2011/01/31

تونس – مصر

                 جدل الثورة الاجتماعية والبعد السياسي

لقد أشرت في مقال سابق إلى فرادة الثورة التونسية باعتبارها نموذجاً للثورة الاجتماعية التي تضع الإنسان في صدارة اهتمامها على طريق إلغاء استلابه الاقتصادي والإيديولوجي وكافة أشكال الارتهان والعبودية التي تمس كرامته . بعد تونس ، جاءت الثورة الاجتماعية العظيمة للشعب المصري لتضرب أحد أقوى حلقات السلسلة للأنظمة التبعية والقهر وطبقاتها الطفيلية الحاكمة ، وسط ذهول قوى الهيمنة العالمية وتوابعها في المنطقة التي لم تجد أمامها سوى القمع والإرهاب العلني ، أو خططها السرية في الانتقام من الشعوب عن طريق أجهزتها السرية مستعينة بكل الجماعات المنحطة في المجتمع وشعارها (نحن أو الطوفان) .

على صعيد الأنظمة ، هنالك أمر مشترك بينها إنها تحكم بالحديد والنار وكونها أيضاً أنظمة هشة تسكن الجغرافية ولكنها خارج التاريخ ، أي إنها عبارة عن أنظمة فاشلة ومفتعلة ، بمعنى إنها لا تعبر عن ضرورة معينة ، بقدر ما هي أدوات مفروضة ومصنعة من قبل قوى الهيمنة العالمية . وإذا ما أمعنا النظر في طبيعة الاحتجاجات الجماهيرية وقواها المحركة لوجدنا إنها تختلف جذرياً عن الأساليب والتكتيكات المعروفة في العمل السياسي حيث تصنف على إنها تحركات " عفوية " وغير منظمة ، وهذهِ صورة خادعة ، تستمد تصوراتها من الفهم الكلاسيكي للتنظير والعمل المتكلسة وبذلك تحجر على الجديد بنزعة محافظة ولم تدرك إن الجماهير الخلاقة الساعية إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية قد ابتدأت بابتداع أساليب نضال خلاقة ونقدية ، ليس باتجاه الأنظمة التابعة الحاكمة بل اتجاه بدائلها المعارضة من أحزاب وتيارات تقترب من بنية هذهِ الأنظمة في النوع وتختلف عنها بالدرجة .

إن الجماهير ، بحسها العفوي ، تحاول أن تمنع مشاريع الأنظمة الكامنة المحتملة كبديل عن الأنظمة الحاكمة الحالية حيث نلاحظ ذلك واضحاً في الردود الجماهيرية الحاسمة على أي تنظيم ، وأي كانت إيديولوجيته ، يحاول تجيير حركة الجماهير وحرفها إلى إيديولوجيته الخاصة وشعاراته الفئوية . إن رفض الجماهير للأنظمة الحاكمة وبدائلها الفئوية هو الخيط الدقيق الذي استندت عليه في أطلاق صفة الثورة الاجتماعية على ثورتي تونس ومصر .

إن الثورة الاجتماعية ليست ثورة مطالب اقتصادية معينة أو من أجل بعض الحريات المفرغة من المحتوى كما يحاول البعض تصويرها وإنما هي ثورة تذهب إلى أبعد من ذلك باصطدامها بعنف بالطبقة الطفيلية ونموذج ما يسمى بالاقتصاد الحر الذي تريد فرضه الإستراتيجية الأمريكية على الشعوب ذات الاقتصاد التابع من أجل نهب ثرواتها.

2011/01/27

عرصة (أبو فيصل)

في كل يوم تنقلنا سيارة نقل العمال إلى المعمل بعد أن تلتقطنا من أحشاء الأحياء البائسة, بيد إن أبو فيصل لا يجلس على المساطب الخشبية المحورة – كون السيارة في الأصل سيارة حمل صغيرة - وإنما يقرفص على قدميه عند نهايتها المطلة على الشارع ليرمي بصره بعيدا عن حافة الجانب الأيسر للطريق الإسفلتي خارج المدينة .

منذ أن ولد , لم يمتلك مترا من مساحات الوطن الشاسعة , بل عاش مابين التجاوز والاستئجار دافعا نصف " دم قلبه " وهو تسمية أبو فيصل لأجره الشهري, مقابل غرفة واحدة وملحقاتها.

كان يشكو إلى العم هلكان همه السكني بشكل يومي إلى أن جمع ( العنده والماعنده ) ليشتري عرصة على أطراف المدينة عسى أن يستطيع في يوم ما بناء غرفة يستظل بظلها (ويخلص من طلابة الايجار ) كما قال للعم هلكان .

هذا اليوم كان العم هلكان مرحا فقد وشت به قسمات وجهه ورائحة الهيل التي عبقت وهو يقدم لي قدح الشاي المهيل ويغني بما يشبه التمتمة ( مرينة بيكم حمد وحنة بقطار الليل.. وسمعنة دﮔ اﮔهوة.. وشمينة ريحة هيل ) . لاحظ علامات الاستفهام على وجهي فارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة لم تستطع محو الأخاديد التي حفرتها على وجهه هموم القرون الطويلة التي أنتجها العوز والقهر المستدام موضحا : لابد لمن يعرف أبو فيصل من الابتسام وهو يتحدث عنه . في كل يوم يمتلئ أبو فيصل بالحيوية عندما تقترب السيارة من عرصته حيث يحدد لنا إحداثياتها من خلال نقطة وحيدة هي المعسكر الأمريكي , مما يعرضه إلى العديد من ممازحات رفاقه العمال - بسبب تأديته لهذا الطقس اليومي – وردود فعله الغاضبة مما أغرقنا بنوبات من الضحك لا تنقطع .

المعسكر الأمريكي يجثم كالكابوس على عنق الطريق , ليحصي كل شاردة وواردة , غير انه رغم كل تقنياته المتطورة لم يستطع رصد نظرات أبو فيصل وهي تخترق أسوار المعسكر المحصنة لتفيض حبا وحنانا وحسرة وهي تحتضن ذرات تراب عرصته .

مازال يرمق عرصته كعادته بوله عبر أسوار المعسكر رغم تحوله إلى الجيش العراقي . في هذا الجو المشحون بالسياسة والحديث ذو شجون يتحدث العمال عن الدكتاتورية والديمقراطية فتثار ثائرته وينهرهم ناعتا إياهم بالمجانين .. أبو فيصل لاتهمه السياسة وشجونها فهي لا تبني له دارا ولا تنقذه من جحيم الإيجارات المرتفعة . لم يمتلك دارا لا في زمن الدكتاتورية ولا في زمن الديمقراطية لذا فان من يتكلمون في السياسة هم من المجانين ( المسودنين ) حسب تعبيره . وليس بالديمقراطية وحدها يحيى الإنسان .. والحمد لله الذي يهلك ملوكا ويستخلف آخرين , سنته الأزلية في خلقه والبقاء له وحده .

قال لي هلكان بن تعبان العريان العراقي لم ولن تنتهي قصة أبو فيصل وأمثاله إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح . وهنا سكت هلكان عن الكلام المباح

2011/01/24

ثورة تونس - قراءة أولية

لقد شهد التاريخ ثورات عظيمة تركت أثارها وبصماتها على العالم . ويمكننا الإشارة إلى الثورة الفرنسية وثورة أكتوبر الاشتراكية ، باعتبارهما الثورتين اللتين رسمتا الاتجاهات التي سارت على منوالهما الإحداث في الكثير من دول العالم لعقود طويلة ولربما لقرون من الزمن .

نأتي هنا على الثورة التونسية التي يبدوا من سير أحداثها بأنها الثورة المتميزة الثالثة التي سيكون لها تأثير مشابه للثورتين الانفتي الذكر . أني أرى إنها الثورة الأقرب للثورة الاجتماعية التي تنبأ بها (ماركس) والتي وصفها بأنها الثورة التي لا يخلقها حزب أو عصبة من الرجال مهما كانوا متحمسين وذوي عزم ، كونها نتاج "موقف ثوري ينتج من عدة عوامل : تذمر مزمن ، وانقسام بين أعضاء الطبقة الحاكمة مع انفصال قطاعات مهمة عنها ، كذلك تكرار الأزمات بمعدل متزايد ، إضرابات وشغب ومظاهرات ضخمة ، ثم انهيار النظام القديم نهائياً . الملاحظة المهمة جداً لنجاح الثورة ، كما قال : إن الثورة لا يمكن أن تنجح حتى تقتنع الجماهير بأنها لا تريد النظام القديم ويثبت الحكام إنهم عاجزون عن الحكم ، وهذا ما يحدث الآن في تونس .

إن الطبيعة الاجتماعية لثورة تونس وطبيعة شعاراتها المعبرة عن ذلك : الخبز ، العمل ، الحرية والكرامة ، العدالة ، التي ربطتها بالإطاحة بالنظام القديم وكافة رموزه تمثل ربطاً جدلياً واستلهاماً ذكياً لطبيعة الأزمة والأهداف المرجوة الانجاز ، وكذلك فأنها تمثل وعياً متقدماً لنقض نظام أدت طبيعته البنيوية ، وليس شخصاً بعينه ، إلى ما آل أليه الوضع من أفق مسدود للحياة السياسية والاجتماعية . ومن هنا يمكننا فهم أسباب الإصرار الجماهيري على الوصول بالثورة إلى نقض النظام القديم وبناء نظام جديد محله .

إن المطالب الجذرية المرفوعة هي مطالب حقيقية ملحة أدركها الوعي الجمعي للجماهير وإن إصرارها العظيم على طرحها بقوة واستمرارية ناتج عن وعي مدرك بأن على الثورة أن تهيكل مطالبها على أرض الواقع في ضل إلغاء الاستنكافية السياسية للجماهير وحضورها بقوة في الشارع وهي تدرك إن الحلول الوسطية مثل الحكومة الانتقالية الحالية هي محاولة التفاف على ثورتها وهنا يجب أن يبرز دور القوى الفاعلة الحية للإسراع بتمكين الجماهير من إيجاد مجلس تأسيسي وحكومة انتقالية حقيقية لتصريف شؤون الدولة وإنجاز مشروع دستور وقوانين تهيأ لانتخابات عامة تناقش هذا الدستور وتقره . ويمكن للمراقب ملاحظة حجم المطالبة بإسقاط الحكومة الانتقالية من دون توصل القوى والفعاليات الحية إلى آلية محددة لتحقيق ذلك . هنا أسمح لنفسي بالتحذير من هذه الحالة الشللية الخطيرة في هذه اللحظة التاريخية فأن الزمن أذا ما طال بهذا الوضع فأنه سيسمح لقوى النظام القديم بالتعاون مع القوى الإقليمية والدولية المتضررة من الثورة باستعادة توازنها والعمل على احتواء الثورة وإجهاضها .