2011/01/27

عرصة (أبو فيصل)

في كل يوم تنقلنا سيارة نقل العمال إلى المعمل بعد أن تلتقطنا من أحشاء الأحياء البائسة, بيد إن أبو فيصل لا يجلس على المساطب الخشبية المحورة – كون السيارة في الأصل سيارة حمل صغيرة - وإنما يقرفص على قدميه عند نهايتها المطلة على الشارع ليرمي بصره بعيدا عن حافة الجانب الأيسر للطريق الإسفلتي خارج المدينة .

منذ أن ولد , لم يمتلك مترا من مساحات الوطن الشاسعة , بل عاش مابين التجاوز والاستئجار دافعا نصف " دم قلبه " وهو تسمية أبو فيصل لأجره الشهري, مقابل غرفة واحدة وملحقاتها.

كان يشكو إلى العم هلكان همه السكني بشكل يومي إلى أن جمع ( العنده والماعنده ) ليشتري عرصة على أطراف المدينة عسى أن يستطيع في يوم ما بناء غرفة يستظل بظلها (ويخلص من طلابة الايجار ) كما قال للعم هلكان .

هذا اليوم كان العم هلكان مرحا فقد وشت به قسمات وجهه ورائحة الهيل التي عبقت وهو يقدم لي قدح الشاي المهيل ويغني بما يشبه التمتمة ( مرينة بيكم حمد وحنة بقطار الليل.. وسمعنة دﮔ اﮔهوة.. وشمينة ريحة هيل ) . لاحظ علامات الاستفهام على وجهي فارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة لم تستطع محو الأخاديد التي حفرتها على وجهه هموم القرون الطويلة التي أنتجها العوز والقهر المستدام موضحا : لابد لمن يعرف أبو فيصل من الابتسام وهو يتحدث عنه . في كل يوم يمتلئ أبو فيصل بالحيوية عندما تقترب السيارة من عرصته حيث يحدد لنا إحداثياتها من خلال نقطة وحيدة هي المعسكر الأمريكي , مما يعرضه إلى العديد من ممازحات رفاقه العمال - بسبب تأديته لهذا الطقس اليومي – وردود فعله الغاضبة مما أغرقنا بنوبات من الضحك لا تنقطع .

المعسكر الأمريكي يجثم كالكابوس على عنق الطريق , ليحصي كل شاردة وواردة , غير انه رغم كل تقنياته المتطورة لم يستطع رصد نظرات أبو فيصل وهي تخترق أسوار المعسكر المحصنة لتفيض حبا وحنانا وحسرة وهي تحتضن ذرات تراب عرصته .

مازال يرمق عرصته كعادته بوله عبر أسوار المعسكر رغم تحوله إلى الجيش العراقي . في هذا الجو المشحون بالسياسة والحديث ذو شجون يتحدث العمال عن الدكتاتورية والديمقراطية فتثار ثائرته وينهرهم ناعتا إياهم بالمجانين .. أبو فيصل لاتهمه السياسة وشجونها فهي لا تبني له دارا ولا تنقذه من جحيم الإيجارات المرتفعة . لم يمتلك دارا لا في زمن الدكتاتورية ولا في زمن الديمقراطية لذا فان من يتكلمون في السياسة هم من المجانين ( المسودنين ) حسب تعبيره . وليس بالديمقراطية وحدها يحيى الإنسان .. والحمد لله الذي يهلك ملوكا ويستخلف آخرين , سنته الأزلية في خلقه والبقاء له وحده .

قال لي هلكان بن تعبان العريان العراقي لم ولن تنتهي قصة أبو فيصل وأمثاله إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح . وهنا سكت هلكان عن الكلام المباح

ليست هناك تعليقات: