2010/10/26

رحيل المختار



هل نحن مجتمع طارد للثقافة والحضارة ؟

رحل عنا عبد الخالق المختار رحيلا مأساويا . كان واحدا من الكثرة الكاثرة من المبدعين العراقيين على اختلافهم الذين لم تستطع كل منافي العالم ، على سعتها ، احتوائهم . فهم بين منفي في وطنه وهو خائف يترقب ، أو جائع يموت على أرصفة الشوارع ، وبين منفي خارجه ، لا فرق ، حيث يتشظى في منفاه حنينا . وفي الحالتين ، لم يمنعهم شظف العيش والتهميش ، ولا القتل والحصارات المتعددة من الإبداع والعطاء لوطنهم وناسهم .
لا أريد شخصنة الموضوع في المختار ، بل مناقشة الظاهرة رغم إن المختار كان علما في فنه ومحبا لوطنه . لقد كان له من الحضور في أعماله الفنية ما أوحى إلي إنه الأصل ، وإن الشخصية التي يؤديها هي الممثل واترك الحديث عنه أكثر لمن عاشره وعرفه عن قرب .
نفي المختار أو إجباره على نفي نفسه ليس نفيا فرديا وإلا هان الأمر قليلا ، ولطالبنا بمحاسبة المقصرين أشد الحساب . لكنه ظاهرة تمتد إلى أزمنة عميقة في تاريخنا ، وتحتاج إلى رؤية نقدية معمقة وتأسييسه للإجابة على السؤال الخطير : هل نحن مجتمع طارد للثقافة والحضارة ؟
حتى يكون نقدنا جذريا ومؤسسا لحل حقيقي ، علينا أن نخرج من نطاق المماحكات السياسية الضيقة وثقافتها المتحزبة تماما – وهي أحد الأسباب المهمة لعرقلة الوعي بالإشكالية حسب رأيي المتواضع – والمتمثلة بنقد حقبة سياسية معينة لا لشيء سوى إننا من خصومها ، على اعتبار إنما عندنا أفضل ، علينا الخروج إلى أفق أرحب بنقد يأخذ الظاهرة بأبعادها وأزمنتها المختلفة .
هنا نطرح الأسئلة : كم من مبدعينا ومفكرينا وعلمائنا كانت لهم أرصفة الشوارع ملاذا أو الغرف الضيقة البائسة سكنا ؟ كم منهم تألم أو مات لأنه لا يمتلك ما يعالج به نفسه ؟ كم منهم اضطهدوا أو اغتيلوا أو اسكتوا لأنهم جعلوا حرية الإنسان وإنسانيته وكرامته راية لهم ؟ كم منهم طوردوا من منفى إلى منفى ؟ أسئلة لا يحتويها الكم الكبير من المبدعين .
لم يضطهد المعتزلة في زمن الدكتاتورية الذاهبة ولم يتحول أخوان الصفا أو القرامطة إلى جمعية سرية في زمن الاحتلال والديمقراطية . لم ينف ألجواهري ومظفر النواب على يد كافور الإخشيدي ولم يحاول الخليفة العباسي نفي عبد الخالق المختار . ولم يغتال المتنبي بعد أن مل منافيه الكثيرة في عهد عروس الثورات . فالحلاج كان وما زال وسيضل يختفي ويصلب ، والمعري كان ولا يزال رهين المحبسين إنها أزمة الإبداع والمبدعين منذ قرون وما زالت وستستمر إن لم نقم بنقض حقيقي لذلك .
نفي الثقافة والإبداع والاختلاف ومحاصرتهم ما زالت عرف سائد و "ثقافة" عابرة قاهرة لأزمنتنا المختلفة المتعاقبة وذات جذر تاريخي بعيد موغل بالقدم . إن لعن بعضنا لبعض ، نحن مؤيدي حقبة معينة ومبجليها ضد الأخرى المخالفة ، وإلقاء اللوم على بعضنا البعض لا يعني سوى الهرب من جوهر المشكلة والقفز إلى مظاهرها الكاذبة والمسطحة .
صراع الأضداد المتشابهة هذا ليس حلا ومن دون نقد جذري لذواتنا جميعا ولموروثنا التاريخي ولحاضرنا البائس مع اكتشاف علله وأسبابه ومسبباته فسوف نظل ندور في قلب الدوامة، نلوك مصائبنا ونجترها ، دون أن يمنع ذلك من موت المختار مرة أخرى منفيا وهو يصارع المرض . حتما سنكتفي بتشييع مهيب إن تمكنا من ذلك أو سمحت به توازنات أنظمة القهر ، ليس من أجل الفقيد فقط ، بل لأجل أنفسنا وثقافتنا المحاصرة أيضا .

ليست هناك تعليقات: