيهم أحد ولم يطعموه .
فكر خالد : إلا يخاف هؤلاء الناس من النار ؟ ولماذا تركوا هذا الأعمى جائعا ؟
- لن أصدق كل ما يقوله الكبار بعد الآن .. فهم يقولون ما لا يفعلون .
قال خالد ذلك بثقة وتصميم فيما انسابت الدموع من عينيه بصمت .
- لا تذهب ياعم ، فبيتنا قريب .. ساتيك بالطعام .
لم يستطع الرؤية بوضوح ، بسبب الدموع التي ملأت عينيه ، حتى إنه لم يبصر التلاميذ الذين يقطعون الطريق عدوا وهم يلعبون ويتضاحكون .
- إن الله قد قسم الأرزاق بين الناس وجعل لكل مخلوق رزقه .. حتى الدودة التي بين صخرتين جعل لها رزقها .
كانت جدته تقول له هذا الكلام كثيرا . قال لجدته :
- ياجدة .. أين ذهب رزق هذا الأعمى ؟ وهل الدودة أكرم على الله من الإنسان ؟
لم تفلح إجابات الجدة البسيطة في إقناعه مثلما لم تستطع شجرة الصفصاف ، الموغلة بالقدم ، في إطعام الأعمى الجائع . شعر بان انبهاره بهذه الشجرة قد تضائل .
- أي شجرة كاذبة هذه التي لا تطعم جائعا ؟!
نظر إلى صخرتين متلاصقتين ، في باحة البيت بحب ، وأخذ يمسح عنهما التراب ويغسلهما بالماء ، على غير عادته ، فلم تكن الصخور من قبل تثير اهتمامه .. بحث عن فأس وأخذ يضرب به جذع شجرة الصفصاف الوحيدة في حديقة البيت وهو يصرخ
- علينا أن نقطع شجرة الصفصاف اللعينة هذه .
نظرت جدته أليه بقلق وهي تتابع تصرفاته الغريبة .
- أسم الله جدة .. أسم الله عليك .. ما بك ياولدي وما هذه الأسئلة والتصرفات الغريبة ؟
نظر أليها ، نظرة ماكرة ، وقد اضمر ما يفكر به فيما شعرت الجدة بالقلق الشديد عليه . قامت بإخراج (حرز) تحتفظ يطرد الشياطين ويقي حامله من مسهم ووضعته في أحشاء وسادته .
جاء صوت أمه من المطبخ يعلمه بانتهائها من طبخ الطعام . حمل القدر وقد اكتسى ووجهه بصرامة غريبة على ملامح طفل فيما تلاشت الدموع من عينيه .. فلم يعد يبكي .
سار خالد في وسط شارع النهر بثقة ، ولم يأبه للثور الأسود الذي أحتل الشارع مع قطيعه .
- رحم الله والديك . قال الرجل الأعمى وهو يلتهم الطعام . نظر خالد إلى الشجرة العتيقة ، مطولا ، نظرة غامضة . بصق على جذعها بغضب واحتقار .
- سأقطعك أيتها الشجرة اللعينة عندما أكبر .. أقسم على ذلك .
نظر إلى مشعل الحرية بتمعن ثم تناول حقيبته المدرسية ووضعها على ظهره ، متجها صوب المدرسة بشوق ولهفة لم يعرفهما من قبل

2010/10/06

الدولة – السلطة

لقد كتبت سابقا عن الإشكال العراقي الرئيسي وهو غياب مفهوم الدولة - الأمة في الواقع السياسي والفكري والاجتماعي مما يتطلب الإجابة على سؤال محوري يطرح نفسه بقوة عن ماهية الدولة التي تشكلت في العراق وعن طبيعة العوامل والمسببات الكابحة والمانعة لتشكل الدولة - الأمة .
قد نجد في توصيف الدولة والسلطة بعض الإجابة . وقد نجد في خاصيتين أساسيتين , هما الكلية والجزئية , معناهما . الدولة كلية بمعنى العمومية والسلطة جزئية بمعنى التبعيض والخصوصية . الدولة سياقات ‘‘ثابتة’’ فعندما نقول المال العام يتبادر إلى الذهن العمومية بمعنى ملكية الدولة له بوصفها تنوب عن عموم الموصوفين بوصف عراقي وعراقية - وهنا لست في صدد التمثيل الطبقي فهو شأن آخر- أما عندما نقول سلطة الحزب الفلاني أو الإتلاف العلاني فأننا نبعض التمثيل باعتباره يمثل شرائح معينة من الموصوف العام (الأمة) ويعبر عن مصالح هذه الشرائح .
لقد تشكلت الدولة العراقية منذ البداية بوصفها الدولة - السلطة وسمتها المميزة هي العصبوية سواء كانت إيديولوجية أو أثنية أو طائفية وقد تصل في مراحل انحطاطها أو تراجعها أو تأزمها إلى سلطة العشيرة أو العائلة أو الفرد المستبد , أو بخليط من هذه الأشياء ويسودها نزعات الانفراد والاحتكار والإقصاء وتغلب على أساليب عملها القسوة والتآمر والميكافيلية –بالمعنى المذموم للمصطلح - وبذلك تكون أقرب إلى الأساليب الفاشية , الصريحة أو المستترة , وتخضع إلى حجم التوترات والثورات السياسية والاجتماعية .
قد يقدم اعتراضا على هذه الأطروحة, حالة الليبرالية النسبية في بعض ادوار العهد الملكي, أو الديمقراطية السياسية الآن غير أن هذا أمر مضلل وقشروي , أفقي وليس عمودي , يتعلق بإعادة تشكيل الطبقات السائدة ويمثل آلية سلطوية بعيدة عن مصالح الجمهرة الواسعة من الشعب وهو ما تطرحه الوقائع بقوة في المرحلتين أنفتي الذكر وطبيعة قوى ما قبل المجتمع المدني .
في التاريخ , قد يكون نمط الإنتاج الأسيوي , فيه بعض الإجابات على ذلك وكذلك عن هشاشة وضبابية التشكيلات الاجتماعية - الاقتصادية مقابل السلطة وسطوتها , وفي الحاضر إشكاليات اقتصاد التخلف في ضل هيمنة المراكز الصناعية المتطورة , ودور كل ذلك في إنتاج المجتمعات الإيديولوجية (غير الواقعية) التي تنتج الدولة - السلطة وتعيد إنتاجها في تطور دائري .
لنأخذ مثالا : سلطة ما قبل 9\نيسان\2003 باعتباره نموذجا صارخا للدولة - السلطة بصفتها الاثنية الإيديولوجية في مجتمع متعدد الأعراق والطوائف ولجوئها بنيويا إلى الاستبداد المطلق لحل التناقض بين طبيعتها التبعيضية وادعاءاتها الشمولية وبالتالي احتواء الكل في الجزء وقد أثبت هذا الأمر فشله عندما أسقطت السلطة فسقطت بسقوطها الدولة برمتها .
ما بعد 9\نيسان انتقلت السلطة إلى المحتل الأجنبي الذي انشأ في كنفه سلطة متعددة التبعيض على أساس الطائفة والعرق ملغية البعض الشمولي ذو السلطة المركزية المطلقة لصالح تعدد التبعيض مع إضعاف المركز مما أدى إلى تعدد المراكز السلطوية وما أنتجته من التناحر المستمر بين هذه المراكز والشلل الدائم في آليات العمل السياسي . وهذا يشير إلى استمرار السلطة - الدولة في إشكالاتها الحالية إن لم تنتج إشكاليات جديدة أشد خطورة .