2010/12/12

القمع والانقماع

لا يمكن إطلاق أحكام معممة على التاريخ , ولكن ظاهرة القمع والانقماع قد وجدت منذ قرون وترسخت واستمرت إلى يومنا هذا - ويبدوا للمتدبر إنها ستستمر ما لم يفاجئنا التاريخ - مشيرة إلى أن هناك أسباب معممة تخرج أحيانا عن منطق الأشياء فتضطرنا إلى دراسة لامنطقها. استمرار الفعل والعقل القامع والانقماعي في مجتمعاتنا وتمفصله في كل خلية من خلايا حيواتنا يخرج عن منطق التاريخ وعلوم الإنسان الأخرى وهي أدواتنا في تحليل الظواهر والجواهر وفهمها .
توقف عن الكلام ريثما ملأ أقداح الشاي وقدم لي لفافة تبغ آخذا واحدة لنفسه ومازحني قائلا: لا فائدة من الشاي بدون سيكارة وبالعكس فهنالك علاقة جدلية تربط بينهما ... أدركت من خلال مزاحه المتفلسف انه يهيئني لموضوعة فيها شيء من الفلسفة فأخذت على نفسي أن اتركه يسترسل غير إنني لم استطع إخفاء نظراتي المتسائلة والمستفهمة اعتمادا على أن العم هلكان من الذين ( يلكفونهة وهية طايرة ) كما يقول المثل الشعبي.
ابتسم ابتسامة خفيفة واستطرد موضحا لست ممن يعتقدون بالتفسير الواحدي ولا بانعزال المناطيق بعضها عن بعض , بل بتفاعلها تفاعلا جدليا في إنتاجها للتشكيلات الاجتماعية - الاقتصادية ووسمها بميسمها . ليس المقصود بذلك تساوي المناطيق في تأثيرها فمازال قانون البنية التحتية يلعب دورا رئيسيا في تحليل وفهم البنى الفوقية ولكن ليس بالفهم المسطح السائد فالمناطيق الأخرى لها استقلاليتها النسبية , ودينامياتها المؤثرة والمتأثرة في صياغة الأحداث . وقد يبرز تأثير واحد من هذه المناطيق أو أكثر ليكون له التأثير الأهم , وعلى العموم فأن ذلك يرجع إلى مجمل النشاط الإنساني والسايكولوجيا الجمعية المكونة لجماعة بشرية معينة , خصوصا إذا كانت موغلة في القدم , أو متطرفة في الاعتزاز بذاتها . وقد يصل الأمر إلى ‘‘ثبات’’ بعض القيم وعومها في بحور الأزمنة اللاحقة لزمانها وان حصلت متغيرات في البنية التحتية وبذلك تشكل كابحا لإنتاج قيم تتطلبها هذه المتغيرات .
تضاحكت مخاطبا العم هلكان ( هاي ينراد الهة استكان جاي وجكارة ) فبدلا من أن توضح قد أزدتني غموضا . صب لي قدحا من الشاي وقدم لي لفافة تبغ وقال ( لا تستعجل على رزقك) . وأضاف .. لقد وجدت من خلال معاصرتي للأزمنة المختلفة إن الأشياء تتغير , وان الشيء الدائم هو ( إن دوام الحال من المحال ) ولكنني قد وجدت القمع والانقماع شيء ‘‘دائم’’ عندنا وهذا مخالف لطبيعة الأشياء , حيث أن طبيعتها التغير والتحول حيث تحمل جرثومة فنائها في ذاتها , فما بال القمع والانقماع عندنا قد شذ عن منطق الأشياء ؟ صمت قليلا ثم أضاف :
القمع صفة رذيلة وفي معانيه صرفك عما تريد فعلا وفكرا وقولا وفي نتائجه قهرك وإذلالك وردك حيث يأخذ منك ألانت ويجعلك ألهو . يستلبك ذاتك ويلغيك وفي ذاته يحتويك , فأنت شبح لذاته . ينتج عن ذلك النمطية والتنميط والظلال الباهتة للواحد وبذلك يحل العلاقة مع الآخر بإلغاءه . ينتج هذا الإلغاء الاستبداد وينتج الاستبداد طرفي علاقة لا وسط بينهما , الطرف القامع والطرف المقموع فيكون الثاني نسخة من الأول . تولد هذه العلاقة الشاذة الانقماع أي مطاوعة القمع وتبريره من المنقمع وبذلك يكون المنقمع مازوشيا والقامع ساديا فيتشرب القمع والانقماع في كامل النسيج الاجتماعي والذاتي الفرداني ليصل إلى قمع الجسد والعقل ويتحكم بهما ويشوههما منتجا سيكولوجيا سادية أو مازوشيا أو باجتماع الاثنين في الجسد والعقل الواحد, فيكون النظام العام والخاص شموليا وتدخليا يرسم للذوات مساراتها ( فالعثة تفقس ما بين الإنسان وثوب النوم وزوجته وتقرر صنف المولود ) ملغية بذلك عبقرية الطفولة الواعية بكل براءتها ومغامراتها المحكومة بالتساؤل الدائم والكشف والاستكشاف فالإنسان يولد على الفطرة ولكن ؟!
القمع حقيقة عارية والانقماع حقيقة ملتبسة ومهما اختلفت مناطيقها فان لامنطقها واحد وهو البربرية المتوحشة , فهي السلطة أولا وهي قدس الأقداس وترنيمة السلطوي في السياسة وفي الفكر وفي الجماعة ابتداء وانتهاء بالذات القامعة .
مجتمعات القمع تنتج الشخصية الازدواجية فتوحد النقائض في الذات الواحدة . تخلق شخصيات منافقة وواهنة , عديمة المبادرة , تابعة مطيعة ذليلة , ومتمردة أنانية شرسة وفي ذات الوقت مستهينة بذاتها , إنها مرض جمعي . قلت له : لم هذا الثبات للقمع والانقماع على عكس منطق التاريخ ؟ أجاب : ابحث في نمط الإنتاج الراكد والدوائر المغلقة للكثير من الأشياء وقد يكون الأوان قد آن لمثقفيكم وباحثيكم أن يكدوا الفكر ويكدحوا العقل للبحث في آليات اشتغال اللامنطق أي بمعنى تجاوز المناطيق العديدة السائدة فهي صائتة صامتة قد فقدت منطقها ولم يبقى منها سوى الصراخ .
أثارت أفكاره عندي تساؤلات مهمة وجوهرية وددت طرحها عليه غير انه سكت عن الكلام المباح إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح .

ليست هناك تعليقات: