2011/07/03

معيار باريتو

((إن القط يصطاد الفأر ويأكله ولكنه لا يتظاهر بفعل ذلك لخير الفأر. ولا يدعي أن هناك عقيدة بأن الجميع متساوون. ولا يرفع عينيه إلى السماء عبادة لخالق الجميع. )) باريتو *

يضع باريتو في عبارته هذه معيارا مهما للحكم على الأفعال ومدا مشروعيتها الأخلاقية . فقد جاءت عبارته نقدا لاذعا لحالة النفاق الذي تمثله الكثير من الإدعاءات الفكرية والأخلاقية لتبرير الأفعال. نرى باريتو يقول منتقدا ازدواجية الامبريالية في معاييرها ( إذا حارب الانجليزي أو الألماني أو الفرنسي أو البلجيكي أو الإيطالي ومات من اجل بلده فانه بطل . ولكن إذا جرؤ أفريقي على الدفاع عن وطنه ضد أي من هذه الأمم فهو متمرد و حقير و خائن . ) 1

يحاول باريتو إن يعزل الدافع الحقيقي للفعل عن التبريرات الإيديولوجية و الأخلاقية و غيرها التي تغلف الفعل لاستبعاد الدافع الحقيقي و استبداله بدافع أخر لا ينم عن حقيقته . انه يعري الفعل من ملابسه المزركشة ليظهره مجردا عاريا من أي سواتر تخفي حقيقة الجسد .لذا جاءت العلاقة بين القط و الفار علاقة بسيطة . عندما يجوع القط فان وسيلته لإشباع جوعه اصطيادً الفار، و غايته أكله. إذن فهذه حقائق لا يمكن تأويلها. أما ما عدا ذالك فزائد، فلم يدعي القط أن هناك عقيدة أو عبادة ما وراء فعله هذا، أو أنه يفعل ذلك لخير الفار. كتب بيرنز معلقا على موضوعة باريتو (فالأوربيون يدعون أنهم يؤدون مهمة مقدسة إذ يدعون أنهم يحملون المدنية إلى الشعوب التي تعيش في الظلام وبنفاق واضح حقيقة يقولون أنهم يعملون لخير رعاياهم باضطهادهم واستئصالهم. لقد حرروا البدائيين المساكين من الطغيان المحلي ولزيادة حريتهم أكثر، قتلوا عددا غير صغير منهم وحولوا الباقي إلى وضع أقرب إلى العبودية) 2. ورغم كره باريتو الشديد لحالة النفاق التي تبرر الأفعال بإعطائها بعدا قيميا لا يعبر عن حقيقتها قد دفعه إلى السلب للقيم و الأفكار و اعتباره الكثير من القيم و الأفكار مجرد خرافة و أنها شيء زائد .وان الجماهير سلبية ، وتأكيده على دور النخب ، إلا إن معياره هذا جدير بالنظر إليه من زوايا مختلفة . اختلف مع باريتو في سلبيته تجاه الفكر ونزعته النخبوية و هي ليست مجال هذا المقال ، ولكنني أثمن نقده اللاذع للدور الذي تلعبه الايدولوجيا والعادات والتقاليد في كثير من الأحيان من تبرير للظلم والجرائم ، فكم من الجرائم ترتكب تحت غطاء أشياء سامية ولكننا لا نستطيع إحالة الإنسان إلى غرائزه ، فنقد باريتو الشديد للنفاق والزيف والخرافة وازدواجية المعايير , و كلها دالة على الانحدار الأخلاقي مع إن لها جذورا ومسببات أخرى لا علاقة لها بالدوافع الأخلاقية ، إنما يدل على إن لباريتو هدفا ساميا وإنه استخدم الفكر ليدافع عن هذا الهدف . وفي ظل الصراعات الدموية والمتعصبة التي يمر بها عالمنا اليوم وتصادم المعايير والادعاءات التي تمارسها الإطراف المتصارعة رغم اختلافاتها العميقة ،إلا إن المشترك بينها التعصب والدموية والوحشية ،مما يستلزم إعادة بناء ثقافة عالمنا بعد إن كادت هذه الصراعات أن تدمره .أن الفساد والمعايير التي تسود عالمنا ونتائجها الكارثية الواضحة للعيان تجعل من راهنية معيار باريتو ضروريا حيث تبدو الآفاق مسدودة أمام سبل الخلاص ،كما يبدو المستقبل أكثر قتامة أو على الأقل هذا ما تعكسه اللحظة الراهنة ، ولكن بعد أعدة بنائه .إذا كانت الغاية تبرر الوسيلة وفق ميكافيلي فان الوسائل الفاسدة ستفسد الغاية مهما كانت نبيلة أو مدعية للنبل .إن الفصل بين الغاية والوسيلة يؤدي إلى تشوش المعيار وازدواجيته مما يفقدنا الحكم على فعل ما .ولنأخذ فعل الانتحاري الذي يفجر نفسه وسط حشد من العمال الذين ينتظرون فرصة عمل تحت عنوان الجهاد ومرضاة الله، ولا نعلم كيف يرضى الله عن إزهاق أرواح هؤلاء الذين أنهكتهم البطالة و عوائل تفقد معيلها ويزداد بؤسها , فعندما نجرد هذا الفعل من مبرراته الأيديولوجية نجده فعلا إجراميا وحشيا وجريمة ضد الإنسانية . أن استخدام معيار باريتو يتطلب وضع كل فعل موضع التساؤل ونزع ثوب القداسة والحصانة عنه التي تفرضها أنماط من الفكر والعادات والمسلمات السائدة . أن تعرية الأفعال من أرديتها وأغطيتها يستلزم أيجاد معيار موحد في التعامل مع الأفعال المختلفة. في ظل الفوضى والانحدار الأخلاقي الذي نشهده وعبثية الصراعات التي تستسهل قتل الإنسان وتجويعه وتهميشه وانتهاك حريته تحت مبررات وذرائع مختلفة. فأن معيار باريتو ضروري جدا لإبراز الحقيقة العارية لهذه الصراعات ، باعتبارها مشاريع غابوية مجردة تختفي خلف أقنعة أيديولوجية متعددة الألوان والوجوه ،ولكن ليس إثباتا لأتباع الإنسان لغريزته وفق باريتو ، وإنما السعي لإعادة بناء ثقافة عصرنا على أنقاض " ثقافة الغابة " المتسترة بأردية زائفة ومعايير " أخلاقية " لا تفعل شيئا سوى أنها تبرر البربرية والدمار . لا يمكن ذلك إلا بجعل جميع الأنشطة الإنسانية الفكرية والعقائدية والاقتصادية والقانونية وغير ذلك في خدمة الإنسان وحريته و كرامته وليس العكس الذي يجعل الإنسان موضوعا لهذه الأنشطة. لقد كان ماركس المفكر الذي فتح فتحا مهما " واكتشف قارة " في علم التاريخ والاجتماع بإحالته ما أطلق عليه البنية الفوقية إلى بنيتها التحتية محاولا إيجاد معيار واحد واقعي لفهم الأفعال والحكم عليها ولكن تعرضه إلى سؤ فهم كبير من قبل كثير من الماركسيين بنشرهم ماركسية شائعة باستبدالهم المعيار الغريزي عند باريتو بالمعيار الاقتصادي بإحالتهم البنية الفوقية كإفراز ميكانيكي للعامل الاقتصادي ملقيا بكامل ثقله على مجمل البناء الفوقي بدلا من كونه مؤشرا لمساراته والعلاقة الجدلية التي تحكم العلاقة بينهما ، مضيعين الفرصة التاريخية لبناء نظام ثقافي يضع الإنسانية في مسار جديد ، مسار تتجاوز فيه كل الايدولوجيا والمبررات بجعلها في خدمة الإنسان بدلا من جعل الإنسان في خدمتها .

هوامش:

* فلفريدو باريتو فيلسوف ايطالي وضعي كافح وتمسك بالعلم . وضع أفكاره في كتاب ( العقل والمجتمع ).

1 . أفكار في صراع النظريات السياسية في العالم المعاصر . تأليف ادوارد م. بيرنز . ترجمة عبد الكريم احمد ص 66، أيلول 1975. منشورات دار الآداب .

2 . نفس المصدر .