2010/10/19

قصة قصيرة __ الرحيل



بين الفينة والأخرى نودع مبدعا . كثير ما يحرص صديقي الشاعر على حضور مراسم التشييع والدفن المهيبة للراحلين من مبدعينا الذين يسقطون غالبا إما على مشارح المنافي ، أو يموتون بحوادث غامضة تقيد دائما ضد مجهول ، أو جوعا على أرصفة شوارع الوطن . كنا في زمن قيل إنه انتهى نتناقل بهمس ، كأننا نتناقل منشورا سريا ، خبر رحيل أحدهم ومعاناته بعد ان تتناقلها أجهزة المذياع الذي تبتلع أغلب موجاته العاملة ، موجات أجهزة التشويش الموجه باستمرار عليها . أما الآن فإننا نطلع على التفاصيل الدقيقة لمعاناتهم حيث تعرض الفضائيات تلك المعاناة كما تعرض بضاعة كاسدة . فهي تعرض هذه القمم الشاهقة في لحظات ألمها وهي بائسة أو في النزع الأخير ... قال صديقي الشاعر باستهجان وغضب
- القمم لا تقبل الشفقة ( والأشجار لا تموت إلا واقفة ) وإن انحنت قليلا أمام الرياح العاتية ... إني أفضل رؤيتهم كشيخ همنغواي وليس كسمكته .
كعادتنا في الاهتمام بماسينا بعد حدوثها ، نحرص على دفن مبدعينا بشكل لائق ولا بأس بحضور عدد من كبار المسؤولين والمبدعين للسير خلف الجنازة بوقار رسمي وإلقاء كلمات التأبين المؤثرة ... وبعد إلقاء الكلمات الوداعية وإيداع الفقيد الثرى ، يذهب كل منا إلى شأنه بانتظار رحيل مبدع آخر .
حاورت الشاعر عن سر مواظبته على حضور تشييع كل من يرحل فاطرق مليا ، وكأنني فاجئته، ثم أجاب :
- لا أدري ... ربما كنت أشيع نفسي .
تأوه قليلا ثم إنسابت كلماته المحتقنة بقلقه
أي هدوء صاخب هذا القلق الأزلي في انتظار الذي لا يأتي
ها قد أعددت مركبي ... سأبحر في بحرك غير عابئ بشيء
الدفة المفقودة والشراع المتشظي قد لا يقوداني إلى مرسى
تائه أنا أيه الزمن التائه في الذرات اللامتناهية
ولكن مع ثقتي إنك مثلي لن تصل إلى ميناء ...
لكنني سأضع يدي بيدك لنبحر باتجاه المجهول
ما هي إلا أيام حتى رحل صديقي الشاعر مع حياة ولم يودعني لكنه ترك لي قصاصة ورق دون عليها ...
أتضامن معكم يا أصدقائي المتسكعين على أرصفة الزمن
إن عذاباتكم هي عذاباتي ... وإن جذور قلقكم هي جذور قلقي
ولكي لا ننسى سنذبح أفكارنا معا لتختلط مبهجة الأزهار البرية
اعتذرت له بأن مبدعينا كثيرا ما يرحلون فجأة بلا وداع . كانت حياة صبية جميلة فارعة ، جميلة المكورات ودقيقتهما ، كثيرا ما قال لي إن مشيتها وانثناءات جسدها موسيقى . طلب منها أن يختلسا لحظات من الزمن .
- تعالي لنطلق على هذا العالم البائس إطلاقة رحمة واحدة . لنخترق كل الحواجز ونبصق على كل الكلمات المنمقة ... النفاق المغلف بالفضيلة.
مرت فترة من الزمن لنسمع خبرا موجزا عن جثتين ألقت بهما مياه البحر إلى احد السواحل المنسية لشاعر وحبيبته ، لم يعرف وطنهما ، وقد دفنا في قبر واحد على الساحل .
تبرع الكثيرون بطائرة خاصة لنقل جثمانيهما الطاهرين ليشيعا ويدفنا في أرض الوطن وقد لبس الجميع الوجوه الرسمية الحزينة التي تليق بالحدث الجلل ، كما أعدت كلمات الرثاء والدموع اللازمة للبكاء على الفقيدين ... رفضت ذلك بصفتي صديقه ومنفذ وصيته محتجا ... لقد شيع الشاعر نفسه.

ليست هناك تعليقات: