2010/10/19

قصة قصيرة __ إسماعيل




مرت عقود عجاف على رحيله . لم أكن أتصور إنه سيكون مجرد ذكريات نظرا للحيوية الفائقة والحضور الذين تميز بهما . في الحقيقة ، لم يكن هذا رأيي فقط وإنما رأي أغلب معارفنا . كان يمتلك مرحا وخبثا طفوليا محببا ، في الوقت الذي أميل فيه إلى نوع من الجدية ، وقد أثار هذا التناقض في الطبائع بيني وبينه بعض الجفاء والزعل ، فقد كنت حديا مع من ينتهك بعض الحدود والثوابت التي جعلتها معاييري للتعامل مع الآخرين .
قال لي سياسي قديم مربتا على كتفي
- لا تكن حديا ومتزمتا هكذا فالاستبداد والخطأ ينشأ من التزمت ، أيها الشاب .
بمرور الزمن ، اكتشفت إن هنالك الكثير من التباين فيما بيننا ... رغم ذلك لم أكن أفقه سر انجذابنا بعضا لبعض ، ولم يفقه الكثير من أصدقائنا هذا السر . ألان يجدر بي أن أعترف إنه ، رغم شقاوته ، كان يمتلك القدرة على امتصاص غضبي ليعود صفائنا إلى ما كان عليه .
كنا نتفاخر كثيرا بأننا مجتمع سياسي ، وإننا نرضع السياسة مع حليب أمهاتنا ... لقد كتب لي حيدر ، وهو فنان تشكيلي أضطر إلى الهجرة بعد أن لاحقته الأجهزة الأمنية ، إن الفرنسيين – وفرنسا بلد الثقافة كما تعلم – كثير ما ينبهرون بعمق تحليلاتنا في حواراتنا معهم وينظرون إلينا باحترام . كما إننا كثير ما نسمع من كبار السن بأن العراقيين يقرؤون الممحي حيث كان ذلك شائعا عندنا نتناقله جيلا بعد جيل .
في ظل بيئة كهذه انتمينا أنا وإسماعيل إلى تنظيم سياسي واحد كأغلب شبابنا المتحمس . كنا نحلم كثيرا بوطن حر يسعد فيه الناس ويعيشون بحرية وكرامة وو... لقد كانت أحلاما كثير وكبيرة حقا .
كنت ثوريا رومانسيا متصلبا وكان إسماعيل شيئا آخر ... مرة ذكر لنا أحد المعتقلين بأنهم أجبروه على مضغ قاذوراته ولكنه لم يعترف . نظرنا إليه نظرات ملئها الانبهار والإعجاب . ضحك إسماعيل وعلق مازحا
- لو فعلوا ذلك معي لاعترفت حتى على رئيس الحزب ...
أثار تعليقه استيائنا وتناوشته الجمل الغضبة
- لا تكن جبانا ... أهذا ما يقال في مثل هذه المواقف ؟!
لم يرد علينا إسماعيل بشيء سوى ابتسامة ساخرة .
في الحقيقة ، توجد لإسماعيل هنات أخرى فقد كان يسخر من كل الشعارات بما في ذلك شعاراتنا بطريقة غريبة ... كان يضيف إلى الكلمات حروفا أو يغير من حروفها فيحولها إلى كلمات أو جمل هزلية مضحكة ، خصوصا عندما يلفظها بطريقته الساخرة ، لا أملك حيالها سوى القهقهة رغم تذمري من ذلك . وبخته بشدة
- إذا لم نرفع شعاراتنا فماذا نفعل للوصول إلى الجماهير ؟!
اشتعلت الحرب الضروس ، ولم يمر على زواجه سوى أشهر حتى أعيد لنا جثة فقدت نصفها السفلي . قال حيدر باكيا
- لم يفد إسماعيل بكبش – مع الأسف – بل صار كبش فداء فيما صمدت العروش ومن عليها ... في آخر أجازة له مازحته قليلا
- ها أنت تقاتل الآن من أجل الشعارات التي تسخر منها .
رد ساخرا بطريقته المعهودة
- نعم فقد هرولت إلى الحرب طوعا تحت طائلة الإعدام لمن لا يلتحق بالخدمة العسكرية .
ضحكنا كثيرا وكانت هذه آخر سخرية له .
مرت عقود ، في الوقت الذي أعد فيه خطواتي الأخيرة للرحيل عن هذه الدنيا ، والأمور تسير من سيء إلى أسوء ، فيما الموت والخراب ما زال ثابتا . تناقضت الشعارات وتغيرت وبقي البؤس ثابتا ... وكانت خلاصة عقود البؤس هذه ( نموت وتحيا الشعارات ) ... الآن وجدت من واجبي الاعتذار لصديقي إسماعيل عن اضطهادي له ومساهمتي في بناء المجتمع الشعاري الذي كان حقا (مجتمع الأشباح) كما عرفه الراحل .
اصطحبت الرسام التشكيلي حيدر بعد عودته إلى ارض الوطن لزيارة قبره للاعتذار منه ولكن صورته الملتصقة بشاهد قبره قد استقبلتنا بذات الابتسامة الساخرة . قلت لحيدر
- أتراه يسخر منا ؟!
توقفت كلمات الاعتذار في فمي خجلا فيما تجهم وجه حيدر بشكل مقلق وطلب مني مغادرة المقبرة وابتسامة إسماعيل اكبر وتزداد سخرية .
في الليلة التالية ، وكانت شديدة العتمة إلا من ضوء تصدره قنابر التنوير التي تطلقها القوات الأمريكية . في تلك الليلة تسلل حيدر إلى قبر إسماعيل ولم يعد ... وفي الصباح وجدنا حيدر جثة هامدة على قبر إسماعيل ، وقد أصيب بشظايا في رأسه وقلبه ويده تمسك بورقة تلطخت بدمه كتب عليها
كان فتى ساخرا يكره كل الكلمات المنمقة
كان يكره عهر الشعارات وأفاقين السياسة وكل الرموز الصغيرة .
لقد أدرك منذ البداية كل المهازل ...
وإن الوجوه المغلفة بالضوء كانت قناعا
وإن الشعارات لعبة لص كبيرة .
منذ ذلك اليوم وأنا أواظب على زيارة قبريهما فيما تلاحقني دوما ابتسامة إسماعيل التي تكبر وتزداد سخرية كل يوم وكأنه يسألني
- أي ممحي هذا الذي تقرؤونه ؟!

ليست هناك تعليقات: