2011/02/15

شهادة رجل ميت

كان جسدي مسجى . حاولت تحريك يدي دون جدوى ، بل إني فشلت حتى في تحريك بنان أصابعي . أذهلني كثيرا الصقيع الذي اجتاح جسدي ، رغم إننا في عز القيض ، وصار كل شيء فيه سكونا مطبقا . رددت زوجتي اسمي بطريقة غريبة ، لم أعهدها من قبل ، صرخت بها :-

- ما بك يا أمرآة ، لم تناديني هكذا ؟
أمسكت بيدي ورفعتها إلى الأعلى ، كما يحدث في الأفلام القديمة ، ثم تركتها لتهوي إلى جانبي كخشبة متيبسة . نضرت إلي نظرة بلهاء ثم صرخت
- يبوو يبوو ، لقد مات . لقد مات زوجي .
توالت صرخاتها وازدادت حدة ولوعة لتشق سكون الليل .
- اصمت بالله عليك ، فأن صوت الليل مسموع .
    استمرت بالصراخ بل أخذت تضرب وجهها وصدرها بعنف فيما امتلأت الغرفة تدريجيا بمجاميع متعاقبة من النساء وكلما جاءت مجموعة جديدة تلقتها النساء المتواجدات لتبدأ جولة جديدة من الصراخ واللطم . ويمكن لنا تصور حجم الصوت الذي تحدثه هذه الأجسام الممتلئة وتأثيرها المتضخم على أذني الملتصقة بالأرض .
- أدرن وجهه إلى القبلة ! قالت أحدى العجائز وهي تتمتم بكلمات في إذني لم أتمكن من سماعها بسبب الأصوات غير المتناغمة مما سبب لي صداعا حادا وشعورا بالقرف والغثيان ... اصمتن .. اصمتن ! تلاشى صوتي في ذلك الصخب ، بل ربما لم يكن لي صوت أصلا . في عين الوقت ، صعب علي كثيرا فهم حرقة هذه النسوة فالكثير منهن لا تربطني به صلة حميمية ، بل لم أر بعضهن في حياتي .
  بابا .. بابا ، صرخت طفلتي الصغيرة باكية وهي تشد جسدي إليها فحاولت تهدئة روعها بالمسح على رأسها دون جدوى مما اسقط في يدي فانتابني شعور حاد بالعجز والحزن جاءت جوقة جديدة من النساء المعزيات فلفت انتباهي من بينهن فتاة ذات قوام فارع وجسد رشيق لم أر مثلها في مدينتنا قط . لا أكتمكم سرا – فلا يليق بالميت أخفاء أي شيء – إن هذه الحورية قد استولت علي تماما ، فقد بعثت الدفء في أوصالي الباردة  وكان لطمها اقرب إلى الرقص وقد تموج شعرها كما تتموج مياه نهر غاف عندما تمر عليها نسمات هواء ربيعي هادئ . همست :
- امنحيني قبلة أيتها الفاتنة ؟
- يا للعار ، لا يحق لرجل ميت أن يطلب شيئا كهذا ؟
لم أر مصدر الأصوات الغاضبة التي عنفتني وقد بدت كحشرجة النزع الأخير رغم ذلك حاولت تسجيل احتجاجي ساخطا .
- لماذا لا يحق لي ذلك ؟
لم يجبني احد فصمت مرغما واختلست النظرات إلى وجه الفتاة الحورية فاضطرم بحمرة خجل وقد أزداد رقصها رقة وانسيابية كلما حملقت فيها .
      احتشد عدد كبير من الرجال في غرفة الضيوف والوجوم يخيم عليهم كأن على رؤوسهم الطير بعضهم يدخن وآخرون يطرقون  رؤوسهم وعيونهم تحدق في الأرض كما انشغل البعض باللعب بلحيته أو بمسبحته . قطع بعضهم الصمت الثقيل فاسترجع ليؤمن آخرون على استرجاعه ، فيما الوقت يمر بطيئا كزائر ثقيل الظل . قال الحاج :
- الله يرحمه ، لقد كان رجلا طيبا وشهما .
تعالت أصوات كثيرة تؤكد ذلك .
- نعم ، مرة احترق منزل جارنا وكان المرحوم أول من ...
تكاثرت التعليقات التي تشير إلى مناقبي ونسبت إلي أشياء حميدة كثيرة . لم أسجل رواية تروي عني مثلبة واحدة من مثالبي ، نعم كنت صادقا وصريحا إلى درجة ما ، ولكني أصبت بالذهول لكثرة ما نسب إلي من مناقب . قلت في سري يبدو إنهم يتكلمون عن رجل آخر .
  أكثر ما أثار استغرابي مدح الحاج فقد كان ديدنه مهاجمتي في غيابي . صرخت غاضبا اخرجوا هؤلاء المنافقين فلا أريد مشاركتهم في جنازتي .
    لم يعرني احدهم انتباهه فاكتفيت بالتذمر لنفسي . قال الحاج  :
- انظروا إلى الدنيا كم هي تافهة ولم يأخذ منها الإنسان سوى الكفن . لا شيء ينفعه سوى عمله ، فعليكم بصالح الأعمال .
    أثنى الرجل ميسور الحال على قوله مؤكدا .
- القليل من يتعظ  ، لا افهم سر تكالب الناس على حطام هذه الدنيا الفانية !
نظر أليه البقال – وهو مستأجر لإحدى محلات عمارته – نظرة غل دفين سرعان ما تلاشت . لقد كان يرفع سعر أجارات محلاته بدون مسوغ ، ولكنه امن على قوله صدقت والله يا حاج .. صدقت . تعالت أصوات الجميع لتأكيد ذلك ما عدا الفنان الذي كان ملتزما بالصمت وقسمات وجهه تظهر قرفا وتبرما وهو ينظر بين الفينة والأخرى إلى الساعة الكبيرة المعلقة على الجدار وقد أزعجه كثيرا البطء الشديد لحركة بندولها الثقيل .
    بدا لي واضحا إن العدوى قد انتقلت إلى الآخرين فاخذوا يختلسون النظر إلى الساعة وهم يعدون الدقائق لنقل جثماني إلى المقبرة ومواراته الثرى .
- لماذا تأخرتم بإحضار التابوت ؟
عنف كبير العائلة الشباب الذين كلفوا بجلب التابوت فشعروا بالحياء وأخذوا يتبادلون النظرات .
- لماذا لا تجيبون هل أصبتم بالخرس ؟
- إن خادم المسجد كان في حالة تستوجب الغسل فانتظرناه حتى فرغ من ذلك .
يا لله .. يا الله ، تنادى بعض الرجال قبل دخولهم إلى غرفتي . تريثوا هنيهة ثم دخلوا مسرعين انحنى رجل مسن ليغمض جفني وسط صرخات النساء التي تعالت بشدة يبوو ، يبوو .. يبوو . انطلقوا بي إلى قبري ، بعد تغسيلي ، ووسدني حفار القبرفي قبري ثم اهال التراب وانصرفوا مسرعين كأن أشباحا تطاردهم .
    فجاءه لف الصمت المكان فشعرت بوحشة مخيفة وخرجت إلى سطح الأرض فأنعشني الهواء وصار جسدي جميلا وحيويا وامتلكت صفات لم امتلكها من قبل . اخترق نظري المسافات الطويلة ليتوقف عند مرج اخضر توسطته نافورة ماء عذب والفتاة الحورية تستحم مع طفلتي وعلى مقربة منها الفنان وقد اختفى الوجوم الذي كان يسود ملامح وجهه . اعترضني سكان المدينة الغاضبون ، يقودهم الرجل الميسور الحال ، لقطع الطريق علي وهم يحملون معاولهم لإعادتي إلى قبري من جديد وكان كل شيء فيهم مقززا .
    اخرج الفنان ، من بين أدواته ، نايا جميلا واخذ يعزف عليه لحنا فتحول جميع أهل المدينة إلى أصنام فتخطيتهم واعتنقت الحورية طويلا وسط الحان الناي فيما كانت الطيور تزقزق وهي تعتلي أعالي الشجر الباسق .

الأيام الأخيرة

كانت غرفة صغيرة ، طولها ثلاثة أمتار و عرضها متران، قد بنيت من الطابوق الطيني (اللبن) بناءاً سيئا . لقد بناها جنود وحدتنا العسكرية لتكون سجناً يودع فيه المعاقبون لفترة زمنية قصيرة لمخالفتهم للأوامر و القوانين العسكرية،أو من أصحاب المجالس التحقيقية الذين ينتظرون محاكمتهم . كانت الغرفة أشبه بصندوق عتاد رباعية (الشلكا) المضادة للطائرات ، و إن اختلفت معه في الإبعاد ، و كذلك وجود فتحة صغيرة للتهوية لا يستطيع النفاذ منها سوى حيوان صغير بحجم القط .

على الرغم من هشاشة هذا البناء ، حيث يخيل إليك أنك تستطيع هدمه بركلة قوية ، إلا أنك تشعر، نفسيا ، بجدرانه و كأنها " جدار برلين " في إحكامه و الحراسة المشددة عليه ، رغم إن حارس السجن هو جندي يمسك ببندقية (كلاشنكوف) ، يقضي واجبه الممل و هو ينظر في ساعته اليدوية بضيق من حين لآخر في انتظار بديله ولا يقل تأزما و حنقا و سخطا عن المحبوسين ، و قد يكون واحدا منهم في يوم من الأيام .

نحن ألآن في حالة حرب طويلة ضروس حيث يدخل الجيش فيها ما يسمى بالحركات الفعلية و تنتشر الوحدات العسكرية خارج معسكراتها الثابتة . كان معسكرنا واحدا من تلك المعسكرات المتناثرة في منطقة ( النشوة ) حيث بدت تلك المعسكرات كجزر متناثرة في هذه البيداء الواسعة الإطراف ، إضافة إلى وجود بعض المزارع و القرى الصغيرة التي بقي فيها ساكنوها غير عابئين بالخطر الشديد الذي تسببه المعارك الشرسة لهم على جانبي الحدود ، حيث الأصوات المزمجرة للطائرات الحربية و القصف المدفعي ، و كذلك هدير الدبابات والعجلات العسكرية الذي يكاد أن يكون طقسا يوميا حيث رائحة الموت هي الرائحة السائدة .

كانت غرفة السجن تغص بالسجناء تارة ، و تخلو منهم تارة أخرى، فيما بقي هو الساكن الوحيد الثابت في انتظار ترحيله إلى ( محكمة الثورة ) في بغداد بتهمة سياسية قد تؤدي به إلى ألإعدام . لم يكن يؤنسه في وحدته هذه سوى وريقات و قلم يبثها همومه و شجونه.

لقد كنا صديقين ، ولدنا في شهر واحد وترعرعنا معاً . قلت له : لا أستطيع أن أتصل بك مباشرة فأنت تعرف أن حاسة الشم عندهم عالية . و كان بعض المتعاطفين معه ينقلون لي رسائله التي يبعث بها إلى أهله و أصدقائه حيث احملها لهم في أجازاتي الدورية .

كان آخر ما أرسله إلي خواطره التي دونها قبل ترحيله إلى المحكمة ، و قد ارتأيت نقلها ، بعد تردد مني ، كما هي بدون تدخل.

أحلامي ألأخيرة

مضت علي شهور طويلة ثقيلة ، كليل بهيم حالك لا يبدوا أنه سينجلي ، و أنا قابع في هذه الغرفة الطينية المعلبة بانتظار موعد المحاكمة المعروفة النتائج سلفاً بالنسبة للقضايا السياسة . إن القضايا "السياسية" عندنا متنوعة و غريبة قد تبدأ بتجريمك إذا ما لففت حذائك الجديد أو بقايا طعامك بجريدة، بدون انتباه منك ، فيها صورة القائد أو شعاراً حزبياً. أو تذمرت من شيء كانقطاع الكهرباء أو اختفاء بعض المواد الغذائية . أما قيام مجهول بكتابة شعار ينتقد الحكومة على جدار بيتك ليلاً فهو النهاية لك و لعائلتك . لازلت اذكر أحد الطلبة الذي شاهد مناماً فيه انقلاب عسكري على السيد الرئيس و باح به إلى عدد من أصدقائه و من ثم اختفى بعدها و لم يعرف عنه شيئاً . إما قراءتك لمنشور سري أو انتمائك إلى تنظيم سياسي فهو الطامة الكبرى لك و لعائلتك .

أمسكت قلمي بعد أن تلاشت أصوات المدافع و انفجارات القذائف المختلفة التي مزقت سكون الليل . لقد قضيت الليلة منزويا في زاوية ضيقة من زوايا غرفة السجن الطينية ، طلبا للاحتماء من القصف ! قد يبدو ذلك مضحكا ، فما الذي تستطيع فعله ، هذه الجدران الطينية ، تجاه أبواب جهنم التي فتحت على مصراعيها و ألقت بحممها ؟! إن الغريق قد يتعلق بقشة، كما يقال ، رغم أنها لا تنفع و لا تضر ، و لكنها غريزة التعلق بالحياة . أليست لعبة الحرب هي لعبة الموت؟

ألآن ، بعد أن بلغت بموعد محاكمتي ، أحسست برغبة جارفة في تدوين مشاعري الأخيرة على الورق . قد تستغربون كثيرا من " سياسي " التحدث بما سأتحدث عنه في أيامي الأخيرة . عادةً ما يتحدث السياسيون ، في مناسبات مثل هذه عن ذكريات النضال و مصاعبه ، و حكمتهم الأخيرة و توصياتهم ، إلا أني لم احلم و لم أفكر سوى بحبيبتي !

أرجوكم ألا تشجبوا أو تستنكروا و اسمحوا لي أن اعرض وجهة نظري . لقد فكرت كثيرا قبل أن اكتب اعترافي هذا ، و لكن بدا لي إن اللحظات الأخيرة هي لحظة الحقيقة و الصدق "فمن يوقف نزيف الدم في ذاكرة المحكوم بالإعدام ؟! " قد تجدون ألأمر غريبا و قد تقولون عني : ياله من حسي فاسق ، حيث أني قد أمضيت هذه الشهور و أنا احلم بأحضان حبيبتي ، و لكنني سأصدم فضيلتكم الزائفة بكلمات ( لوركا ) لحبيبته :( كيف أهبك قلبي إذا لم أكن حرا؟) وأنا أقول لكم كيف أكون حرا و أدافع عن قضية ما و أنا اخجل من احتضان حبيبتي ؟!

رؤى و أحلام عديدة قد راودتني طيلة هذه الشهور الثقيلة و لكنني سأدونها برمزية ، حتى لا افرح جلادي إذا ما عثر على هذه الوريقات ، فالجلاد لا يفهم الرمز لأنه غبي دائما و متبلد الذهن ، و حتى لا تصادر هذه الوريقات كما صودرت أحلامي !

* كليل متلفع بالسواد ، ينتظر ضوء القمر .. انتظرتك

و عندما أغتسل الليل بضياء فضي ..

انزوت روحي في ظلال عميقة.

* اقتاد روحي ، ذات مرة في ليلة حالكة ، ملاك لم أرى له مثيلاً .

وحين شاهد عذاباتي ، غاب كشهاب سطع لوهلة .

لقد تركني وحيداً أجتر ألمي .

* عجيب أنا ..

يضنيني ألتوق إلى الارتواء .

وعندما أقترب من حافات روحك ..

ينهار في داخلي رجل شجاع .

* ذات يوم قررت أحلامي أن تغادر إلى بر متشح بلون أخضر .

امتدت أمامها صحراء قاحلة ليس لها نهاية .. ولكن بلا واحات .

رؤى كثيرة ، كوساطات عقيمة ، لم تصالحني مع ذاتي المتمردة . لقد كان هنالك الكثير مما أردت قوله ولكنني لن أمنحهم نشوة معرفة كل شيء عني . سأدع الفضول يقتلهم . لقد راودتني أسئلة شتى لم تجد الإجابة بعد وقد لفها الليل بذأباته المشعثة ، وحيث أني ذاهب إلى ( درب الصد ما رد ) كما تحكي أحدى الحكايات الشعبية ، فأن رجائي الأخير ، والذي أتمنى ألا يصادر أيضاً ، رجائي لمن يعثر على هذه الوريقات أن يرسلها إلى حبيبتي ، وإن تعذر عليه ذلك أرجوا أتلافها مع شكري مقدماً ... وداعاً .

النشوة

1985م

لم أستطع العثور على حبيبته حيث إنها اختفت فجأة ، وهو أمر كثير الحدوث في بلدي ، مما أضطرني إلى أخفاء هذه الوريقات كما أخفي دليلاً جرمياً خطيراً . مرت عقود ثقيلة وتبدل الحاكمون . وحيث إننا لم نعرف مصيره قط حتى أستأذنه في نشر أحلامه الأخيرة لجأت إلى استئذان والدته العجوز .

- أماه .. لقد تغيرت الأمور وصارت عندنا فسحة من التعبير . هل تأذنين لي بنشر أحلامه ؟

ردت العجوز بقرف ولا مبالاة .

- ما الذي تغير ياولدي ، فما زالوا يمنعونه من احتضان حبيبته ؟!

أطرقت برأسها هنيئه ثم قالت : تيتي تيتي .. مثل ما رحتي أجيتي .

أغضبني يأس ومرارة الكلمات التي فاهت بها ألامرأة العجوز ومن أجلها وأجلنا جميعاً صممت على نشر أحلامه علها تساعدنا على احتضان حبيباتنا قبل أن يطبق الظلام تماماً علينا من جديد .

2011/02/05

الثورة الخلاقة ضد الفوضى الخلاقة

                   قراءة في ثورتي تونس و مصر

لقد شاع مصطلح "الفوضى الخلاقة " في الأدبيات السياسية باعتباره الإستراتيجية المفضلة لقوى الهيمنة العالمية بقيادة الولايات المتحدة لتفتيت بلدان العالم و تجزئتها ، و بالتالي إدامة الهيمنة و ضمان أفضل الشروط لتحكم الرأسمالية العالمية بالشعوب و مصائرها و جعل هذه الشعوب و اقتصادياتها الزيت اللازم لمحركات النظام العالمي "الجديد" الذي تعصف به الأزمات البنيوية التي لا يستطيع ألفكاك منها .

يلعب هذا المصطلح دوره التحريضي في قطع الطريق على أي نشاط ثوري جماهيري للجماهير نتيجة لخلط الأوراق في محاولة لخلق حالة من التماهي بين الاحتجاجات التي تنتجها ماكنة الفوضى الخلاقة ، و بين الاحتجاجات الثورية الساعية لتقويض أنظمة اللبرلة الاقتصادية المتطرفة، المفروضة من النظام العالمي الجديد ، و ما أنتجته من طبقات سائدة من اللصوص و الطفيليين ، الذين يستغلون السلطة لتكوين ثروات هائلة، أو من أصحاب رؤوس الأموال الذين ينمون ثرواتهم عن طريق الزواج الكاثوليكي بين السلطة و الثروة، مكونين حلفاً فاشستياً ضد الشعوب التي تزداد فقراً حيث يواجهون أبسط مطالبها بالقمع الوحشي.

و من هذا المنطلق تأتي الماكنة ألإعلامية الضخمة ، سواء الإعلام المصري الرسمي أو سائر الإعلام المشابه، من أشاعة هذا الخلط و تنسيب الثورة المصرية إلى نمط من أنماط الفوضى الخلاقة "لتخريب مصر" باعتبارها القوة الإستراتيجية الأهم في العالم العربي و أفريقيا ، بينما تأتي أفكار أخرى من المسكونين بعقلية المؤامرة بمنح أمريكا قدرة ألآله الذي يتحكم بكل شيء،فينسبون خروج هذه الملايين في الشوارع إلى العصا السحرية للساحر الأمريكي ؛ و يمكننا أن نشير بين قوسين أن عصي سحرة فرعون التي أخافت الناس و شلت قدراتهم قد أبطلتها عصى موسى في لحظة ، و هكذا تفعل ألآن الجماهير المحتشدة في ساحة التحرير.

و لمزيد من الوضوح من أجل فك ألاشتباك و إنهاء حالة التماهي الزائفة بين الفوضى الخلاقة و الثورة الخلاقة لبيان ماهية كل منهما ولنأتي أولاً على آليات عمل الفوضى الخلاقة .

تعتمد الفوضى الخلاقة على أشياء غير واقعية في الصراع فتستلب الإنسان – الإنسان و تحوله إلى الإنسان- العنصر أو الإنسان –الطائفة أو الإنسان – القبيلة و غير ذلك من التوصيفات الإنصهارية و تجعله متصارعا على هذه الأسس ، و هذا ماتراه في الصراع " الإسلامي – القبطي" مثلاً ، أو ما تراه من شعارات مفرغة من المحتوى كحقوق الإنسان و الحرية بشكل عائم " و هي اللهجة المفضلة للخطاب الأمريكي ، و قد شاهدناه على الأرض بشكل مباشر في العراق و أفغانستان ، حيث تسخر هذه الشعارات ضد الأنظمة المعادية لها فيما تصمت صمت القبور إذا ما كانت هذه الشعارات تضر بمصالحها (الحالة التونسية كمثال).

و الملاحظ أيضاً ترافق ذلك مع أعمال همجية و صراعات مسلحة غير مفهومة تدرك قوى الهيمنة تفوقها في ذلك و أنها لا تنتج سوى الرعب و الخراب و إدامة الصراع لتكون ألأوكسجين الذي يسري في عروقها و يمدها بالحياة و كما هو معروف فأن البوم تهوى المناطق الخربة .

هنا يأتي السؤال الخطير : ما هو الجديد الذي جاءت به الثورتان التونسية و المصرية ؟

السمة الأولى المهمة هو الانخراط المليوني الواسع للشباب الذي استطاع تنظيم ذاته بشكل غير تقليدي و بحيوية مذهلة ، و أثبت كفاءته و كفاحيته و إصراره و وعيه و مدنيته و تحضره، مما أذهل الأنظمة الحاكمة و جعلها تتخبط عاجزةً في محاولاتها التعامل مع الإحداث حيث لجأت إلى أساليب القرون الوسطى و إلى المافيات ألإجرامية في مقابل الطابع السلمي الحضاري للثورة . و رغم كل الاستفزازات و الأعمال الوحشية لحكم أنظمة الطبقات الطفيلية، فقد حافظت ثورتي تونس و مصر على طابعهما السلمي المتحضر و حمايتهما لأمن المرافق الحيوية و المدن و ألأحياء بينما كان ممثلوا الأنظمة يحاولون تخريب كل شيء.

هنا تبرز صورتان: الصورة الأولى ، النظام الجديد الكامن في رحم الاحتجاجات الشعبية و هو يبشر بالأمان و الحرية و المجتمع المدني و العدالة الاجتماعية . تقابله الأنظمة السائدة المتخلفة بالتعامل مع الجماهير بكل و حشية.

السمة الأخرى هي سيادة مفهوم الإنسان المواطن مقابل الإنسان المنصهر في فئة او جماعة مغلقة ، و بالتالي المجتمع المتساوي في الحقوق و الواجبات و من ثمة إلغاء الصراعات الوهمية.(لم تشهد مصر أي صراع طائفي منذ اختفاء السلطة الأمنية في مصر.)

السمة الثالثة ، إن التحرك الجماهيري الجذري لم يطال النظام فقط و إنما أيدلوجيته السائدة حيث نشاهد رفضاً و واضحا و مراً للأحزاب التقليدية المعارضة للنظام أو التي تشكل ظله ، و قد قيمتها الجماهير بأنها بدائل تعيد أنتاج النظام بواجهةً أخرى ، أي بتعديلات لا تمس الجوهر.

كخلاصة ختامية، فأن الوعي الجديد ما زال غير متبلور ، و يرجع ذلك إلى أن تراكمات الوعي الكمية لم تنتقل بعد إلى القفزة النوعية ، حيث تطرح الجماهير الثائرة إنها غير سياسية ، و في الحقيقة هي تمارس نشاطاً سياسياً من نوع جديد ينسجم مع الحقيقة الجديدة في التاريخ.إن هذا الاعتراض الجماهيري الكبير عمل سياسي من طراز رفيع. أنه مفهوم جديد للسياسة يحتاج إلى بلورة فكرية و أنماط تنظيمية جديدة سيفرزها هذا الحراك الجماهيري.