2011/02/15

الأيام الأخيرة

كانت غرفة صغيرة ، طولها ثلاثة أمتار و عرضها متران، قد بنيت من الطابوق الطيني (اللبن) بناءاً سيئا . لقد بناها جنود وحدتنا العسكرية لتكون سجناً يودع فيه المعاقبون لفترة زمنية قصيرة لمخالفتهم للأوامر و القوانين العسكرية،أو من أصحاب المجالس التحقيقية الذين ينتظرون محاكمتهم . كانت الغرفة أشبه بصندوق عتاد رباعية (الشلكا) المضادة للطائرات ، و إن اختلفت معه في الإبعاد ، و كذلك وجود فتحة صغيرة للتهوية لا يستطيع النفاذ منها سوى حيوان صغير بحجم القط .

على الرغم من هشاشة هذا البناء ، حيث يخيل إليك أنك تستطيع هدمه بركلة قوية ، إلا أنك تشعر، نفسيا ، بجدرانه و كأنها " جدار برلين " في إحكامه و الحراسة المشددة عليه ، رغم إن حارس السجن هو جندي يمسك ببندقية (كلاشنكوف) ، يقضي واجبه الممل و هو ينظر في ساعته اليدوية بضيق من حين لآخر في انتظار بديله ولا يقل تأزما و حنقا و سخطا عن المحبوسين ، و قد يكون واحدا منهم في يوم من الأيام .

نحن ألآن في حالة حرب طويلة ضروس حيث يدخل الجيش فيها ما يسمى بالحركات الفعلية و تنتشر الوحدات العسكرية خارج معسكراتها الثابتة . كان معسكرنا واحدا من تلك المعسكرات المتناثرة في منطقة ( النشوة ) حيث بدت تلك المعسكرات كجزر متناثرة في هذه البيداء الواسعة الإطراف ، إضافة إلى وجود بعض المزارع و القرى الصغيرة التي بقي فيها ساكنوها غير عابئين بالخطر الشديد الذي تسببه المعارك الشرسة لهم على جانبي الحدود ، حيث الأصوات المزمجرة للطائرات الحربية و القصف المدفعي ، و كذلك هدير الدبابات والعجلات العسكرية الذي يكاد أن يكون طقسا يوميا حيث رائحة الموت هي الرائحة السائدة .

كانت غرفة السجن تغص بالسجناء تارة ، و تخلو منهم تارة أخرى، فيما بقي هو الساكن الوحيد الثابت في انتظار ترحيله إلى ( محكمة الثورة ) في بغداد بتهمة سياسية قد تؤدي به إلى ألإعدام . لم يكن يؤنسه في وحدته هذه سوى وريقات و قلم يبثها همومه و شجونه.

لقد كنا صديقين ، ولدنا في شهر واحد وترعرعنا معاً . قلت له : لا أستطيع أن أتصل بك مباشرة فأنت تعرف أن حاسة الشم عندهم عالية . و كان بعض المتعاطفين معه ينقلون لي رسائله التي يبعث بها إلى أهله و أصدقائه حيث احملها لهم في أجازاتي الدورية .

كان آخر ما أرسله إلي خواطره التي دونها قبل ترحيله إلى المحكمة ، و قد ارتأيت نقلها ، بعد تردد مني ، كما هي بدون تدخل.

أحلامي ألأخيرة

مضت علي شهور طويلة ثقيلة ، كليل بهيم حالك لا يبدوا أنه سينجلي ، و أنا قابع في هذه الغرفة الطينية المعلبة بانتظار موعد المحاكمة المعروفة النتائج سلفاً بالنسبة للقضايا السياسة . إن القضايا "السياسية" عندنا متنوعة و غريبة قد تبدأ بتجريمك إذا ما لففت حذائك الجديد أو بقايا طعامك بجريدة، بدون انتباه منك ، فيها صورة القائد أو شعاراً حزبياً. أو تذمرت من شيء كانقطاع الكهرباء أو اختفاء بعض المواد الغذائية . أما قيام مجهول بكتابة شعار ينتقد الحكومة على جدار بيتك ليلاً فهو النهاية لك و لعائلتك . لازلت اذكر أحد الطلبة الذي شاهد مناماً فيه انقلاب عسكري على السيد الرئيس و باح به إلى عدد من أصدقائه و من ثم اختفى بعدها و لم يعرف عنه شيئاً . إما قراءتك لمنشور سري أو انتمائك إلى تنظيم سياسي فهو الطامة الكبرى لك و لعائلتك .

