جلس أبو حسن على أحد أكياس الطحين المرصوفة في المخزن ، وهو يتابع الحركة البندولية لعاملي السحب من ماكنتي السحب إلى (ريز) أكياس الطحين المرصوفة على مسافة قريبة من المكان ، وبالعكس . يقوم عامل السحب بالباس الكيس في فتحت الماكنة المدورة وما أن يمتلئ حتى يقوم بتلقيم الماكنة كيسا آخر ثم يرصف الكيس المملوء في مكانه من الريز . بينما يقوم عامل التحميل (المشيلچي) برفع الأكياس على أكتاف زملائه من العتالين الذين يقومون بدورهم برصفه في سيارة النقل التي تقف أمام باب المخزن .
نظر إلى رقاص ساعة المخزن الكبيرة في حركته الرتيبة مقارنا بين حركته وحركة العمال المكررة في رواحهم ومجيئهم . كانت وجوه العمال التي تتعاقب أمامه متشابه .. العيون الجاحظة تحت ضغط الكيس ، المستقر على الكتف والمستند على الرقبة ، فيما كانت نظرات عيونهم خابية وغير معبرة .. يؤكد ذلك تشابه تعابير وجوههم .
راقب الأطفال بدهشة الخطوط المنسقة لارتال من النمل حيث تذهب إلى مكان ما لترجع بعد ذلك حاملة حبيبات الحنطة لتخزنها في مخازنها تحت الأرض . امسك حسان عودا من الخشب ليقطع به رتل النمل فيحرفه عن مساره وسط ضحكات رفاقه وهم يرون ارتباك النمل وتشتته شمالا ويمينا . ما أن رفع حسان العود حتى انتظم النمل مرة أخرى في مساره فيما انتقل الارتباك أليهم .
- كيف يفعل النمل ذلك بدقة رغم حجمه الصغير جدا ؟!
- يبدوا إن له عقلا كبيرا . أجاب حسان .
أفاق أبو حسن من ذكريات الطفولة واعترض رتل العمال .
- أبا حسن .. أرجوا أن لا تكون قد أصبت بأذى ؟
قال ذلك العامل بعد أن صدم أبا حسن بكيس الطحين لعدم انتباهه لوجوده . ضحك أبو حسن مجيبا :
- كلا .. يبدوا إن الإنسان يحتاج إلى استعادة طفولته أحيانا .
- فوق .. قال العامل المشرف على الحساب للعتال الذي قام بإلقاء الكيس في أعلى الريز . فوق .. تحت .. الزاوية ، ثلاث كلمات يستخدمها فقط فيما يقتل الوقت بممارسة العاب هاتفه النقال . نشب فجأة شجار بين العمال وتعالت أصواتهم ..
- صلوا على نبيكم .. انتم إخوان .
- اتركهم فهم هكذا على الدوام ، يتشاجرون ثم يتصالحون .
قال العامل المشرف على الحساب ذلك لأبي حسن . العمل في معمل شيء جديد على أبي حسن حيث مارس أعمال هامشية بعد تخرجه .
- لماذا لا تبحث عن وظيفة .. ما فائدة الدراسة وتعب السنين ؟
- لا أريد الدخول إلى عش الدبابير برجلي – قال أبو حسن لزوجته – أن تكون موظفا بالدولة يعني إنك في قبضتهم .
أغلقت أبواب المدرسة وجمع المدير الطلاب .
- سنخرج بتظاهرة ومن يتسرب سوف يعاقب .
كثر تسرب أبو حسن وبذلك كثرت محاسبته .
- سأشكوكم إلى مدير التربية .. لقد خالفتم تعليمات الوزارة .
أحتج أبو حسن على مدير المدرسة وقد ورمت كفاه من الضرب المبرح بالعصا .. لكن الإدارة لم تكف عن إجبار الطلاب .
- المدرسة مدرستنا .. ومن لا يعجبه الأمر فليغادرها .
أجاب المدير بذلك على تساؤلات الطلبة واحتجاجهم . قرر الطلاب الإضراب .
ألقي القبض على أبي حسن وعدد من رفاقه بتهمة التحريض على الإضراب وقيادته . تم التحقيق معهم في مديرية الأمن .
- أنت معادي للحكومة .. ما هو انتمائك السياسي ؟
قال ذلك مدير الأمن لأبي حسن حيث نظمت له (صحيفة أعمال) . منذ ذلك الوقت صار من المشبوهين . أشعل ابو حسن لفافة تبغ جديدة بعد أن سحق سابقتها بقرف ، وكأنه يسحق ذكرياته ، ثم أطلق نفس كبيرا من الدخان الذي أختلط بغبار الطحين الذي ملئ المخزن ليشكل سحابة كثيفة .