2011/02/21

زمن يحتضر .. زمن يولد

تنشط التحليلات السياسية و يدلي الكل بدلوه ، في حوار غير مسبوق، بعد أن انطلق تسونامي الثورة و التغيير بشكل جارف لم تنفع معه كل سدود العالم القديم التي لا تصمد كثيرا حتى تبدأ بالانهيار ، ليجتاح النظام الرسمي العربي ، حيث ابتدأ العقل الجماهيري الجمعي يتشكل بممارسة عملية نقدية اتجاه النظام القديم المتآكل و المتقيح . و حتما انه سيجد تعبيراته الفكرية و القيمية و التنظيمية مع الحراك السريع المتجدد كما هو منطق التاريخ.

ابتدءا علينا أن نؤكد أن الآم الولادة والمخاض ليست سهلة بل عسيرة، في حالة التغييرات الكبرى ، و أن قوى المجتمع القديم لن تخلي الساحة بسهولة. كما ان الكثير من جهات الهيمنة الخارجية دولية و إقليمية ستحاول التسلل لاستثمار ما يجري و حرفه عن أفقه و بذلك نغلق الجدل غير المفيد الذي يحاول نقل اتجاهات الصراع من وقائعه الحقيقية إلى وهم حقائق افتراضية تحرف الأذهان و الأفعال إلى مسارب أخرى.

بعد أن فشلت الأنظمة التقليدية القروسطية ، و كذلك أنظمة العسكر المتداخلة مع أحزاب و أنماط تفكير و سلوك اقرب إلى النمط الفاشستي التي قادت ما سمي بحركات التحرر الوطني التي فشلت في بناء اقتصاد متطور يخرج بلداننا من حالة التبعية الاقتصادية –السياسية للمراكز الرأسمالية المتطورة ليتحول حكامها إلى حكام فاشست يحكمون مدى الحياة. بعد إن فشلت كل هذه الأنظمة ساد التخلف و الفقر و نهبت ثروات هذه البلدان بين طبقات طفيلية محلية و نهب خارجي منظم ، علما إن ثروات هذه البلدان ، الطبيعية و البشرية الهائلة تجعل من هذه الدول في مصاف الدول الكبرى المتقدمة. لو كان هنالك أنظمة وطنية ديمقراطية حداثوية .

بعد كل هذا الإذلال و الجوع و القمع و تحول الكثير من القادة و الأحزاب و الحكام إلى أنصاف آلهة و عصابات سياسية مافيوية انتفضت الجماهير لتثأر و لتكنس أسباب و مسببي بؤسها بعد أن كسر الشعب التونسي حاجز الخوف و كشف هزال و كارتونية هذه الأنظمة و عجزها لتفوح الرائحة النتنة لفضائحها لتتحول هذه الانتفاضات إلى ثورات كبرى .(و هذا ما يبدوا جلياً في حالة ثورة مصر حيث اصطدمت مبكراً برأس النظام لتطيح به و لم تهدأ مطالباتها بعد ذلك إلا بإسقاط النظام بكل رموزه و مؤسساته).

ومن خلال ثورتي تونس و مصر ترى أن الزمن الجديد قد ابتدأت ملامحه ترتسم كثورة جماهيرية سلمية متحضرة تربط بين قيم المواطنة و الحداثة و الحرية و العدالة الاجتماعية ورفض القائد الضرورة أو الأحزاب الضرورة لتقطع صلاتها بقيم النظام القديم الزائفة عن الأبطال المنقذين . لقد استطاعت هاتان الثورتان عزل و تطويق كل أساليب الأنظمة الانحطاطية و أعمال (البلطجة) و التخريب ليحموا المؤسسات و المدن و الأحياء من شرور تخريب الأنظمة و الفئات المنحطة .الطبقة السائدة بكل قيمها التخريبية تقابلها قيم الثورة بمحافظتها على مصالح و أمن الشعب و لا بأس أن تذكر حماية المتحف المصري من قبل المحتجين . الدرس المهم الذي أفرزته الثورتان هو و حده الهدف و الشعارات مما و حد الجماهير و وحد احتجاجاتهم لتثمر و تحقق النصر و لم تسمح للفئويين و أصحاب الأجندات المختلفة من ركوب موجة الثورة بل حجمتهم و جعلتهم مصدر قوة للثورة لا مصدر ضعف و بذلك قطعت الطريق على الاختلافات الضارة التي قد تمزق الثورة .

لقد كانت الشعارات واضحة و محددة، الحرية و الكرامة و العمل و العدالة الاجتماعية، و بذلك اصطدمت بالجوهر ، بأنظمة الطبقات الكومبرادورية الطفيلية و مشاريع اللبرالية الجديدة التي تسعى إلى إطلاق قوى السوق العمياء و خلق طبقات حاكمة من سراق المال العام و وكلاء الشركات الأجنبية الذين يسعون إلى الثراء الفاحش السريع على حساب الشعب الذي يعيش في فقر مدقع و كبت للحريات و إلغاء لوجود الإنسان و حقوقه مقابل توفير الشروط اللازمة لنهب ثروات الشعوب و إعادة تدوير رأس المال ليصب في جيوب الاحتكارات الكبرى للدول المهيمنة.

بعد النجاح الذي حققته ثورتا تونس و مصر و اندلاع الثورة في العديد من دول المنطقة تحاول القوى الحاكمة المحلية و قوى مراكز الهيمنة العالمية أن تقطع الطريق على انتشار هذه الثورات بمحاولات مشبوهة لدمج أساليب الفوضى الخلاقة بأساليب الثورة الخلاقة لتخريبها و خلق الأجواء للقوى الفاشية و الظلامية لتصدر هذه الثورات و تخريبها و أقامت حكومات استبدادية فاشية بتغليب قوى الفوضى الخلاقة على قوى الثورة الخلاقة لخلط الأوراق من جديد.

يشهد العراق، كغيره من الشعوب المضطهدة ، احتجاجات جماهيرية واسعة حيث يبدو المشهد العراقي أكثر تعقيدا و خطورة لوجود الهيمنة الأجنبية المباشرة – الاحتلال – إضافة إلى وضع سياسي و اجتماعي و اقتصادي و امني هش تخترقه التدخلات الخارجية ، و كذلك هيمنة طبقة سياسية فاشلة تتصارع على النفوذ و المغانم مما يتطلب الانتباه الشديد للأجندات الخارجية و الداخلية المشبوهة التي لا تخدم المصالح العراقية و الحذر من استغلال البعض من أطراف هذه الطبقة السياسية لتجيير هذه الاحتجاجات لمصالحها الحزبية الضيقة.

2011/02/15

مقامة الأمير الشامي ونخيل البصرة

حدثنا الحكيم هلكان السومري العراقي ، بعد اكتمال نصاب جلسة المقامة السومرية ، قائلا : حدثنا القاضي ابن عبد ربة الأندلسي عن حكاية الأمير  الشامي . قال : إنه بعث أمير من السلالة الحاكمة في الشام ليكون واليا على البصرة .

وقد تربى هذا الأمير وعاش في أجواء الشام المعتدلة وقصورها الغناء عيشة الترف والدلال ، فكان أن أزعجه جو البصرة الحار وعكرت مزاجه رطوبة البحر . فاستدعى ذوي العلم ليسألهم عن السر في ذلك فأجابوه بضرورة هذه الحرارة لإنضاج البلح ، فما كان من الأمير الجهبذ إلا إيجاد الحل السديد فاصدر أمره الفريد بقطع نخيل البصرة عسى أن يذهب الحر وتنطفئ اللوعة والحسرة .
    ويبدوا إن هذا الأمير الضرورة قد سن سنة سيئة ، عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، قد سار عليها الكثير من حكام بلاد الرافدين وشعبها وصارت قاعدة محكمة يستنبطون منها وعلى ضوئها حلولا لكل الأمور فاستن منها قانون لا يمكن نقضه إذا اعترض على نقضه ثلاث نفرات مفاده قطع القدم لتلاءم الحذاء أو قطع رأس العروس لتمر من الباب . وفي الوقت الذي روي لنا والعهدة على الراوي إن بعض العلماء المجانين يحاولون اختراع يوصل الكهرباء إلى المستهلك بدون واسطة من أسلاك وملحقاتها ، يقترح علينا بعض ذوي الشأن والفراسة استخدام ( المهفات اليدوية ) لما في ذلك من حفاظ على تراثنا وأصالتنا وضرورة مخالفة الكفار في كل شيء ، وحتى لا تلحق ( المهفة اليدوية ) التي تراجعت أمام التكنولوجيا الكهربائية أخواتها من آثار سومر وسائر حضارات وادي الرافدين التي نهبتها عصابات سرقة التاريخ والآثار . ويذكرنا أصحاب هذا الاقتراح إن أجدادنا الفاتحين العظام قد فتحوا العالم في وقت الحر الشديد وهم يحملون هذا الاختراع العجيب ولم يشكوا أبدا من الحر كما تشكون الآن وتتظاهرون . لقد صرتم تفكرون بالكهرباء والأدوية والماء الصالح للشرب والعطالة البطالة والمصانع العطلة والزراعة المهملة وغيرها من سفاسف الأمور وتركتم الهدف العظيم للتغيير وهو استكمال بناء الديمقراطية الفدرالية وإنجاح العملية السياسية ، شفاها الله من إسقامها ، وهي من عظائم الأمور . فإذا تركتم هذا الأمر الخطير فبم تباهون الأمم ؟!
    كما ألقى بعضهم اللوم على الشعب الذي يتجاوز على بعضه البعض ولا يأخذ بالحسبان حسابات الكي في والواط والميگا والأمبير بنظر الاعتبار . وهم لا يكتفون بمبردة واحدة في البيت أو مصباح واحد ترشيدا للاستهلاك متناسين إن الظلمة ( الهندس ) وما توفره من جو شاعري ، وانتظار ضوء القمر مما يدعوا المفكرين إلى التأمل والعشاق إلى اللقاء وبذلك يتطور الأدب والفن عندنا ويحل الغزل والحب محل النهب والسلب . كما القت الحكومة اللوم على الحكومة وأخواتها من كتل واحزب بعد أن اكتشفت ، بعد خراب البصرة ، إنها المتجاوز الأكبر على القطع ( المدعثر ) فإن خطوط الطوارئ العلنية ( ومن تحت العباه ) تصل إلى بيوت الحكام والوجهاء والحبائب والنسائب فيقضمونها قضم الإبل نبتة الربيع ، مما جعل الشعب غير الصبور ، الجاهل بخفايا الأمور ، يحتج على الحكومة . ويقوم بإعمال شغب غير مفهومة ، مع الأسف الشديد ، متناسين إننا شعب حضاري فالقوا ببعض الحجارة على الزجاج متفهمين المثل الشعبي ( كوم حجار ولا هل جار ) بشكل خاطئ متأثرين بشعب كندا وأمثاله من الشعوب المتخلفة التي قامت بإعمال شغب أقلقت قادة العالم الصناعي حيث ( داخوا ) من هذه الإعمال فجاءت قراراتهم في قمة ( تورنتو ) هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع .
    وإننا إذ ننتقد الشعب المشاغب الذي اقلق الحكومة وزاد من ( دوختها ... همة عايزين ياعم ) واستنادا إلى إستراتيجية الأمير الشامي وحكمة الإقطاعي الذي قال للفلاح في القصة المعروفة : ( ابعد زرعك عن دوابي ) فإننا نقترح إبعاد الشعب العراقي إلى بلاد الاسكيمو وجوها المنعش في الصيف إلى أن تتشكل الحكومة في شباط القادم البارد جدا لعله يبرد أعصاب السياسيين ويضعون الحلول لمشاكل الشعب العراقي راجين ألا تكون حلولا على طريقة الإقطاعي العراقي أو على طريقة الأمير الشامي .

مقامة الشنگة وصورة الزعيم

حدثنا الحكيم السومري ، هلكان بن تعبان الملقب بالعراقي العريان عن صاحب فرن الصمون في محلة ( قهوة شكر ) البغدادية الأصيلة في الخمسينيات من القرن الماضي . قال : جاءني رجل ليشتري الصمون فنظر إلى ( الشنگة ) وهي قطعة من العجين تقطع لتكون صمونة خبز ، فقال : إن الشنگة اقل من الوزن المطلوب الذي وضعته الحكومة ، وإنها أخذت بالحسبان مصلحة البائع والمستهلك . فأجابه صاحب الفرن : ( هاذا هو عمي ) وهي جملة تعني إنهاء الموضوع وكان صاحب الفرن قد وضع في مكان بارز صورة كبيرة للزعيم عبد الكريم قاسم ، رئيس الوزراء آنذاك ، فقال الرجل بعد أن نظر إلى الصورة : ( لو تكبر الشنگة وتصغر الصورة ) وكان الرجل هو الزعيم صاحب الذكر الطيب واليد والذمة النظيفة عبد الكريم قاسم .

إن العراق ، بلاد الرافدين ، منذ الأزل هو رغيف الخبز المعطاء بثرواته العظيمة وخيره الوافر الذي يفيض على أهله لو وزعت خيراته بالعدل ولكنه ابتلي دوما بالطامعين من الغزاة وبالفئات الداخلية والحكومات المستأثرة على أهلها بكل شيء ولو كان بهم خصاصة . الشعب يعيش دوما البؤس والحرمان ويتعرض إلى الجور والطغيان فيما ينعم الحكام وذوي القربى منهم ، نسبا أو نفاقا ، بالعيش الرغيد والبأس الشديد ( على عينك يا تاجر ) .

لقد قيل قديما إن الظلم إذا دام دمر ، وإن الظلم يدمر الظالم والمظلوم معا ، فتتكون ظلامة جديدة ومظلومون جدد ينتظرون الفرصة للثأر والانتقام . وبذلك ستضل أحلام الناس في الكرامة والحرية والعيش الكريم مجرد سرابا وشعارات قد تؤدي إلى تفجير المجتمع .

إن البقاء في ثقافة الدائرة المغلقة ، حكاما ومحكومون ، تعني إن اللف عبد الكريم قاسم سيعدم ويخفى قبره . وإن الكادح عبيد الشطري ، بائع الدجاج المتنقل ، سيضل سنوات طويلة يصرخ وهو يجول في الأسواق ( قتلوه بوية .. الزعيم بوية .. وجهه بالقمر بوية ) . كذلك لن يستطيع الزعيم التجول أبدا وهو متنكر في أزقة و( درابين قهوة شكر ) ليتفقد أمور الناس ، ولن ( يوقع احد على قرار إعدامه ) كما وقع الزعيم قانون رقم ( 80 ) الذي مهد للعراقيين السيطرة على نفطهم منتزعا إياه من براثن الاحتكارات النفطية لتفيض خيراته على العراق وطنا وشعبا معامل ومدارس ومستشفيات ودورا للفقراء .

لقد كان الزعيم الراحل طيب أكثر من اللزوم حيث أن المطلوب هو إلغاء الصور وليس تصغيرها ، وإن كان الزعيم يعبر عن رفضه في ذلك للنفاق ، ولتكن الصورة الوحيدة المرفوعة هي صورة المواطن الإنسان التي تحتجب من اجل كرامته وحريته ورفاهة كل صورنا فالعدل أساس الملك وليس أي شيء آخر . لو حدث هذا لعادت بلاد الرافدين مهدا للحضارة ومركزا للإشعاع وسيعم خيرها على الجميع وعندها لن يجرأ أحد على إعدام الزعيم وإخفاء قبره مرة أخرى ، ولن يتأمل الكادح عبيد أبو الدجاج صورة الزعيم على سطح القمر .