أمسكت قلمي بعد أن تلاشت أصوات المدافع و انفجارات القذائف المختلفة التي مزقت سكون الليل . لقد قضيت الليلة منزويا في زاوية ضيقة من زوايا غرفة السجن الطينية ، طلبا للاحتماء من القصف ! قد يبدو ذلك مضحكا ، فما الذي تستطيع فعله ، هذه الجدران الطينية ، تجاه أبواب جهنم التي فتحت على مصراعيها و ألقت بحممها ؟! إن الغريق قد يتعلق بقشة، كما يقال ، رغم أنها لا تنفع و لا تضر ، و لكنها غريزة التعلق بالحياة . أليست لعبة الحرب هي لعبة الموت؟

ألآن ، بعد أن بلغت بموعد محاكمتي ، أحسست برغبة جارفة في تدوين مشاعري الأخيرة على الورق . قد تستغربون كثيرا من " سياسي " التحدث بما سأتحدث عنه في أيامي الأخيرة . عادةً ما يتحدث السياسيون ، في مناسبات مثل هذه عن ذكريات النضال و مصاعبه ، و حكمتهم الأخيرة و توصياتهم ، إلا أني لم احلم و لم أفكر سوى بحبيبتي !

أرجوكم ألا تشجبوا أو تستنكروا و اسمحوا لي أن اعرض وجهة نظري . لقد فكرت كثيرا قبل أن اكتب اعترافي هذا ، و لكن بدا لي إن اللحظات الأخيرة هي لحظة الحقيقة و الصدق "فمن يوقف نزيف الدم في ذاكرة المحكوم بالإعدام ؟! " قد تجدون ألأمر غريبا و قد تقولون عني : ياله من حسي فاسق ، حيث أني قد أمضيت هذه الشهور و أنا احلم بأحضان حبيبتي ، و لكنني سأصدم فضيلتكم الزائفة بكلمات ( لوركا ) لحبيبته :( كيف أهبك قلبي إذا لم أكن حرا؟) وأنا أقول لكم كيف أكون حرا و أدافع عن قضية ما و أنا اخجل من احتضان حبيبتي ؟!

رؤى و أحلام عديدة قد راودتني طيلة هذه الشهور الثقيلة و لكنني سأدونها برمزية ، حتى لا افرح جلادي إذا ما عثر على هذه الوريقات ، فالجلاد لا يفهم الرمز لأنه غبي دائما و متبلد الذهن ، و حتى لا تصادر هذه الوريقات كما صودرت أحلامي !

* كليل متلفع بالسواد ، ينتظر ضوء القمر .. انتظرتك

و عندما أغتسل الليل بضياء فضي ..

انزوت روحي في ظلال عميقة.

* اقتاد روحي ، ذات مرة في ليلة حالكة ، ملاك لم أرى له مثيلاً .

وحين شاهد عذاباتي ، غاب كشهاب سطع لوهلة .

لقد تركني وحيداً أجتر ألمي .

* عجيب أنا ..

يضنيني ألتوق إلى الارتواء .

وعندما أقترب من حافات روحك ..

ينهار في داخلي رجل شجاع .

* ذات يوم قررت أحلامي أن تغادر إلى بر متشح بلون أخضر .

امتدت أمامها صحراء قاحلة ليس لها نهاية .. ولكن بلا واحات .

رؤى كثيرة ، كوساطات عقيمة ، لم تصالحني مع ذاتي المتمردة . لقد كان هنالك الكثير مما أردت قوله ولكنني لن أمنحهم نشوة معرفة كل شيء عني . سأدع الفضول يقتلهم . لقد راودتني أسئلة شتى لم تجد الإجابة بعد وقد لفها الليل بذأباته المشعثة ، وحيث أني ذاهب إلى ( درب الصد ما رد ) كما تحكي أحدى الحكايات الشعبية ، فأن رجائي الأخير ، والذي أتمنى ألا يصادر أيضاً ، رجائي لمن يعثر على هذه الوريقات أن يرسلها إلى حبيبتي ، وإن تعذر عليه ذلك أرجوا أتلافها مع شكري مقدماً ... وداعاً .

النشوة

1985م

لم أستطع العثور على حبيبته حيث إنها اختفت فجأة ، وهو أمر كثير الحدوث في بلدي ، مما أضطرني إلى أخفاء هذه الوريقات كما أخفي دليلاً جرمياً خطيراً . مرت عقود ثقيلة وتبدل الحاكمون . وحيث إننا لم نعرف مصيره قط حتى أستأذنه في نشر أحلامه الأخيرة لجأت إلى استئذان والدته العجوز .

- أماه .. لقد تغيرت الأمور وصارت عندنا فسحة من التعبير . هل تأذنين لي بنشر أحلامه ؟

ردت العجوز بقرف ولا مبالاة .

- ما الذي تغير ياولدي ، فما زالوا يمنعونه من احتضان حبيبته ؟!

أطرقت برأسها هنيئه ثم قالت : تيتي تيتي .. مثل ما رحتي أجيتي .

أغضبني يأس ومرارة الكلمات التي فاهت بها ألامرأة العجوز ومن أجلها وأجلنا جميعاً صممت على نشر أحلامه علها تساعدنا على احتضان حبيباتنا قبل أن يطبق الظلام تماماً علينا من جديد .

ليست هناك تعليقات: