التهمت عجﻻت
المركبة المسرعة إسفلت الطريق ، وهو
يستعيد ذكرياته ببطء ، وكأنه يتلذذ بها
على مهل .
كانت
المسافات الخضراء الشاسعة تمتد على جانبي
الطريق ..
في هذه
المنطقة ، بالذات ، تعبق رائحة العنبر .
ـ العنبر العراقي
، ﻻ نظير له ..
تذكر العنبر (
ابو
الريحه )
الذي
لم يفتقده مطبخهم يوما ، ورائحته التي
تخترق الشبابيك إلى الشارع والبيوت
المجاورة ..
ـ
لقد استنزفت التربة ، منذ الحصار إلى
يومنا هذا ، كما إن المياه شحيحة بعد أن
اسرها جيراننا .
رد السائق
المتجهم على تساؤله عن تناقص المساحات
الخضراء ، وذبول ما تبقى منها ، وتﻻشي
رائحة العنبر ..
عراق
دون مساحات خضراء واسعة ، وبﻻ رائحة
العنبر ﻻ اعرفه ، ردد ذلك بتبرم وأسى .
ـ يبدوا أنك قد
غادرت منذ زمن بعيد ، قال السائق الشاب ،
نحن هنا ﻻ نشم إلا رائحة النفط والدم .
الحديث المقتضب
الذي دار بينهما قد فرض صمتا ثقيﻻ ..
ابتدئت
المساحات الخضراء تتﻻشى ، إلا من جزر
صغيرة تحيط بالمدن والقصبات المزروعة
على جنبات الطريق .
ابتدئت المسافات
إلى مدينته الحبيبة تتقلص ، والمﻻمح
الأليفة إلى ذاكرته تشي بقرب الوصول .
تسارعت
دقات قلبه كأنها تحاول اختصار الزمن
الثقيل .
ﻻح له
مدخل المدينة ، الذي بدا له غريبا ، وقد
انتابته مشاعر تشبه مشاعره عندما ألتقى
حبيبته للمرة ألأولى ، فيما أبطأت عجﻻت
المركبة أثناء استدارته لولوج المدخل .
ـ توقف ، من
فضلك ..
قرر أعادة
أكتشاف مدينته سيرا على الأقدام .
كانت
خطوته الأولى متمهلة ، كأنه يدخل إلى معبد
مقدس ، .
أخذ يدقق النظر
في الوجوه أمامه فلم يتعرف إلى أحد ..
وجوه
منمطة متشابهة والكل مسرع ..
تذكر
الوجوه المتمايزة والخطوات المتمهلة
التي كانت تميز الناس :
أين
ألناس ؟ قال في سره ..
لم
يعرفني احد ولم اعرف أحدا .
سوغ
لنفسه ..
ـ أنها عقود
طويلة من الغربة ويبدوا ان الكثيرين قد
رحلوا !
الحروب
المجنونة والموت المجاني قد ألتهم الكثيرين
.
وﻻ شك
إن الكثيرين قد كبروا أو ولدوا بعد هجرتي
.كان
هذا الشارع احب الشوارع لديه ، فضائه
المفتوح يلتحم بالفضاء الﻻمتناهي ، كثيرا
ما أنتابه شعور أنها تسبح في الفضاء .
ـ كيف يمكن لروح
(
حسن )
من
أختراق هذه الفضاءات المحاصرة لو أنه
غادرنا الآن ؟!
كانت
آخر ليلة شاهدناه فيها عندما اقتادوه
لدائرة اﻷمن لنجد جثته في النهر بعد أيام
.
شعر
باكتئاب شديد ..
كل شيء
غريب هنا وخانق ..
سأذهب
إلى دار السينما الوحيد لأرى فيلما قد
يهدأ أعصابي ..
كانت
دار السينما تأخذ مساحة واسعة في قلب
المدينة ، ودائما ما تراها مكتظة بالمتفرجين
.
ـ من فضلك يا
أخ ، ألم تكن هنا دار للسينما ؟!
ـ أي سينما يا
أخي ؟ قال الرجل وهو ينظر إليه كما ينظر
إلى كائن فضائي ، لقد تحولت إلى دكاكين
ومخازن تجارية ومقرات .
سحق عقب سيكارته
بغضب بقدمه ، ثم وضع أخرى بين شفتيه متجها
ألى مراب النقل الخارجي ، مستقﻻ أول مركبة
تغادر المدينة .