2010/10/13

إشكاليات بناء الدولة العراقية



الدولة العراقية الأولى

مقدمة من التاريخ
لا يختلف اثنان في كون العراق أو بلاد الرافدين واحدا من أهم وأقدم حضارات الاجتماع الإنساني ، وكذلك فهو من البلدان الأكثر ثراءا طيلة تاريخه ، سواء بثرواته وموارده الطبيعية أو بثرواته البشرية . لقد نشأت فيه ومنه انطلقت حضارات كبرى وثورات فكرية وحركات اجتماعية بارزة شكلت علامات هامة في سجل التاريخ . وبسبب ثرائه وخيراته وموقعه الاستراتيجي ، فقد كان دوما عرضة للتدخلات الأجنبية في شؤونه . كما حكم في عديد من الأدوار السياسية من سلالات من خارجه ، وإن كان العديد منها قد ذاب وأندمج في نسيجه الاجتماعي . وبسبب هذه الأمور ، من بين أمور أخرى ليس هنا محل بحثها ، طبعت الشخصية العراقية بطابع الشعور بالحيف والتمرد والشخصية الديناميكية القلقة والمتطرفة ، سواء في مراحل نهوضها أو في مراحل تراجعها ، وفي علاقاتها السياسية و الاجتماعية و الفكرية .
ومن خلال هذا الإرث الطويل من الصراعات والتدخلات الخارجية فقد كان للعوامل الخارجية وما زال دور مؤثر وفاعل في تشكيل بنى المجتمع العراقي السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحديد مساراتها .
لا أريد من هذا الطرح القول إن المجتمع العراقي ، وبالأخص في أدوار تراجعه ، كان عبارة عن بيادق شطرنج يناقلها العامل الخارجي ، فإن الشخصية الاجتماعية العراقية لم تستكن ولم تخضع لمحاولات كسر إرادتها وتهميشها ، يشهد على ذلك تاريخ الاضطراب السياسي المعروف في العراق ، وإن لم تصل هذه الحركات في الأغلب إلى غاياتها المنشودة .
استنادا إلى ذلك فقد شاعت نظريات وتفسيرات خاطئة بل ومغرضة وبنيت عليها استنتاجات قشروية حول عدم قدرة العراقيين على أكمال ما بدؤوه وعدم إمكانيتهم في أقامة دولة مستقرة ، كنتيجة طبيعية تتعلق بطبيعة الشخصية العراقية ، وإن العراق لا يمكن حكمه أو المحافظة على وحدته إلا بأساليب الإكراه والاستبداد وإلا تفكك إلى وحداته الأولية ووصل الأمر بالبعض إلى اعتبار العراق كيانا مصطنعا ؟! وفي الحقيقة إنها نظرات مسطحة ووحيدة الجانب ، لا ترى سوى قمة الجبل الجليدي الغاطس في عمق البحر .
يتناسى هؤلاء إن العراق هو الحضارة الأقدم في الكون ، ويتناسون الدول المهمة التي قامت على أرضه . وإن حدوده الحالية هي جزء من حدوده القديمة ، أي إنها دولة حافظت على كيانها آلاف السنين ، هذه الحقيقة التي تنقض جذريا كل هذه الطروحات . ولكي نقترب بمقاربة موضوعية لفهم الاضطراب السياسي في الاجتماع العراقي فأن هنالك إشكاليتين رئيسيتين قد تكمنان خلف ذلك .
الإشكالية الأولى هي التناقض بين الثروات الهائلة التي تمتع ويتمتع وسيتمتع بها البلد ، مقابل الفقر المدقع واللامساواة والتهميش التي تعاني منها أغلبية الشعب العراقي .
الإشكالية الأخرى هي تركز السلطة والنفوذ والجاه في أيدي أقليات (أوليغارشيات) اجتماعية ضيقة : اقتصادية ، قبلية ، دينية ، عسكرية ... وكثير منها من الجماعات الوافدة الذائبة في المجتمع العراقي وغير المتجذرة بعيدا في عمقه التاريخي مقابل حرمان أغلبية الشعب من سيادته على مصائره وتهميشه . ويبقى السؤال قائما : ما الذي يفعله شعب حيوي مثل الشعب العراقي كثير الاعتداد بذاته سوى التمرد والاحتجاج والثورة ؟ حتما سيبقى ذلك قائما ما دامت الإشكاليتين المذكورتين قائمتين وفاعلتين .. وبحل هذين التناقضين وتجاوزهما عن طريق بناء دولة مدنية علمانية حديثة تمهد لبناء الدولة ـ الأمة عندها سنرى أي نموذج مبدع الذي سيقيمه الشعب العراقي ويستعيد من خلاله دوره المبدع في رفد الحضارة الإنسانية بالانجازات المتميزة . في الوقت ذاته علينا أن نعترف بأننا لم نتجاوز هذين التناقضين لحد الآن ، وأن عناصر الدولة ـ الأمة لم تتبلور سياسيا وفكريا واقتصاديا واجتماعيا .
لقد تركت المرحلة المتخلفة للسيطرة العثمانية على العراق ، والصراعات العثمانية الفارسية على أرضه ، بلدا متخلفا يعيش حالة المجتمع الأهلي ، كعامل أساس ، حيث يعيش بعضه منعزلا عن البعض واقعيا على صعيد السياسة والاقتصاد والمجتمع ، كتجمعات محلية ، حيث يضعف المشترك الوطني لصالح ولاءات ضيقة على أساس العرق والطائفة والمنطقة والعشيرة والمحلة والزعامات المختلفة والعوائل وما إلى ذلك . ما الذي يمكن أن تنتجه بنية كهذه سوى إيديولوجية وقيم وعادات لبها التعصب لهذه الروابط وبذلك كان مجتمعا أيديولوجيا غير واقعي يمثل استلابا حادا للمجتمع المدني الحديث ومعوقا لنشوء دولة مدنية حديثة تمثل الأساس المادي لبناء الدولة ـ الأمة ، إذا فهمنا الإيديولوجية بمعنى الوعي الزائف للمجتمع الواقعي . من الظريف إن الأدب كان أكثر وعيا من الفكر السياسي حيث قرأت في رواية قديمة ما ذكر على لسان فلسطيني مقيم مخاطبا أحد العراقيين : عجيب أمركم أيها العراقيين تموتون في التظاهرات من أجل الوطن وتسجنون وتضحون ولكنكم تهدمون اقتصادكم بتهريب الأغنام إلى الدول المجاورة .
لقد عبرت هذه الرواية عن جوهر هذه القصة ... إن معظم قيمنا وأهدافنا تقع في المستوى الإيديولوجي ألشعاراتي المنفصل عن المستوى الحقيقي الواقعي ، بل المضاد لهذه القيم والأهداف في الكثير من السلوك الاجتماعي ، وفي مثل هكذا ظرف تنموا و"تزدهر" روابط المجتمع ما قبل المدني وممثليه الديماغوجيين الذين يلعبون دورا كبيرا في التأثير على شرائح اجتماعية واسعة تعاني من الاغتراب .
حتما لا يمكن اختزال التاريخ في مقدمة ، ولكننا أردنا من خلال ذلك الخلوص إلى ومضات قد تلقي الضوء على جوانب إشكالية فيها الكثير من العتمة ، من خلال قراءة الخلفية التاريخية لمجتمعنا وأزمته الحالية ، ولتفهمها بشكل أفضل ، ينبغي إلقاء نظرة على مرحلة التأسيس الأولى وهي قيام الدولة العراقية عام 1921م .
تأسيس الدولة العراقية الأولى
لقد أعتمد الاحتلال البريطاني الأول على استغلال وإذكاء تناقضات المجتمع العراقي وتوظيفها بإدارة الأزمات وليس حلها ، وذلك من خلال إستراتيجية المعروفة في إدارة المستعمرات (فرق تسد) لصالح أقامة وإدامة بنية كولونيالية تابعة وخاضعة للهيمنة ، ومن الطريف إن الحس الشعبي كان مدركا لذلك من خلال مقولة شائعة آنذاك مفادها (إذا رئيت سمكتين قد تعاركتا في البحر فأعلم إن بريطانيا وراء ذلك) . كما ساهم في إعادة تشكيل الطبقات الاجتماعية ـ الاقتصادية و أنتاج طبقة سياسية ، كقاعدة للنظام ، من كبار ملاك الأراضي والشرائح الكمبرادورية وكبار الضباط الذين خدموا من الدولة العثمانية وبعض الشرائح الهامشية التي تعتاش على الخدمات لهذه البنية وذلك من خلال العديد من القوانين التي حولت الملكية العامة للأراضي العشائرية إلى ملك لشيوخ العشائر وتجذير الطابع العشائري بقانون دعاوى العشائر والامتيازات التي حققها الضباط العثمانيون السابقون . والخطوة الأشد خطورة للتحكم بالاقتصاد العراقي هي تسليم النفط ـ الذي يمثل الثروة الأساسية في العراق كبلد يعتمد على الاقتصاد ألريعي ـ إلى الشركات الاحتكارية البريطانية في أغلبه ، وكذلك ربط الدينار العراقي بالجنيه الإسترليني وبذلك أحكمت سيطرتها على الاقتصاد العراقي ، فمن يمتلك الاقتصاد يمتلك السياسية ، وبالتالي أقامت نظاما كولونياليا تابعا ، حتى قيل (إذا عطست بريطانيا أصيب العراق بالزكام) . كما كان للقوى المسلحة نصيبها إذ صمم الجيش لحماية النظام أكثر من حمايته لسيادة البلد وحدوده من حيث العدة والعدد والتسليح ولكنها لم تفلح في إخماد روحه الوطنية إذ إن قاعدته العريضة تكونت من الطبقات الشعبية الفقيرة والمضطهدة التي لم تكن بعيدة عن هموم أبناء شعبها وقد ساهم ذلك في تسييس العسكر وشجع تدخلهم المسلح في الحياة السياسية . بذلك ، استطاعت بريطانيا أن تقيم نظاما اقتصاديا ـ اجتماعيا تابعا ذو بنية معقدة أمنت لها استدامة مصالحها لحين قيام ثورة 14/تموز/1958 م .
محاولة جادة لبناء مجتمع مدني
لقد كثر الحديث عن ثورة 14 تموز واختلفت التقييمات لها بين قدح ومدح. هل هي ثورة أم انقلاب أم ماذا ؟ لفهم ذلك الحدث علينا أن نبتعد عن المماحكات السياسية المجيرة للدفاع عن المواقف السياسية المختلفة للقوى التي خاضت الصراعات آنذاك ، ونحلل مواقف الثورة وإجراءاتها في مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية . الخطوة الأولى لهذه الثورة كانت إعلان النظام الجمهوري وهي خطوة راديكالية اتجاه النظام القديم . كذلك الانسحاب من حلف بغداد والصداقة مع الاتحاد السوفييتي مدركة جدلية البنية التابعة للنظام الملكي وبعدها الخارجي المهيمن ، وبذلك كانت ثورة من الناحية السياسية .
أما في الجانب الاقتصادي والاجتماعي فقد قامت حكومة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم بإجراءات مهمة لتفتيت البنية السابقة بإصدار قانون الإصلاح الزراعي الذي فتت الملكيات الكبيرة وإن لم يلغيها تماما . كما أصدر قانون رقم 80 الذي سحب امتيازات احتكارات النفط الأجنبية وتولى العراقيون العمل للاستخراج وتسويق النفط . كما حرر العملة العراقية من تبعيتها واعتمادها على الجنية الإسترليني . إن هذين العصبين الرئيسين للاقتصاد وهما الثروة النفطية والعملة العراقية قد وفرا بعد تحريرهما الشروط الأساسية لمقاومة الضغوط الخارجية واستقلال البلد الحقيقي .
من الإجراءات المهمة الأخرى ، إصدار قانون الأحوال الشخصية الذي أعطى الكثير من الحقوق ممهدا لضرب الأساس الإيديولوجي ، شبه الإقطاعي ، الذي نظر إلى المرأة نظرة دونية وهمشها عن الفعل الاجتماعي ، ممهدا الطريق لتحرير النساء وانخراطهن بشكل واسع بالحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية . كما قامت الثورة بانجازات كبرى فيما يتعلق بحياة الطبقات الشعبية في مجالات الإسكان والصحة والتعليم وغير ذلك .
يمكننا أيضا ملاحظة ظواهر مهمة تمهد لبناء مجتمع مدني واقعي ، حيث ازدهرت نشاطات الاتحادات والنقابات المهنية التي مثلت مصالح طبقات أساسية وشرائح مهنية مختلفة في المجتمع بفاعلية مؤثرة . كما إن الحراك السياسي للمنتظمات السياسية كان واسعا وعلى أشده بغض النظر عن طبيعة ونتائج ذلك الحراك .
يمكننا القول إن ما حدث في 14 تموز كان بداية لثورة سياسية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية غير مكتملة ، أنجزت الكثير في عمر قصير واعية إلى حد ما بإشكالات اقتصاد التبعية وجدل العلاقة بين مسبباته الداخلية والخارجية. لقد استنهضت مقومات بناء مجتمع واقعي مدني ، بيد إنها عجزت عن بناء شكله السياسي الديمقراطي المؤسساتي . يرجع ذلك لأسباب ذاتية وموضوعية ، وإن حاولت متأخرة الشروع في مشروع كتابة دستور دائم وديمقراطي ينظم الحياة السياسية في المجتمع العراقي . بيد أن قوى الردة استطاعت وئد التجربة بانقلاب 8/شباط/1963م تحت شعارات إيديولوجية مختلفة ، مثلت تحالفا غير مقدس بين قوى المجتمع الأهلي القديم وقوى من العسكر والبرجوازية الصغيرة لتعيد الهيمنة الأجنبية ولكن بشكل نيوكولونيالي : استقلال شكلي وتبعية حقيقة . بذلك انتكست مسألة بناء مجتمع مدني وإمكانية بناء الدولة ـ الأمة لصالح إنشاء الدولة ـ السلطة التي استمرت لحين احتلال العراق في 9/نيسان/2003م .

ليست هناك تعليقات: